الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب الفرقان بين الحق والباطل/(8) فصل القران والحديث إذا فسر من جهة النبي “قوله وفي الجملة الذين رموا الإرجاء”
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(8) فصل القران والحديث إذا فسر من جهة النبي “قوله وفي الجملة الذين رموا الإرجاء”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الثّامن

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، اللهُمَّ اغفر لنا ولشيخِنا وللمسلمين، قَالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ تعالى:
وَفِي الجُملَةِ الَّذِينَ رُمُوا بِالإِرجَاءِ مِن الأَكَابِرِ؛ مِثلِ طَلقِ بنِ حَبِيبٍ وَإِبرَاهِيمَ التيمي وَنَحوِهِمَا: كَانَ إرجَاؤُهُم مِن هَذَا النَّوعِ، وَكَانُوا أَيضًا لَا يَستَثنُونَ فِي الإِيمَانِ..

– الشيخ: يعني لا يقولونَ: "أنا مؤمنٌ إن شاءَ اللهُ" بل يَرونَ الجزمَ بدونِ تعليقٍ، أنا مؤمنٌ، لكن ماذا يقولون عن الاستثناءِ؟ فيقولون أنَّه جائزٌ ولّا يُحرِّمونَه؟ لأنَّ بعضَ المُرجِئةِ يقولون: يَحرُمُ أن تقول: إن شاء الله، لأنَّ هذا نوعُ شكٍّ، أن تقولَ: "أنا مؤمنٌ إن شاءَ اللهُ".
والقولُ الآخَرُ -وهو قولُ جُمهورِ أهلِ السُّنَّةِ- يقولون: لا تقُل أنا مؤمن إن شاءَ اللهُ، قُل أنا، لا تقُل أنا مؤمنٌ، بل قل مؤمنٌ إن شاءَ اللهُ، فإذا قال لك قائل: أنت مُؤمنٌ؟ فقُل: أنا ُأُومنٌ باللهِ ورسولِه، أو تقول: أنا مؤمنٌ إن شاءَ اللهُ، فهذا من بابِ الاحترازِ عن تزكيةِ النَّفس.
– طالب: أحسنَ اللهُ إليكم، عدمُ الاستثناء من أقوالِ أهلِ السنَّة، لا بأسَ بهذا القول، أحسن الله إليكم، يعني – الشيخ: يقولُ: من جزمَ بما في نفسِهِ. – الشيخ كأنَّهُ يرى جوازَ ذلكَ، يقولُ: من جزمَ بما في نفسِهِ، ولم يقل ذلكَ يعني تزكيةً لها فلا بأس.
– الشيخ: ويش يقول يعني أنا مؤمن؟
– طالب: أي نعم
 
– القارئ: أحسنَ الله إليكم، قال رحمهُ اللهُ:
وَكَانُوا يَقُولُونَ: الإِيمَانُ هُوَ الإِيمَانُ المَوجُودُ فِينَا، وَنَحنُ نَقطَعُ بِأَنَّا مُصَدِّقُونَ، وَيَرَونَ الِاستِثنَاءَ شَكًّا، وَكَانَ عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعُودٍ وَأَصحَابُهُ يَستَثنُونَ، وَقَد رُوِيَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَن ذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ بَعضُ أَصحَابِ مُعَاذٍ مَا قَالَ، لَكِنَّ أَحمَدَ أَنكَرَ هَذَا، وَضَعَّفَ هَذَا الحَدِيثَ، وَصَارَ النَّاسُ فِي الِاستِثنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقوَالٍ: قَولٌ أَنَّهُ يَجِبُ الِاستِثنَاءُ وَمَن لَم يَستَثنِ كَانَ مُبتَدِعًا. وَقَولٌ أَنَّ الِاستِثنَاءَ مَحظُورٌ؛ فَإِنَّهُ يَقتَضِي الشَّكَّ فِي الإِيمَانِ. وَالقَولُ الثَّالِثُ أَوسَطُهَا وَأَعدَلُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاستِثنَاءُ بِاعتِبَارِ، وَتَركُهُ بِاعتِبَارِ؛ فَإِذَا كَانَ مَقصُودُهُ أَنِّي لَا أَعلَمُ أَنِّي قَائِمٌ بِكُلِّ مَا أَوجَبَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَأَنَّهُ يَقبَلُ أَعمَالِي؛ لَيسَ مَقصُودُهُ الشَّكَّ فِيمَا فِي قَلبِهِ؛ فَهَذَا استِثنَاؤُهُ حَسَنٌ، وَقَصدُهُ أَن لَا يُزَكِّيَ نَفسَهُ وَأَن لَا يَقطَعَ بِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا كَمَا أُمِرَ فَقُبِلَ مِنهُ، وَالذُّنُوبُ كَثِيرَةٌ وَالنِّفَاقُ مَخُوفٌ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ.
