الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة ص/(5) من قوله تعالى {ووهبنا لداوود سليمان} الآية 30 إلى قوله تعالى {وإن له عندنا لزلفى} الآية 40

(5) من قوله تعالى {ووهبنا لداوود سليمان} الآية 30 إلى قوله تعالى {وإن له عندنا لزلفى} الآية 40

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  ص

الدَّرس: الخامس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:30-40]

الشيخ : إلى هنا.

يُخبِرُ سبحانه وتعالى عن عبدِهِ ونبيهِ سليمانَ، وأنَّ اللهَ أكرمَ داودَ أنْ أعطاهُ سليمانَ هبةً، وهبَ لَه سليمانَ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ثناءٌ مِن اللهِ على سليمانَ كما أثنى على أبيهِ مِن قبلِهِ {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أيْ: رجَّاعٌ إلى الله.

{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} يعني: حينَ عُرِضَ عليهِ، وهذا أيضاً هذا شيءٌ مِن ثناءِ اللهِ على سليمانَ، شيءٌ مِن ثناءِ اللهِ على سليمانَ ببعضِ طاعاتِهِ، وبحالةٍ مِن حالاتِ رجوعِهِ إلى اللهِ {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} {الصَّافِنَاتُ} يعني: الخيلُ، الجيادُ، عُرِضَتْ {عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} أيْ: في آخرِ النَّهارِ {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}

{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يذكرُ الـمُفسِّرونَ هنا شيئاً أيضاً فيهِ ما فيهِ مِن الغرابةِ والإشكالِ، يذكرونَ أن معنى هذا أنه انشغلَ بنظرِهِ للخيلِ، فهو يُحبُّها؛ لأنَّها وسيلةٌ ومظهرٌ مِن مظاهرِ العِزَّةِ والْمُلْكِ والقوةِ، وأنه انشغلَ بها حتى تأخَّرَ عَن صلاةِ العصرِ وتوارتِ الشمسُ، فَوَجَدَ مِن ذلكَ أَسَفَاً فقالَ: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} الخيل، رُدُّوا عَلَيَّ الخيل {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} هكذا يقولُون، يعني: شَرَعَ يقتلُهَا يمسحُهَا بالسيفِ في سوقِها: في قوائِمِها، وفي أعناقِها، هكذا ذكرُوا.

وبعضُ أهلِ العِلمِ استنكَرُوا هذا ويقولون: ما ذَنْبُ الخيلِ؟ وكيفَ يَفعلُ هذا وفيهِ ما فيهِ مِن الإتلافِ؟ إتلافُ هذهِ النِّعمةِ العظيمةِ، وهذهِ المراكبِ العظيمةِ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}

{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يعني: معنى كلامِهم أنَّه يقولُ: إنِّي انْشَغَلْتُ بِحُبِّ الخيرِ الذي مِنْهُ الخيلُ، (الخيلُ مَعْقودٌ فيها الخيرُ إلى يومِ القيامةِ).

{عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يعني: انشغلتُ عَنْ ذِكْرِ ربي.

ثمَّ قالَ: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}.

والـمُخَالفونَ المستنْكِرونَ لهذهِ الصِفةِ ولهذه القصةِ يقولونَ: هذهِ إسرائيليةٌ لا يُعَوَّل عليها، وأنَّ ظاهرَ الآياتِ أنه عُرِضَتْ عليهِ وأُعْجِبَ بها وأنَّه اهتمَّ بِها؛ لأنَّ الله تعالى رَغَّبَهُ في هذا {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] 

