بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والبَاطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الأوّل
*** *** *** ***
– الشيخ: … فرقان، هذا ما سَبَقَت الإشارةُ إليه، الفرقانُ بينَ الحقِّ والباطل، نعم، من القارئ؟
– القارئ: عبد الرّحمن
– الشيخ: تفضّل يا عبدَ الرّحمن..
هذا الفرقان، يعني بينهُ وبين الكتابِ المُتقدِّمِ قريباً، يعني بينهما فَرقٌ، وإن كان الموضوعُ العامّ واحد، الموضوعُ العامّ واحدٌ: هو الفرقان، لكنّ الأول قال فيه – الشيخ: الفُرقانُ بين أولياءِ الرّحمنِ وأولياءِ الشّيطان، إِذًا مدارهُ على الأشخاص، الفرقانُ بينَ الأشخاصِ، أما "الفرقانُ بين الحقِّ والباطل": فوق، يُعتبرُ كالأصلِ للآخَرِ، فالفُرقانُ بين الحقّ والباطلِ يحصلُ به الفَرقُ بين أولياءِ الرّحمن وأولياءِ الشّيطان، فرق بين الحقِّ والباطلِ، الحق وَتَوَاصَواْ بِٱلحَقِّ الحقُّ والباطلُ ضِدَّانِ، والحقّ هو الموجودُ النّافعُ المرضي لله، والباطلُ يُطلق على المعدومِ والضَّالّ وما يُبغضُه الله.
والحقُّ والباطلُ الذي يريدُ الشيخُ تقريرَ الفرقِ بينهما: هو ما يتعلّقُ بالاعتقاداتِ وبالأعمال، فالاعتقاداتُ منها ما هو حقٌّ صحيحٌ، وهو من عندِ الله، ومنها ما هو باطلٌ من وحي الشّيطانِ. وكذلك كلّ الأعمالِ منها ما هو حقّ وهو ما أمرَ الله به وشَرَعَهُ، ومنها ما هو باطلٌ وهو ما يُبغضُه اللهُ وما نهى عنه سبحانه وتعالى، وهكذا.
فأولياءُ اللهِ إذًا: هم أهلُ الحقِّ اعتقاداً وعملاً وخُلُقاً، هم أهلُ الحقّ، لهذا قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] وأعداءُ الله هم أهلُ الباطل، اعتقاداتٌ باطلةٌ، وأعمالٌ خبيثةٌ باطلةٌ، وأخلاقٌ خبيثةٌ سيئةٌ، فأولياءُ الله هم أهلُ الحقّ، وأعداءُ الله هم أهلُ الباطل.
ومضمونُ هذا الكتاب أعني "الفرقانُ بين الحقّ والباطل"، أو البُطلان، هو يعني موضوعُه كالأصلِ لموضوعِ الكتابِ الثاني.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى اللهُ وسلّمَ وبارك على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهمّ اغفر لنا ولشيخِنا يا ربّ العالمين، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحمد بنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِيمَا صَنَّفَهُ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ أَخِيرًا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ..
– الشيخ: يذكرُ المحقّقون والمؤرِّخون لمؤلَّفاتِ – الشيخ: أنَّ هذا الكتابَ ألَّفهُ في القلعة، آخرِ سجنه، سُجن فيها في القلعة، يُعتبرُ هذا مِيزةٌ لهذا الكتاب، يعني من خواتيمِ عملِه، لأنّه ماتَ في هذا السّجن. توفّيَ رحمهُ الله بعد تأليفِه هذا الكتاب، فهو من خواتيمِ عملِه، رحمه الله وتغمَّدهُ بالرّحمة والغُفران. الله أكبر، سبحان الذي يُؤتي فضلَه من يشاء.
– القارئ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فَهُوَ المهتد، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
فَصْلٌ فِي الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ ذَلِكَ بِكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ، فَمَنْ كَانَ أَعْظَمَ اتِّبَاعًا لِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَنَبِيِّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ كَانَ أَعْظَمَ فُرْقَانًا، وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْفُرْقَانِ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، كَاَلَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ عِبَادَةُ الرَّحْمَنِ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَالنَّبِيُّ الصَّادِقُ..