قَالَ ابنُ أَبِي مُلَيكَةَ: أَدرَكتُ ثَلَاثِينَ مِن أَصحَابِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُم يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفسِهِ، لَا يَقُولُ وَاحِدٌ مِنهُم إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبرِيلَ وميكائيل. وَالبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ بَوَّبَ أَبوَابًا فِي الإِيمَانِ وَالرَّدِّ عَلَى المُرجِئَةِ، وَقَد ذَكَرَ بَعضُ مَن صَنَّفَ فِي هَذَا البَابِ مِن أَصحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ كَرِهُوا أَن يَقُولُ الرَّجُلُ: إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبرِيلَ وميكائيل -قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُم أَفضَلُ يَقِينًا-، أَو إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبرِيلَ، أَو إيمَانِي كَإِيمَانِ أَبِي بَكرٍ أَو كَإِيمَانِ هَذَا، وَلَكِن يَقُولُ آمَنت بِمَا آمَنَ بِهِ جِبرِيلُ وَأَبُو بَكرٍ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصحَابُهُ لَا يُجَوِّزُونَ الِاستِثنَاءَ فِي الإِيمَانِ، بِكَونِ الأَعمَالِ مِنهُ، وَيَذُمُّونَ المُرجِئَةَ. وَالمُرجِئَةُ عِندَهُم الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ الفَرَائِضَ وَلَا اجتِنَابَ المَحَارِمِ.

– الشيخ: أعوذُ باللهِ! هذا مرجئةُ الغُلاة، ولهذا يُميَّزون أبو حنيفةَ ومن، يُميّزونَ بمُرجِئةِ الفقهاءِ، والآخرُ هو قولُ جَهمٍ، الذين يُعبَّر عن مذهبهم، أو يُعبِّرون يقولون: لا يضرُّ مع الإيمانِ ذنبٌ. أما مُرجئةُ الفقهاءِ فيقولون بوجوبِ الواجباتِ وتحريمِ المحرَّماتِ وأنَّها تُوجِبُ، تركُ الواجباتِ وفعلُ المحرَّماتِ يُوجِبُ العقابَ، لكنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ. ترتَّبَ على قولهم هذا أنَّ الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقُصُ، ما دام هو التَّصديقُ. والصَّوابُ أنَّ الإيمانَ شاملٌ لاعتقادِ القلبِ وعملِ القلبِ وعملِ الجوارحِ، وأنَّه يزيدُ وينقصُ. حتى التصديقَ يزيدُ وينقصُ، ويقوى ويضعفُ، التّصديق، فهل تصديقُ أبي بكرٍ كتصدِيقِ آحادِ النَّاسِ؟! كما جاءَ على لسانِ بعضِ السَّلفِ قولُه إنَّ أبا بكرٍ ما سبقَ غيرَهُ بكثرةِ صومٍ أو صلاةٍ، وإنَّما هو أمرٌ وقرَ في قلبِه، إيمان، إيمان أرسى وأثقلُ وأعظمُ من الجبال.

– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال رحمهُ اللهُ:
بَل يَكتَفُونَ بِالإِيمَانِ، وَقَد عُلِّلَ تَحرِيمُ الِاستِثنَاءِ فِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعلِيقُهُ عَلَى الشَّرطِ؛ لِأَنَّ المُعَلَّقَ عَلَى الشَّرطِ لَا يُوجَدُ إلَّا عِندَ وُجُودِهِ، كَمَا قَالُوا فِي قَولِهِ: أَنتِ طَالِقٌ إن شَاءَ اللَّهُ. فَإِذَا عُلِّقَ الإِيمَانُ بِالشَّرطِ كَسَائِرِ المُعَلَّقَاتِ بِالشَّرطِ؛ لَا يَحصُلُ إلَّا عِندَ حُصُولِ الشَّرطِ.
قَالُوا: وَشَرطُ المَشِيئَةِ الَّذِي يَتَرَجَّاهُ القَائِلُ لَا يَتَحَقَّقُ حُصُولُهُ إلَى يَومِ القِيَامَةِ، فَإِذَا عَلَّقَ العَزمَ بِالفِعلِ عَلَى التَّصدِيقِ وَالإِقرَارِ فَقَد ظَهَرَت المَشِيئَةُ وَصَحَّ العَقدُ فَلَا مَعنَى لِلِاستِثنَاءِ؛ وَلِأَنَّ الِاستِثنَاءَ عَقِبَ الكَلَامِ يَرفَعُ الكَلَامَ؛ فَلَا يُبقَى الإِقرَارُ بِالإِيمَانِ وَالعَقدُ مُؤمِنًا، وَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ هَذَا القَائِلُ القَارِنُ بِالِاستِثنَاءِ عَلَى الإِيمَانِ بَقَاءَ التَّصدِيقِ وَذَلِكَ يُزِيلُهُ.
قُلت: فَتَعلِيلُهُم فِي المَسأَلَةِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِيمَن يُعَلِّقُ إنشَاءَ الإِيمَانِ عَلَى المَشِيئَةِ، كَاَلَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسلَامِ فَيُقَالُ لَهُ: آمِن. فَيَقُولُ: أَنَا أُؤمِنُ إن شَاءَ اللَّهُ، أَو آمَنتُ إن شَاءَ الله، أَو أَسلَمتُ إن شَاءَ اللَّهُ، أَو أَشهَدُ إن شَاءَ اللَّهُ أَن لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشهَدُ إن شَاءَ اللَّهُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاَلَّذِينَ استَثنَوا مِن السَّلَفِ وَالخَلَفِ لَم يَقصِدُوا فِي الإِنشَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَ استِثنَاؤُهُم فِي إخبَارِهِ عَمَّا قَد حَصَلَ لَهُ مِن الإِيمَانِ فَاستَثنَوا، إمَّا أَنَّ الإِيمَانَ المُطلَقَ يَقتَضِي دُخُولَ الجَنَّةِ وَهُم لَا يَعلَمُونَ الخَاتِمَةَ كَأَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ: أَنتَ مُؤمِنٌ. قِيلَ لَهُ: أَنتَ عِندَ اللَّهِ مُؤمِنٌ مِن أَهلِ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا كَذَلِكَ إن شَاءَ اللَّهُ. أَو لِأَنَّهُم لَا يَعرِفُونَ أَنَّهُم أَتَوا بِكَمَالِ الإِيمَانِ الوَاجِبِ. وَلِهَذَا كَانَ مِن جَوَابِ بَعضِهِم إذَا قِيلَ لَهُ أَنتَ مُؤمِنٌ: آمَنتُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، فَيَجزِمُ بِهَذَا وَلَا يُعَلِّقُهُ، أَو يَقُولُ: إن كُنتَ تُرِيدُ الإِيمَانَ الَّذِي يَعصِمُ دَمِي وَمَالِي فَأَنَا مُؤمِنٌ، وَإِن كُنت تُرِيدُ قَولَهُ: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4] وَقَولَهُ: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم فِي سَبِيلِ اللَّهِ  أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15] فَأَنَا مُؤمِنٌ إن شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا الإِنشَاءُ فَلَم يَستَثنِ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا شُرِعَ الِاستِثنَاءُ فِيهِ؛ بَل كُلُّ مَن آمَنَ وَأَسلَمَ آمَنَ وَأَسلَمَ جَزمًا بِلَا تَعلِيقٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي المَسأَلَةِ قَد يَكُونُ لَفظِيًّا؛ فَإِنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ هَؤُلَاءِ غَيرُ الَّذِي استَحسَنَهُ وَأَمَرَ بِهِ أُولَئِكَ، وَمَن جَزَمَ بِمَا فِي قَلبِهِ مِن الحَالِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَافِي تَعلِيقَ الكَمَالِ وَالعَاقِبَةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ عِندَهُم الأَعمَالُ لَيسَت مِن الإِيمَانِ فَصَارَ الإِيمَانُ هُوَ الإِسلَامَ عِندَ أُولَئِكَ. وَالمَشهُورُ عِندَ أَهلِ الحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُستَثنَى فِي الإِسلَامِ، وَهُوَ المَشهُورُ عندَ أَحمَد، وَقَد رُوِيَ عَنهُ فِيهِ الِاستِثنَاءُ كَمَا قَد بُسِطَ هَذَا فِي شَرحِ حَدِيثِ جِبرِيلَ وَغَيرِهِ مِن نُصُوصِ الإِيمَانِ الَّتِي فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَلَو قَالَ لِامرَأَتِهِ أَنتِ طَالِقٌ إن شَاءَ اللَّهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشهُورٌ، وَقَد رَجَّحنَا التَّفصِيلَ؛ وَهُوَ أَنَّ الكَلَامَ يُرَادُ بِهِ شَيئَانِ: يُرَادُ بِهِ إيقَاعُ الطَّلَاقِ تَارَةً، وَيُرَادُ بِهِ مَنعُ إيقَاعهِ تَارَةً، فَإِن كَانَ مُرَادُهُ أَنتِ طَالِقٌ بِهَذَا اللَّفظِ. فَقَولُهُ: إن شَاءَ اللَّهُ مِثلُ قَولِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَد شَاءَ اللَّهُ الطَّلَاقَ حِينَ أَتَى بِالتَّطلِيقِ فَيَقَعُ، وَإِن كَانَ قَد عَلَّقَ لِئَلَّا يَقَعَ، أَو عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ تُوجَدُ بَعدَ هَذَا لَم يَقَع بِهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ بَعدَ هَذَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ شَاءَ اللَّهُ أَن تُطَلَّقَ. وَقَولُ مَن قَالَ المَشِيئَةُ تُنجِزُهُ لَيسَ كَمَا قَالَ، بَل نَحنُ نَعلَمُ قَطعًا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا إذَا َطُلِّقَت المَرأَةُ، بِأَن يُطَلِّقَهَا الزَّوجُ أَو مَن يَقُومُ مَقَامَهُ مِن وَلِيٍّ أَو وَكِيلٍ، فَإِذَا لَم يُوجَد تَطلِيقٌ لَم يَقَع طَلَاقٌ قَطُّ، فَإِذَا قَالَ أَنتِ طَالِقٌ إن شَاءَ اللَّهُ وَقَصَدَ حَقِيقَةَ التَّعلِيقِ لَم يَقَع إلَّا بِتَطلِيقٍ بَعدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ تَعلِيقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ الآنَ، وَأَمَّا إن قَصَدَ إيقَاعَهُ الآنَ وَعَلَّقَهُ بِالمَشِيئَةِ تَوكِيدًا وَتَحقِيقًا فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ.