{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يعني: أحْبَبْتُهَا عَن أمرِ اللهِ وذِكرِهِ وتذكيرِهِ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} يعني: شَرعَ يتمتَّعُ بالنَّظرِ إليها ويمسحُ على أعناقِها وعلى سُوقِها، وهذا مما يفعلُهُ مُحِبُّ -مثلاً- شيءٍ مِن الأنعامِ أو الخيلِ، يمسحُ على أعناقِها وعلى ذُرَاهَا وعلى قَوائمِها؛ لأنَّها آيةٌ مِن آياتِ اللهِ، ونِعمةٌ مِن نِعَمِ اللهِ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} ابْتَلَيْنَا سليمانَ حصلَ لَه ابتلاءٌ في مُلْكِهِ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} الله أعلم، وعندَ الـمُفسرينَ فيها كلامٌ وهِيَ مِن الأخبارِ الإسرائيليةِ وأنَّ سليمان ابتُلِيَ في مُلكِهِ بسببِ تَسَلُّطِ بعضِ الشياطينِ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} سليمانُ، أنابَ إلى اللهِ وتوجَّهَ عليهِ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فردَّ اللهُ عليه ملكَه، وزادَه زادَه، زادَه، سَخَّرَ له الريحَ سَخَّرَ له الشياطينَ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ} تعملُ لَه أعمالاً مِن شؤونِ الـمُلكِ {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ} يبنونَ أشياءَ كما فَصَّلَ ذلكَ في سورةِ سبأٍ {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]

{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} يغوصونَ في البحرِ ويستخرجونَ اللؤلؤَ.

{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} شياطينُ {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} مُسَلْسَلِينَ، ولعلَّ هذا لأنَّهم عندَهم تَمَرُّدٌ وعدمُ انصياعٍ للطاعةِ {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}

{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فاللهُ أباحَ لَه أنْ يتصرَّفَ في هؤلاءِ الـمُسَخَّرِينَ، قالَ اللهُ في الآيةِ الأخرى: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] والجنُّ دائبونَ في العمل، حتى أنه لما ماتَ ما دَرَوا عن موتِه حتى سقطَ فلمَّا، في سورة سبأ مَرَّت علينا: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14]

المهم آيةٌ مِن آياتِ اللهِ أنْ سخَّر اللهُ لسليمانَ هذهِ الأمورَ العظيمةَ: سخَّر له الريح، في الآيةِ الأخرى {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِه} [الأنبياء:81] وهنا قالَ: {رُخَاءً}، والظاهرُ أنَّها تارةً تكون رُخَاءً، وتارةً تكونُ عاصفةً وقويةً.

ويذكرُ المفسرون أشياء، وأنَّ سليمانَ إذا أرادَ الانتقالَ هناكَ بِساطٌ عظيمٌ يَصْطَفُّ عليهِ الجنودُ فتحمِلُهُم الريحُ، تحملُهُم الريحُ حيثُ أرادَ {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}

وكذلك ممَّنْ سَخَّرَ لَه: الشياطين -الجنُّ- سَخَّرَهُم لَه يطيعونَه ولا يستطيعونَ أنْ يُخالِفُوا أمرَهُ، ومَنْ يُخالِفْ يُعاقَبْ، الله أكبر!

أمَّا غيرُ سليمان ممن يدَّعونَ أنَّهم يُطيعونَ الجِنَّ، وأنَّ الجِن يطيعونَهم فالغالبُ أنَّ الجن يطيعونهم؛ لأنَّ الإنسَ يُشركونَ بهم ويتقرَّبونَ إليهم، فالجنُّ يُطيعونهم. وهذ ما أشير إليه في قوله: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:128] 

فالإنسُ يستمتعونَ بالجِنِّ: بخدمتِهم، وإحضارِ بعضِ ما يريدونَه، أو يَنْقُلُونَهم مِن مكانٍ إلى مكانٍ، والجِنُّ يستمتعونَ بالإنسِ: بطاعتِهم، وعبادتِهم لهمْ، وطاعةً في معاصي الله.

 

(تفسير السعدي):

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسير قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الآياتُ.

لَمَّا أَثْنَى تَعَالَى عَلَى دَاوُودَ، وَذَكَرَ مَا جَرَى لَهُ وَمِنْهُ، أَثْنَى عَلَى ابْنِهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} أَيْ: أَنْعَمْنَا بِهِ عَلَيْهِ، وَأَقْرَرْنَا بِهِ عَيْنَهُ.