– الشيخ: لا تستعجل، لا تستعجل
– القارئ: سمعاً يا شيخ
– الشيخ: لا تستعجل، الله أكبر. يُؤصِّلُ الشّيخُ ويقول: الفرقانُ بين الحقّ والباطل مُقتضى الكتابِ والسُّنَّةِ، فبهما وبمعرفتِهِما وما دلّا عليه يَحُصلُ الفرقانُ للعبد، يحصلُ الفرقان، يكون عند العبد فُرقان إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] اللهُ بيَّنَ في كتابه، وبيَّنَ الرّسولُ صلّى الله عليه وسلم، يعني الحقَّ، وميَّز، وبيَّن الحق، وبيَّن الباطل، يعني طريقين، بيَّن طريقَ السّعادةِ والنّجاة والفلاح، وطريقَ الضّلالِ والهلَكَة والشِّقْوة، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]
يقولُ – الشيخ: فمن كانَ أعلمَ بكتابِ اللهِ وسنّة رسولِه، كانَ أعظمَ فُرقاناً بين الأضداد، بين الحقّ والباطلِ وبينَ أولياءِ الله وأعداءِ الله، ومن كان أبعدَ كان أقلَّ فُرقاناً بحسبِ بُعدهِ وجهله بكتاب الله وسنَّة رسوله. وينبغي للمسلمِ أن، هذا الفُرقان معناه أنّه، طريقُ الفرقانِ هو العلمُ إذن، العلمُ بكتاب الله وسنَّةِ رسوله، فبحسبِ علمِ العبدِ بهما، وعنايتهِ بهما يكونُ حظُّهُ من الفرقان.
– القارئ: أحسنَ الله إليكم قال رحمه الله:
وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْفُرْقَانِ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، كَاَلَّذِين اشْتَبَهَ عَلَيْهِم عِبَادَةُ الرَّحْمَنِ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، وَالنَّبِيُّ الصَّادِقُ بِالْمُتَنَبِّئِ الْكَاذِبِ، وَآيَاتُ النَّبِيِّينَ بِشُبُهَاتِ الْكَذَّابِينَ، حَتَّى اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ.
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ، فَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ..
– الشيخ: شكِّل، ففرَّقَ
– القارئ: أي نعم يا شيخ، تشديد الرّاء
أحسنَ اللهُ إليكم، فَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَطَرِيقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ السُّعَدَاءِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ الْأَشْقِيَاءِ، وَبَيَّنَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّونَ قَبْلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]
وَقَالَ تَعَالَى: تَٱللَّهِ لَقَد أَرسَلنَآ إِلَىٰٓ أُمَم مِّن قَبلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيطَٰنُ أَعمَٰلَهُم فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱليَومَ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيم*وَمَآ أَنزَلنَا عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱختَلَفُواْ فِيهِ وَهُدى وَرَحمَة لِّقَوم يُؤمِنُونَ [النحل:63-64]
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]
وَقَالَ تَعَالَى: الٓمٓ*ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ*نَزَّلَ عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ بِٱلحَقِّ مُصَدِّقا لِّمَا بَينَ يَدَيهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّورَىٰةَ وَٱلإِنجِيلَ*مِن قَبلُ هُدى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلفُرقَانَۗ [آل عمران:1-4]
قَالَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْقُرْآنُ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ..
– الشيخ: تصديقُه تبارك َالذي نزَّل الفرقانَ على عبده، وأنزلَ الفرقانَ أي: القرآنَ، كما في السُّورة الأخرى. قال جماهيرُ المفسّرين: المرادُ بالفرقانِ القرآن. إذًا الفرقانُ: اسمٌ من أسماءِ القرآن، اسمٌ من أسمائه، وسيأتي بيانُ حقيقةِ الفُرْقانِ أنّه مصدرٌ: فَرَقَ يَفْرِقُ فُرْقَاناً، فالقرآنُ اسمه الفرقان، لأنّ فيه الفرقان، فيه ما يحصل به الفُرقان، فرقانٌ بالبيان، وفرقانٌ في العلم والاعتقاد، فأقول: عندي، عند هذا فرقان، يعني على علمٍ وبصيرةٍ وفرْق يفرِق فيه، به بينَ الحقّ والباطل، وأقول: أنّه يحفظُ الفرقانَ، يعني يحفظ القرآن، فالفرقانُ اسمٌ لكلامِ الله الذي أنزلَه على عبدِه ورسوله، وسُمِّي فُرقاناً لأنّه مُتضمِّن للفرقان الذي هو الفَرْق.
– القارئ: أحسن الله إليكم، رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الْفُرْقَانُ القرآن فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ ومُقْسَم وقتادة وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ وَرُوِيَ بإسنادِهِ عن شيبان عن قتادة في قَوْلِهِ: وَأَنزَلَ ٱلفُرقَانَ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيَّنَ فِيهِ دِينَهُ وَشَرَعَ فِيهِ شَرَائِعَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ وَحَدَّ حُدُودَهُ وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: وَأَنزَلَ ٱلفُرقَانَ قَالَ: هُوَ كِتَابٌ بِحَقِّ. و"الْفُرْقَانُ" مَصْدَرُ فَرَقَ فُرْقَانًا مِثْلُ..