وَمَا أَعرِفُ أَحَدًا أَنشَأَ الإِيمَانَ فَعَلَّقَهُ عَلَى المَشِيئَةِ، فَإِذَا عَلَّقَهُ فَإِن كَانَ مَقصُودُهُ أَنَا مُؤمِنٌ إن شَاءَ اللَّهُ: أَنَا أُومِنُ بَعدَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَم يَصِر مُؤمِنًا، مِثلَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: هَل تَصِيرُ مِن أَهلِ دِينِ الإِسلَامِ؟ فَقَالَ أَصِيرُ إن شَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا لَم يُسلِم بَل هُوَ بَاقٍ عَلَى الكُفرِ. وَإِن كَانَ قَصدُهُ إنّي قَد آمَنت وَإِيمَانِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ؛ صَارَ مُؤمِنًا، لَكِنَّ إطلَاقَ اللَّفظِ يَحتَمِلُ هَذَا وَهَذَا، فَلَا يَجُوزُ إطلَاقُ مِثلِ هَذَا اللَّفظِ فِي الإِنشَاءِ، وَأَيضًا فَإِنَّ الأَصلَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعَلَّقُ بِالمَشِيئَةِ مَا كَانَ مُستَقبَلًا، فَأَمَّا المَاضِي وَالحَاضِرُ فَلَا يُعَلَّقُ بِالمَشِيئَةِ. وَاَلَّذِينَ استَثنَوا لَم يَستَثنُوا فِي الإِنشَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، كَيفَ وَقَد أُمِرُوا أَن يَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَالأَسبَاطِ [البقرة:136]، وَقَالَ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَبِّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، فَأَخبَرَ أَنَّهُم آمَنُوا، فَوَقَعَ الإِيمَانُ مِنهُم قَطعًا بِلَا استِثنَاءٍ.
وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَن يَقُولَ: ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِلَا استِثنَاءٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيهِ بَينَ المُسلِمِينَ، مَا استَثنَى أَحَدٌ مِن السَّلَفِ قَطُّ فِي مِثلِ هَذَا، وَإِنَّمَا الكَلَامُ إذَا أَخبَرَ عَن نَفسِهِ بِأَنَّهُ مُؤمِنٌ كَمَا يُخبِرُ عَن نَفسِهِ بِأَنَّهُ بَرٌّ تَقِيٌّ، فَقَولُ القَائِلِ لَهُ: أَنتَ مُؤمِنٌ؟ هُوَ عِندَهُم كَقَولِهِ: هَل أَنتَ بَرٌّ تَقِيٌّ؟ فَإِذَا قَالَ: أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ فَقَد زَكَّى نَفسَهُ. فَيَقُولُ: إن شَاءَ اللَّهُ، وَأَرجُو أَن أَكُونَ كَذَلِكَ.
وَذَلِكَ أَنَّ الإِيمَانَ التَّامَّ يَتَعَقَّبُهُ قَبُولُ اللَّهِ لَهُ وَجَزَاؤُهُ عَلَيهِ وَكِتَابَةُ المُلكِ لَهُ، فَالِاستِثنَاءُ يَعُودُ إلَى ذَلِكَ لَا إلَى مَا عَلِمَهُ هُوَ مِن نَفسِهِ وَحَصَلَ وَاستَقَرَّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ تَعلِيقُهُ بِالمَشِيئَةِ؛ بَل يُقَالُ: هَذَا حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَفَضلِهِ وَإِحسَانِهِ، وَقَولُهُ فِيهِ "إن شَاءَ اللَّهُ" بِمَعنَى إذا شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ تَحقِيقٌ لَا تَعلِيقٌ.