الشيخ : الله أكبر، نبيٌّ ابنُ نبيٍّ، كما وهبَ لموسى أخاهُ هارونَ نبياً، نبيٌّ وأخُ نبيٍ.

القارئ : {نِعْمَ الْعَبْدُ} سليمانُ عليهِ السلامُ، فَإِنَّهُ اتَّصَفَ بِمَا يُوجِبُ الْمَدْحَ

الشيخ : أي؛ {إِنَّهُ أَوَّابٌ}

القارئ : وهو {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أَيْ: رَجَّاعٌ إِلَى الله فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، بِالتَّأَلُّهِ وَالْإِنَابَةِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي مَرْضَاةِ الله،

الشيخ : عليهمُ السلامُ أنبياءُ اللهِ صفوة {الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] مُصطَفَون {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:45-47]

 

القارئ : {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أَيْ: رَجَّاعٌ إِلَى الله فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، بِالتَّأَلُّهِ وَالْإِنَابَةِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي مَرْضَاةِ الله، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

وَلِهَذَا، لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْخَيْلُ الْجِيَادُ السَّبْقُ الصَّافِنَاتُ أَيِ: الَّتِي مِنْ وَصْفِهَا الصُّفُونُ، وَهُوَ رَفْعُ إِحْدَى قَوَائِمِهَا عِنْدَ الْوُقُوفِ، وَكَانَ لَهَا مَنْظَرٌ رَائِقٌ، وَجَمَالٌ مُعْجَبٌ، خُصُوصًا لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا كَالْمُلُوكِ، فَمَا زَالَتْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فِي الْحِجَابِ، فَأَلْهَتْهُ عَنْ صَلَاةِ الْمَسَاءِ وَذِكْرِهِ.

فَقَالَ نَدَمًا عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ، وَتَقْرُّبًا إِلَى الله بِمَا أَلْهَاهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَقْدِيمًا لِحُبِّ الله عَلَى حُبِّ غَيْرِهِ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} وَضَمِنَ {أَحْبَبْتُ} مَعْنَى "آثَرَتْ" أَيْ: آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، الَّذِي هُوَ الْمَالُ عُمُومًا، وَفِي الْمَوْضِعِ الْمُرَادُ الْخَيْلُ {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}

الشيخ : يعني: تَوَارَتْ الشَّمس يعني.

القارئ : {رُدُّوهَا عَلَيَّ} فَرَدُّوهَا {فَطَفِقَ} فِيهَا {مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} أَيْ: جَعَلَ يَعْقِرُهَا بِسَيْفِهِ، فِي سُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا. {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}

الشيخ : هذا مضمونُ ما يذكرُهُ المفسرونَ، وفيهِ ما فيهِ.

القارئ : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُ وَاخْتَبَرْنَاهُ بِذَهَابِ مُلْكِهِ وَانْفِصَالِهِ عَنْهُ بِسَبَبِ خَلَلٍ اقْتَضَتْهُ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} أَيْ: شَيْطَانًا قَضَى الله وَقَدَّرَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّ

الشيخ : يقولُ المفسرون أنه بتدبيرٍ وبحيلةٍ هذا الشيطانُ جلسَ على كرسيهِ وكأنَّهُ سليمانُ، فَراحَ سليمان سليمان ما له أمْرٌ ولا نهيٌ كذا يقولون، وصارَ الشيطان.