– الشيخ: أي، ميِّز، ميِّز، اللي بعده مُستأنَف من كلام الشيخ، نعم
– القارئ: و"الْفُرْقَانُ": مَصْدَرُ فَرَقَ فُرْقَانًا، مِثْلُ الرُّجْحَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَانِ، وَكَذَلِكَ "الْقُرْآنُ" هُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَرَأَ قُرْآنًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُۥ وَقُرءَانَهُۥ*فَإِذَا قَرَأنَٰهُ فَٱتَّبِع قُرءَانَهُۥ*ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ [القيامة:17-19]
وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ نَفْسُهُ "قُرْآنًا" وَهُوَ كَثِيرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ تَكْلِيمًا وَتَكَلَّمَ تَكَلُّمًا، وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ نَفْسُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ بِفِعْلٍ مِنْهُ وَحَرَكَةٍ هِيَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ، وَحَصَلَ عَنْ الْحَرَكَةِ صَوْتٌ يُقَطَّعُ حُرُوفًا هُوَ نَفْسُ التَّكَلُّمِ، فَالْكَلَامُ وَالْقَوْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا؛ وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ تَارَةً يُجْعَلُ نَوْعًا مِنْ الْعَمَلِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَتَارَةً يُجْعَلُ قَسِيمًا لَهُ إذَا أُرِيدَ به مَا يُتَكَلَّمُ بِهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِع. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ لَفْظَ "القرآن"..
– الشيخ: الله أكبر، الله أكبر، يكون القولُ والعمل، ويكون القولُ قَسِيمَ العملِ، وتارةً يكون يعني نفسُ الكلامِ هو عملٌ، هذا الكلامُ عملٌ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ [السجدة:17]، يشملُ ما صدرَ عنهم من الكلام، وأفعالِ الجوارح، بل وأعمالِ القلوب، فالعملُ يشملُ أعمالَ الجوارحِ ومنها الّلسان، ومن الجوارح اللسان، وأعمال القلوب، جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال: وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ لَفْظَ "الفرقان" إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْفَصْلَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا مُنَزَّلٌ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ فِي الْكِتَابِ الْفَصْلَ، وَإِنْزَالُ الْفَرْقِ هُوَ إنْزَالُ الْفَارِقِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْفُرْقَانِ مَا يُفَرِّقُ فَهُوَ الْفَارِقُ أَيْضًا، فَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْفُرْقَانِ نَفْسُ الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ إنْزَالُهُ كَإِنْزَالِ الْإِيمَانِ، وَإِنْزَالِ الْعَدْل، ِفَإِنَّهُ جَعَلَ فِي الْقُلُوبِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِالْقُرْآنِ كَمَا جَعَلَ فِيهَا الْإِيمَانَ وَالْعَدْلَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ، وَالْمِيزَانُ قَدْ فُسِّرَ بِالْعَدْلِ، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا يُوزَنُ بِهِ لِيُعْرَفَ الْعَدْلُ، وَهُوَ كَالْفُرْقَان، ِيُفَسَّرُ بِالْفَرْقِ، وَيُفَسَّرُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَرْقُ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ..
– الشيخ: يُفَسَّرُ بِالفَرْق ومَا يَحصُلُ به الْفَرْقُ
– القارئ: فَإِذَا أُرِيدَ الْفَرْقُ نَفْسُهُ فَهُوَ نَتِيجَةُ الْكِتَابِ وَثَمَرَتُهُ وَمُقْتَضَاهُ، وَإِذَا أُرِيدَ الْفَارِقُ فَالْكِتَابُ نَفْسُهُ هُوَ الْفَارِقُ، وَيَكُونُ لَهُ اسْمَانِ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الْأُخْرَى. سُمِّيَ كِتَابًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَجْمُوعٌ مَكْتُوبٌ تُحْفَظُ حُرُوفُهُ وَيُقْرَأُ وَيُكْتَبُ، وَسُمِّيَ فُرْقَانًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا تَقَدَّمَ..
– الشيخ: … عندك؟
– القارئ: لبيك
– الشيخ: يُفرِّق؟
– القارئ: أي نعم يا شيخ
– الشيخ: … مشددة؟
– القارئ: أي مشدّدة الراء بالكسر
كَمَا سُمِّيَ "هُدًى" بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ، و"شِفَاءً" بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَشْفِي الْقُلُوبَ مِنْ مَرَضِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ..