وَالرَّجُلُ قَد يَقُولُ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ كَذَا إن شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ جَازِمٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ، فَالمُعَلَّقُ هُوَ الفِعلُ كَقَولِهِ: لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] وَاَللَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُم سَيَدخُلُونَهُ، وَقَد يَقُولُ الآدَمِيُّ: "لَأَفعَلَنَّ كَذَا إن شَاءَ اللَّهُ"، وَهُوَ لَا يَجزِمُ بِأَنَّهُ يَقَعُ لَكِن يَرجُوهُ، فَيَقُولُ: "يَكُونُ إن شَاءَ اللَّهُ"، ثُمَّ عَزمُهُ عَلَيهِ قَد يَكُونُ جَازِمًا وَلَكِن لَا يَجزِمُ بِوُقُوعِ المَعزُومِ عَلَيهِ، وَقَد يَكُونُ العَزمُ مُتَرَدِّدًا مُعَلَّقًا بِالمَشِيئَةِ أَيضًا، وَلَكِن مَتَى كَانَ المَعزُومُ عَلَيهِ مُعَلَّقًا لَزِمَ تَعلِيقُ بَقَاءِ العَزمِ، فَإِنَّهُ بِتَقدِيرِ أَنَّ تَعلِيقَ العَزمِ ابتِدَاءً أَو دَوَامًا فِي مِثلِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَم يَحنَث المُطَلِّقُ المُعَلِّقُ، وَحَرفُ "إن" لَا يُبقِي العَزمَ فَلَابُدَّ إذَا دَخَلَ عَلَى المَاضِي صَارَ مُستَقبَلًا، تَقُولُ: إن جَاءَ زَيدٌ كَانَ كَذَلِكَ، كما في قوله: فَإِن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا [ البقرة:137]، وقوله: إِنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]
وَإِذَا أُرِيدَ المَاضِي دَخَلَ حَرفُ "كان" كَقَولِهِ: قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]، فَيُفَرِّقُ بَينَ قَولِهِ: أَنَا مُؤمِنٌ إن شَاءَ اللَّهُ، وَبَينَ قَولِهِ إن كَانَ اللَّهُ شَاءَ إيمَانِي.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقصُودُهُ أَنِّي لَا أَعلَمُ بِمَاذَا يُختَمُ لِي، كَمَا قِيلَ لِابنِ مَسعُودٍ: إنَّ فُلَانًا يَشهَدُ أَنَّهُ مُؤمِنٌ. قَالَ: فَليَشهَد أَنَّهُ مِن أَهلِ الجَنَّةِ، فَهَذَا مُرَادُهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ مُؤمِنٌ عِندَ اللَّهِ يَمُوتُ عَلَى الإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ إن كَانَ مَقصُودُهُ أَنَّ إيمَانِي حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَمَن لَم يَستَثنِ قَالَ: "أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِ قَلبِي" فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِ إذَا لَم يُزَكِّ نَفسَهُ وَيَقطَعُ بِأَنَّهُ عَامِلٌ كَمَا أُمِرَ وَقَد تَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَإِن لَم يَقُل إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبرِيلَ وَأَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ وَنَحوَ ذَلِكَ مِن أَقوَالِ المُرجِئَةِ، كَمَا كَانَ مِسعَرُ بنُ كِدام يَقُولُ: أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي. قَالَ أَحمَد: وَلَم يَكُن مِن المُرجِئَةِ؛ فَإِنَّ المُرجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الأَعمَالُ لَيسَت مِن الإِيمَانِ، وَهُوَ كَانَ يَقُولُ: هِيَ مِن الإِيمَانِ لَكِن أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي. وَكَانَ الثَّورِيُّ يَقُولُ لِسُفيَانَ بنِ عُيينة: أَلَا تَنهَاهُ عَن هَذَا فَإِنَّهُما مِن قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَد بُسِطَ الكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيرِ هَذَا المَوضِعِ. وَالمَقصُودُ هُنَا..
– الشيخ:
إلى هنا يكفي، حَسبُك.