قالوا أيضاً: مُلْكُ سليمانَ لَهُ ارتباطٌ بِخَاتَمِهِ، وأنَّ هذا الشيطانَ احتالَ حتى صارَ الخاتَمُ معَه، فصارَ مَظَاهِرُ الـمُلْكِ مدارُها هذا الشيطانُ الجالسُ على كرسيّ سليمانَ، ثم إنَّ اللهَ أبطلَ كيدَ هذا الشيطانِ، وردَّ إلى سليمانَ مُلْكَهُ {عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} والكلامُ في ذلكَ الذنبِ الذي تُشيرُ إليهِ الآيةُ القولُ فيهِ كالقولِ فيما تقدَّم في شأنِ داودَ، أمورٌ طَوَاها اللهُ ولمْ يُفَصِّلْهَا لنا فلا نَتَكَلَّفْ في البحثِ عنها.

 

القارئ : {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} أَيْ: شَيْطَانًا قَضَى الله وَقَدَّرَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّ مُلْكِهِ، وَيَتَصَرَّفَ فِي الْمُلْكِ فِي مُدَّةِ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ، {ثُمَّ أَنَابَ} سُلَيْمَانُ إِلَى الله تَعَالَى وَتَابَ.

فـ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ وَغَفَرَ لَهُ

الشيخ : أرادَ أن يَخُصَّهُ أنْ تكونَ هذهِ كرامةً لَه، وليسَ هذا مِن قبيلِ الحسدِ حاشاهُ عليه السلام، لكنه أرادَ أن يُكرمَهُ ويُميِّزَهُ بهذا الـمُلْكِ الخَاصِّ، هذه رغبتُهُ، رغبتُهُ أنْ يُعْطَى عطاءً يتميَّزُ بِه على غيرِهِ، حتى أنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام راعَى هذا الأمرَ لما عَرَضَ لَه الشيطانُ وهو في الصلاةِ، يعني أقدرَهُ اللهُ على أنه يأخذَ هذا الشيطانَ ويأسرَهُ، ولكنَّهُ لمْ يفعلْ -عليه الصلاة والسلام- مُتَذِكِّراً ومُراعِياً قولَ سليمانَ: {وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي}

 

القارئ : فـ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مُلْكَهُ، وَزَادَهُ مُلْكًا لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ تَسْخِيرُ الشَّيَاطِينَ لَهُ، يَبْنُونَ مَا يُرِيدُ، وَيَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبَحْرِ يَسْتَخْرِجُونَ الدُّرَّ وَالْحُلِيَّ، وَمَنْ عَصَاهُ مِنْهُمْ قَرَّنَهُ فِي الْأَصْفَادِ وَأَوْثَقَهُ.

وَقُلْنَا لَهُ: {هَذَا عَطَاؤُنَا} فَقُرَّ بِهِ عَيْنًا {فَامْنُنْ} عَلَى مَنْ شِئْتَ، {أَوْ أَمْسِكْ} مَنْ شِئْتَ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ وَلَا حِسَابَ، لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِكَمَالِ عَدْلِهِ وَحُسْنِ أَحْكَامِهِ، وَلَا تَحْسَبَنَّ هَذَا لِسُلَيْمَانَ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، بَلْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ عَظِيمٌ.

الشيخ : أخذاً مِن قولِهِ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ثم قالَ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} كمَا قالَه لداودَ أبيهِ.

 

القارئ : وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أَيْ: هُوَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الله الْمُكْرَمِينَ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ لله.

فَصْلٌ فِيمَا تَبَيَّنَ لَنَا مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ

الشيخ : قف على هذا

القارئ : أحسن الله إليك

الشيخ : الله المستعان، لا إله إلا الله، سبحان الله العظيم

داودُ وسليمانُ ذكرَ اللهُ خبرَهُما في عدةِ سورٍ، في سورةِ النملِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]

وذكرَ في سورةِ النملِ أشياءَ مِنْ مظاهرِ الْمُلْكِ {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]

وقصةَ الهدهدِ وما جاءَ بِه مِن النبأِ {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]

وكذلك أُشيرَ إلى شيءٍ مِن ذلكَ في سورةِ سبأ، وكذلكَ في هذهِ السورةِ، وفي سورةِ الأنبياء {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ} [الأنبياء:78-79] عليهمُ السلامُ، سبحان الله! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} [القصص:68].