– الشيخ: هذه أسماءٌ وصفاتٌ، أسماءٌ وصفاتٌ للقرآن، هُدَى، وشفاء، والفرقان، وقرآن، وكتاب، فهي أسماءٌ لمسمّىً واحدٍ، ولكنّ كلّ اسمٍ يدلُّ على معنى وعلى صفةٍ، فالقرآنُ اسمه: "كتاب"؛ لأنه مكتوبٌ في الّلوح، ومكتوبٌ في المصاحفِ التي في أيدي الملائكة، ومكتوبٌ في صُحُفِ المسلمين، فهو كتابٌ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً [البينة:2] و"قرآن"؛ لأنه يُقرأ ويُظْهَرُ بالبيان والنطق فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] يُسمى "فرقان"؛ لأنه به يحصل الفرْق. وكلُّ اسمٍ مُتضمِّنٌ لصفة، وهو "هدى" لأنّه يَحصلُ به الاهتداءُ إلى الطريق القويمِ والمستقيم.
– القارئ: أحسن الله إليكم قال رحمه الله:
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ "الرَّسُولِ" كَالمُقفِّي وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ، وَكَذَلِكَ "أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى" كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْمَلِكِ وَالْحَكِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْعَطْفُ يَكُونُ لِتَغَايُرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى*الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3] وَقَوْلِهِ: هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلبَاطِنُ [الحديد:3] وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَزَّلَ الْكِتَابَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ مُتَفَرِّقًا، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ..
– الشيخ: وهنا يقول
– القارئ: وهنا ذَكَرَ
– الشيخ: آيةُ آل عمرانَ كأنّه يريدُ أنْ يُنبِّه على الفرْق بين "أنزَل" و"نزَّل"، وجاء هذا في قوله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبلُۚ [النساء:136] الآيةُ في سورة النّساءِ متوافقةٌ في هذا مع الآية الأولى في سورة آلِ عمران قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ [آل عمران:2-3] فكثيراً ما يُضافُ التّنزيلُ إلى الكتاب الذي هو القرآنُ المُنزَّلُ على محمّدٍ، ويُعبَّرُ عن التّوراةِ والإنجيل بالإنزال.
ولأنّ السِّرَّ في هذا أنّ القرآنَ نُزِّل مُنجَّماً: شيئاً بعد شيء، تنزيل تنزيل، فيُخبر عن القرآن بأنّه: "مُنزَّل" وأنّه "مُنزَل" كذا، فنجدُ أنّ الآيةَ جاءت بالفرق، الآيتين سورة النساء وسورة آل عمران دلَّتا على الفرق بين أنْزَل ونزَّل.
– الطالب: …
– الشيخ: أنزلَ الكتاب، اي، قلت لك: يُعبَّر عن القرآن يُعبَر عنه بالاثنين
– الطالب: … آية الفرقان وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32]
– الشيخ: صحيح هذه ترد على هذا، لكن، يعني هذا هذه ترد، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32] لكن نقولُ: هذا هو الأغلب
– طالب: … الآية هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ [آل عمران:7]
– الشيخ: قلتُ لك عن القرآن يُعبَّرُ بهذا وهذا، نعم..
– القارئ: أحسن الله إليكم. قال رحمه الله: وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَزَّلَ الْكِتَابَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ مُتَفَرِّقًا، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، وَقَدْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْإِيمَانَ. وَ"المِيزَانُ" مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَانُ أَيْضًا كَمَا يَحْصُلُ بِالْقُرْآنِ، وَإِذَا أُنْزِلَ الْقُرْآنَ حَصَلَ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْفُرْقَانُ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48] قيلَ: الْفُرْقَانُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَقِيلَ هُوَ الْحُكْمُ بِنَصْرِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِن كُنتُم ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلنَا عَلَىٰ عَبدِنَا يَومَ ٱلفُرقَانِ [الأنفال:41]
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: قَد جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُور وَكِتَٰب مُّبِين [المائدة:15] قِيلَ: "النُّورُ" هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174] قِيلَ: "الْبُرْهَانُ" هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ هُوَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وَالْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ تَتَنَاوَلُ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ هُنَاكَ جَاءَ بِلَفْظ ِآتَيْنَا وَجَاءَكُمْ وَهُنَا قَالَ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ، فَلِهَذَا شَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْبُرْهَانَ يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ كَمَا حَصَلَ بِالْقُرْآنِ، وَيَحْصُلُ بِالنَّظَرِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِأَنْ يُنَجِّيَ هَؤُلَاءِ وَيَنْصُرَهُمْ وَيُعَذِّبَ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا يُفَرِّقُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ بِالْإِحْسَانِ إلَى هَؤُلَاءِ وَعُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: إِن كُنتُم ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلنَا عَلَىٰ عَبدِنَا يَومَ ٱلفُرقَانِ يَومَ ٱلتَقَى ٱلجَمعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيء قَدِيرٌ [الأنفال:41] قَالَ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ..
– الشيخ: الفرقانُ يكون بالعلم ويكون.. الفرقانُ من الله يكون بالعلم المُنزَّل، ويكون أيضاً بالتدبير الكوني. يوم الفرقان الذي هو يوم بدر، فَرَقَ فيه بين أوليائِه وأعدائه بنصرِ رسولِهِ والمؤمنين، وبهلاكِ وخِزي أعدائِهم من المشركين، هذا الفرقان أيضاً، فرقان، هذا فرقانٌ كوني، وذاك فرقان شرعي بياني علمي.
– القارئ: أحسن الله إليكم. قَالَ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمُ بَدْرٍ فَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ومقسم وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالضَّحَّاكِ وقتادة وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ أَكْثَرُهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجا أَيْ: مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ. قَالَ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجعَل لَّكُم فُرقَانا أَيْ مَخْرَجًا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وقتادة والسُّدي وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانٍ كَذَلِكَ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: مَخْرَجاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَصْراً. قَالَ: وَفِي أحد قَوْلي ابْنِ عَبَّاسٍ والسدي: نَجَاةً.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ يَجعَل لَّكُم فُرقَانا أَيْ: فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ يُظْهِرُ اللَّهُ بِهِ حَقَّكُمْ وَيُطْفِئُ بِهِ بَاطِلَ مَنْ خَالَفَكُمْ.
وَذَكَرَ البغوي عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: مَخْرَجاً فِي الدِّين مِنْ الشُّبُهَاتِ. لَكِنْ قَدْ يَكُونُ هَذَا تَفْسِيرًا لِمُرَادِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ الْمَخْرَجُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْمَعْنَى يَجْعَلْ لَكُمْ مَخْرَجًا فِي الدِّينِ مِنْ الضَّلَالِ وَلَيْسَ مُرَادَهُمْ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ الْمَخْرَجُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجا [الطلاق:2] وَالْفُرْقَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَآ أَنزَلنَا عَلَىٰ عَبدِنَا يَومَ ٱلفُرقَانِ [الأنفال:41] وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: هُدًى فِي قُلُوبِهِمْ يَعْرِفُونَ بِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ.
– الشيخ: يعني منهم من يُفسِّره بالمخرج العلمي والتمييز والفُرقان العلمي، ومنهم من يُفسِّره بالمخرج بالفرقان الكوني، بالنَّصْري والخِذلاني، النَّصري لأوليائه، والخِذلاني لأعدائه، فعباراتهم دائرة على هذا.
– القارئ: أحسن الله إليكم قال رحمه الله: وَنَوْعَا الْفُرْقَانِ فُرْقَانُ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَالنَّصْرِ وَالنَّجَاةِ..
– الشيخ: الهدى والبيان هذا الفرقانُ العلمي، نعم..
– القارئ: هُمَا نَوْعَا "الظُّهُورِ" فِي قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33] يُظْهِرُهُ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ وَيُظْهِرُ بِالْيَدِ وَالْعِزِّ وَالسِّنَانِ.
وَكَذَلِكَ "السُّلْطَانُ" فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء:80] فَهَذَا النَّوْعُ وَهُوَ الْحُجَّةُ وَالْعِلْمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم:35] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غافر:56] وَقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23]
وَقَدْ فُسِّرَ "السُّلْطَانُ" بِسُلْطَانِ الْقُدْرَةِ وَالْيَدِ، وَفُسِّرَ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، فَمِن الْفُرْقَانِ مَا نَعَتَهُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءۚ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤمِنُونَ * ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكتُوبًا عِندَهُم فِي ٱلتَّورَىٰةِ وَٱلإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَىٰهُم عَنِ ٱلمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ ٱلخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَٱلأَغلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَت عَلَيهِمۚ [الأعراف: 156-157]
فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، أَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ هَذَا وَبَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا. وَمِنْ "الْفُرْقَانِ" أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ الْمُهْتَدِينَ الْمُؤْمِنِينَ.