اللهُ المستعانُ، اللهُ المستعانُ، على كل حال نزاعاتٌ سبحانَ اللهِ يعني بين من يَنظرون إلى دَلالاتِ الألفاظِ فقط، ولكن لابُدَّ من النّظرِ للسياقِ، لسِياقُ الكلامِ، مثلَ ما قال – الشيخ: واحد يبي يُسلِم جديد يقول: أنا أؤمنُ إن شاءَ اللهُ، يريدُ يعني التَّعليقَ؛ إذا شاءَ اللهُ آمنت. وبين واحدٍ مُسلِمٍ وللهِ الحمدُ يقول: أنا مؤمنٌ إن شاء الله. إذا قيلَ له أنتَ مؤمنٌ؟ قال: إن شاءَ اللهُ، يعني مثلَ من يقول: أنا أرجو ذلك، يعني تخلُّصاً وبُعداً عن تزكيةِ نفسِهِ، أو يعدلُ عن قولهِ مؤمنٌ، يقول: نعم أنا أؤمنُ باللهِ، أمّا أن يقولَ: أؤمنُ باللهِ وأُسلمُ إن شاء الله؛ فهذا لا يكونُ، كلّ الدك وهذهِ الآراءُ كلّها في قولِ العبدِ: أنا مؤمنٌ إن شاءَ الله، المؤمنُ الذي ولله الحمد يعني هو في عِدادِ المسلمينَ معروفٌ أنَّه لا يريدُ، لا يُريد أنَّهُ شاكٌّ في إيمانِه، ولا أنَّه يريدُ إنشاءَ الإيمانِ، إنّما، وهذا جاري الآن عند النَّاس الاستثناءاتٌ، يقول: أنت صلّيت؟ عامةُ المسلمين الّلي عندهم النَّزعةُ هذي، أنت صلَّيت؟ هو صلّى ترى، فيقول: إن شاء الله، يُريدُ يعني أنَّه شاكٌّ في صلاتِهِ، يعني صلّى أو ما صلّى؟
– القارئ: لأ
– الشيخ:
لأ، يريدُ معنى القَبولِ، يعني إن شاءَ اللهُ صلّيتُ الصلاةَ المقبولةَ، صلِّيتُ الصلاةَ المَرضيَّةَ، عندَ اللهِ إن شاءَ اللهُ، نرجو، نعم، من بعده.
– القارئ: شيخنا سلَّمكَ الله، بقي سطرينِ ويتمُّ كلامَ المُرجئةِ ثم يدخلُ في مذهبِ الجَهميَّةِ نقرأهُ ولّا نرجئ؟
– الشيخ: نعم، اقرأه، نعم
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال:
وَالمَقصُودُ هُنَا: أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا كَانَ بَينَ أَهلِ العِلمِ وَالدِّينِ مِن جِنسِ المُنَازَعَةِ فِي كَثِيرٍ مِن الأَحكَامِ، وَكُلُّهُم مِن أَهلِ الإِيمَانِ وَالقُرآنِ. انتهى.

– الشيخ: لا إلهَ إلَّا الله، لا إلهَ إلّا الله، نعم يا شيخ … نعم، تقرأ أنت يا محمّد؟
– طالب: أي نعم
– الشيخ:
الله يقويك
– طالب: في الحديثِ الّلي مرّ في كتابِ ابنِ كثيرٍ لفظةُ: "وللشاهدِ عليه خمسٌ وعشرونَ درجةً" أخرجها الإمامُ أحمد.
– الشيخ: بهذا اللفظ؟
– طالب: بهذا اللفظ
– الشيخ: عجيب!
– طالب: وأحمد شاكر يقولُ: إسنادُهُ صحيحٌ من روايةِ أبي هريرةَ، والألباني في صحيحِ ابنِ ماجه: "وشاهدُ الصَّلاةِ يُكتبُ له خمسٌ وعشرونَ حسنةً"
– الشيخ:
هذا شاهدُ الصَّلاةِ، هذا ما في إشكال، بس الشَّاهد عليه هذا هو اللي، هذا اللفظ ما، غريب يعني، نعم
– طالب: – الشيخ الألبانيُّ في الجامعِ الصَّغيرِ وزيادتِه أخرجَ هذا الحديثَ بلفظ "خمس وعشرين درجة" وقال: حديثٌ حسن.
– الشيخ:
طيِّب، لكن ما تكلَّمنا على قولةِ "الشّاهدُ عليه"، والمعنى يَؤُول إلى هذا، يَؤُولُ إلى أنَّ المُرَادَ شاهدُ الصَّلاةِ: حاضرُها، المُرَاد: من يحضُرُ صلاةَ الجماعةِ، يعني وهو في الذي أجابَ المؤذِّنَ، أجابَ المؤذنَ قولاً وفعلاً لشهودِ الصَّلاة.
 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة