بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الثّاني عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ وسلَّم وباركَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين، اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين يا ربَّ العالمين، قال شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ تعالى:
والمقصودُ هُنَا: أَنَّ السَّلَفَ كَانَ اعتِصَامُهُم بِالقُرآنِ وَالإِيمَانِ، فَلَمَّا حَدَثَ فِي الأُمَّةِ مَا حَدَثَ مِن التَّفَرُّقِ وَالِاختِلَافِ صَارَ أَهلُ التَّفَرُّقِ وَالِاختِلَافِ شِيَعًا، صَارَ هَؤُلَاءِ عُمدَتُهُم فِي البَاطِنِ لَيسَت عَلَى القُرآنِ وَالإِيمَانِ وَلَكِن عَلَى أُصُولٍ ابتَدَعَهَا شُيُوخُهُم، عَلَيهَا يَعتَمِدُونَ فِي التَّوحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالقَدَرِ وَالإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَغَيرِ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ يُوَافِقُهَا مِن القُرآنِ احتَجُّوا بِهِ وَمَا خَالَفَهَا تَأَوَّلُوهُ؛ فَلِهَذَا تَجِدُهُم إذَا احتَجُّوا بِالقُرآنِ وَالحَدِيثِ لَم يَعتَنُوا بِتَحرِيرِ دَلَالَتِهِمَا، وَلَم يَستَقصُوا مَا فِي القُرآنِ مِن ذَلِكَ المَعنَى؛ إذ كَانَ اعتِمَادُهُم فِي نَفسِ الأَمرِ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ.
وَالآيَاتُ الَّتِي تُخَالِفُهُم يَشرَعُونَ فِي تأويلها شُرُوعَ مَن قَصَدَ رَدَّهَا كَيفَ أَمكَنَ؛ ليسَ مَقصُودُهُ أَن يُفهَمَ مُرَادَ الرَّسُولِ؛ بَل أَن يَدفَعَ مُنَازِعَهُ عَن الِاحتِجَاجِ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنهُم كَأَبِي الحُسَينِ البَصرِيِّ وَمَن تَبِعَهُ كالرازي والآمدي وَابنِ الحَاجِبِ: "إنَّ الأُمَّةَ إذَا اختَلَفَت فِي تأويل الآيَةِ عَلَى قَولَينِ جَازَ لِمَن بَعدَهُم إحدَاثُ قَولٍ ثَالِثٍ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا اختَلَفُوا فِي الأَحكَامِ عَلَى قَولَينِ." فَجَوَّزُوا أَن تَكُونَ الأُمَّةُ مُجتَمِعَةً عَلَى الضَّلَالِ فِي تَفسِيرِ القُرآنِ وَالحَدِيثِ، وَأَن يَكُونَ اللَّهُ أَنزَلَ الآيَةَ وَأَرَادَ بِهَا مَعنًى لَم يَفهَمهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ وَلَكِن قَالُوا: إنَّ اللَّهَ أَرَادَ مَعنًى آخَرَ.
وَهُم لَو تَصَوَّرُوا هَذِهِ المَقَالَةَ لَم يَقُولُوا هَذَا؛ فَإِنَّ أَصلَهُم أَنَّ الأُمَّةَ لَا تَجتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ وَلَا يَقُولُونَ قَولَينِ كِلَاهُمَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ قَولٌ ثَالِثٌ لَم يَقُولُوهُ، لَكِن قَد اعتَادُوا أَن يَتَأَوَّلُوا مَا خَالَفَهُم.
والتّأويلُ عِندَهُم مَقصُودُهُ بَيَانُ احتِمَالٍ فِي لَفظِ الآيَةِ بِجَوَازِ أَن يُرَادَ ذَلِكَ المَعنَى بِذَلِكَ اللَّفظِ، وَلَم يَستَشعِرُوا أَنَّ المُتَأَوِّلَ هُوَ مُبَيِّنٌ لِمُرَادِ الآيَةِ مُخبِرٌ عَن اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا المَعنَى إذَا حَمَلَهَا عَلَى مَعنى. وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا يَجُوزُ أَن يُرَادَ بِهَا هَذَا المَعنَى، وَالأُمَّةُ..
– الشيخ: فالمؤوِّلُ الذي يُفسِّرُ النُّصوصَ بخلافِ ما تنزلُ عليهِ ليدفعَ مُعارضَتها لمذهبِه وعقيدتِه؛ تأويله معناه: أنَّ هذا مرادُ اللهِ، هذا مرادُ اللهِ من هذهِ الآياتِ، وبهذا يكون مفترياً على الله.
فزعمُهُ هذا وحكمُهُ على اللهِ بأنَّه أرادَ هذا المعنى المُخالِفِ لظاهرِ النَّصِّ ليسَ بأقبحِ من ردِّ الآيَةِ؛ لأنَّه إذا جحدَ معناهُ الظّاهرَ، وحمّلها معنًى آخرَ، وزعمَ أنَّ هذا مُرادُ اللهِ؛ فقد افترى على اللهِ وباءَ بإثم ذلك، الكَذِبُ على اللهِ هو أعظمُ ما يكونُ من الكذبِ، الكذبُ على اللهِ ورسولِه، الحديث: (من كَذِبَ عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعدَهُ من النَّار).
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال رحمهُ الله:
وكَذَلِكَ إذَا قَالُوا يَجُوزُ أَن يُرَادَ بِهَا هَذَا المَعنَى، وَالأُمَّةُ قَبلَهُم لَم يَقُولُوا أُرِيدَ بِهَا إلَّا هَذَا أَو هَذَا؛ فَقَد جَوَّزُوا أَن يَكُونَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ لَم يُخبِر بِهِ الأُمَّةَ، وَأخبَرَت أَنَّ مُرَادَهُ غَيرُ مَا أَرَادَهُ؛ لَكِن الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ يَتَمَشَّى إذَا كَانَ التّأويلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَن يُرَادَ هَذَا المَعنَى مِن غَيرِ حُكمٍ بِأَنَّهُ مُرَادٌ، وَتَكُونُ الأُمَّةُ قَبلَهُم كُلُّهَا كَانَت جَاهِلَةً بِمُرَادِ اللَّهِ، ضَالَّةً عَن مَعرِفَتِهِ، وَانقَرَضَ عَصرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُم لَم يَعلَمُوا مَعنَى الآيَةِ.
وَلَكِن طَائِفَة قَالَت: يَجُوزُ أَن يُرِيدَ هَذَا المَعنَى، وَطَائِفَة قَالَت يَجُوزُ أَن يُرِيدَ هَذَا المَعنَى، وَلَيسَ فِيهِم مَن عَلِمَ المُرَادَ، فَجَاءَ الثَّالِثُ وَقَالَ: هَاهُنَا مَعنَى يَجُوزُ أَن يَكُونَ هُوَ المُرَادَ. فَإِذَا كَانَت الأُمَّةُ مِن الجَهلِ بِمَعَانِي القُرآنِ، وَالضَّلَالِ عَن مُرَادِ الرَّبِّ بِهَذِهِ الحَالِ؛ تَوَجَّهَ مَا قَالُوهُ. وَبَسطُ هَذَا لَهُ مَوضِعٌ آخَرُ.
والمَقصُودُ: أَنَّ كَثِيرًا مِن المُتَأَخِّرِينَ لَم يَصِيرُوا يَعتَمِدُونَ فِي دِينِهِم لَا عَلَى القُرآنِ وَلَا عَلَى الإِيمَانِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ بِخِلَافِ السَّلَفِ، فَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ أَكمَلَ عِلمًا وَإِيمَانًا، وَخَطَؤُهُم أَخَفَّ، وَصَوَابُهُم أَكثَرَ كَمَا قَدَّمنَاهُ، وَكَانَ الأَصلُ الَّذِي أَسَّسُوهُ هُوَ مَا أَمَرَهُم اللَّهُ بِهِ فِي قَولِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] فَإِنَّ هَذَا أَمرٌ لِلمُؤمِنِينَ بِمَا وَصَفَ بِهِ المَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحمَنُ وَلَدًا سُبحَانَهُ بَل عِبَادٌ مُكرَمُونَ * لَا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ*يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم وَلَا يَشفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارتَضَى وَهُم مِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ*وَمَن يَقُل مِنهُم إِنِّي إِلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:26-29]
فَوَصَفَهُم سُبحَانَهُ بِأَنَّهُم لَا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَأَنَّهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ، فَلَا يُخبِرُونَ عَن شَيءٍ مِن صِفَاتِهِ وَلَا غَيرِ صِفَاتِهِ إلَّا بَعدَ أَن يُخبِرَ سُبحَانَهُ بِمَا يُخبِرُ بِهِ؛ فَيَكُونُ خَبَرُهُم وَقَولُهُم تَبَعًا لِخَبَرِهِ وَقَولِهِ كَمَا قَالَ سبحانه: لَا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ [الأنبياء:27] وَأَعمَالُهُم تَابِعَةٌ لِأَمرِهِ؛ فَلَا يَعمَلُونَ إلَّا مَا أَمَرَهُم هُوَ أَن يَعمَلُوا بِهِ؛ فَهُم مُطِيعُونَ لِأَمرِهِ سُبحَانَهُ.
وَقَد وَصَفَ سُبحَانَهُ بِذَلِكَ مَلَائِكَةَ النَّارِ فَقَال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ [التحريم:6] وَقَد ظَنَّ بَعضُهُم أَنَّ هَذَا تَوكِيدٌ، وَقَالَ بَعضُهُم: بَل لَا يَعصُونَهُ فِي المَاضِي وَيَفعَلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي المُستَقبَلِ. وَأَحسَنُ مِن هَذَا وَهَذَا أَنَّ العَاصِيَ هُوَ المُمتَنِعُ مِن طَاعَةِ الأَمرِ مَعَ قُدرَتِهِ عَلَى الِامتِثَالِ، فَلَو لَم يَفعَل مَا أُمِرَ بِهِ لِعَجزِهِ لَم يَكُن عَاصِيًا. فَإِذَا قَالَ: لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ لَم يَكُن فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُم يَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ؛ فَإِنَّ العَاجِزَ لَيسَ بِعَاصٍ وَلَا فَاعِلٍ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَقَالَ: وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَى فِعلِ مَا أُمِرُوا بِهِ فَهُم لَا يَترُكُونَهُ لَا عَجزًا وَلَا مَعصِيَةً. والمأمورُ إنَّمَا يَترُكُ مَا أُمِرَ بِهِ لِأَحَدِ هَذَينِ: إمَّا أَن لَا يَكُونَ قَادِرًا، وَإِمَّا أَن يَكُونَ عَاصِيًا لَا يُرِيدُ الطَّاعَةَ، فَإِذَا كَانَ مُطِيعًا يُرِيدُ طَاعَةَ الآمِرِ وَهُوَ قَادِرٌ وَجَبَ وُجُودُ فِعلِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَكَذَلِكَ المَلَائِكَةُ المَذكُورُونَ لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ وَقَد وَصَفَ المَلَائِكَةَ بِأَنَّهُم..
– الشيخ: المعصية، هذا معنًى يعني حسن، وهو: لا يعصونَ اللهَ ما أمرَهم ويفعلونَ ما يؤمرون، يعني ما فائدةُ الجملةِ الثّانيةِ؟ قال بعضُهم: إنّها مُجرَّد تأكيد، لكن ليس فيها معنًى جديد.
ولكنّ التّحقيقَ هو الذي يعني رجَّحَهُ – الشيخ، وهو أنَّ قولَه: لَا يَعصُونَ اللَّهَ لا يَلزمُ من عَدمِ المعصيةِ فِعلَ المأمُورِ، أي أنّه قد يفعلُ، قد لا يفعلُ المأمور، قد لا يفعلُ ما أُمِرَ به لا لمعصيتِهِ بل لعجزِه.
فلهذا قال: وَيَفعَلُونَ فهم لا يعصونَ اللهَ ويفعلونَ ما أُمِروا به طاعةً لله سبحانَه وتعالى. وعلى هذا فمن يفعلُ المأمُورَ ليسَ بعاصٍ، ومن لا يفعلُ المأمورَ عجزاً ليس بعاصٍ. من يفعلُ المأمورَ طاعةً هذا مُطيعٌ ليس بعاصٍ، ومن لا يفعل المأمور عجزاً أيضاً هو ليس بعاصٍ، فتركُ الفعلِ إما أن يكونَ للمعصيةِ أو للعجزِ، ومن تركَ فعلَ المأمورِ عجزاً فهو معذورٌ، ومن تركهُ معصيةً فهو آثِمٌ.
– القارئ: أحسن الله إليكم، وَقَد وَصَفَ المَلَائِكَةَ بِأَنَّهُم عِبَادٌ مُكرَمُونَ * لَا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ * يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم وَلَا يَشفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارتَضَى وَهُم مِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ * وَمَن يَقُل مِنهُم إِنِّي إِلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:26-29] فَالمَلَائِكَةُ مُصَدِّقُونَ بِخَبَرِ رَبِّهِم مُطِيعُونَ لِأَمرِهِ، وَلَا يُخبِرُونَ حَتَّى يُخبِرَ، وَلَا يَعمَلُونَ حَتَّى يأمرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ [الأنبياء:27]
وَقَد أَمَرَ اللَّهُ المُؤمِنِينَ أَن يَكُونُوا مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ البَشَرَ لَم يَسمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنهُ؛ بَل بَينَهُم وَبَينَهُ رَسُولٌ مِن البَشَرِ، فَعَلَيهِم أَن لَا يَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ مَا بَلَّغَهُم عَن اللَّهِ، وَلَا يَعمَلُونَ إلَّا بِمَا أَمَرَهُم بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] قَالَ مُجَاهِدٌ رحمه الله: لَا تفتاتوا عَلَيهِ بِشَيءِ حَتَّى يَقضِيَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ. تُقَدِّمُوا مَعنَاهُ: تَتَقَدَّمُوا، وَهُوَ فِعلٌ لَازِمٌ. وَقَد قُرِئَ تَقَدَّمُوا يُقَالُ: قَدَّمَ وَتَقَدَّمَ، كَمَا يُقَالُ: بَيَّنَ وَتَبَيَّنَ. وَقَد يُستَعمَلُ "قَدَّمَ" مُتَعَدِّيًا، أَي قَدَّمَ غَيرَهُ، لَكِن هُنَا هُوَ فِعلٌ لَازِمٌ فـَ لَا تُقَدِّمُوا مَعنَاهُ: لَا تَتَقَدَّمُوا بَينَ يَدَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَعَلَى كُلِّ مُؤمِنٍ أَن لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيءٍ مِن الدِّينِ إلَّا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا يَتَقَدَّمُ بَينَ..
– الشيخ: لا يُحرّمُ إلّا ما حرَّمَ اللهُ، ولا يُحِلُّ إلا ما أحلَّهُ اللهُ، ولا يُوجبُ إلّا ما أوجبُه اللهُ. على المؤمنِ أن يكونَ حُكمُهُ على الأشياءِ تَبَعاً لحُكمِ اللهِ، ولا يتقدَّمُ بين يدي اللهِ ورسولِه، فيستعجلُ ويُحلّلُ مالم يُحلّلهُ اللهُ ورسولُه، أو يُوجبُ أو يَستحبُّ. قال المفسرون: لا تقولوا حتى يقول، لَا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: لا تقولوا حتى يقولَ، ولا تأمروا إلا بما أمرَ اللهُ، ولا تنهوا إلّا عمّا نهى عنه.
– القارئ: أحسنَ الله إليكم، وَلَا يَتَقَدَّمُ بَينَ يَدَيهِ؛ بَل يَنظُرُ مَا قَالَ فَيَكُونُ قَولُهُ تَبَعًا لِقَولِهِ وَعَمَلُهُ تَبَعًا لِأَمرِهِ؛ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحسَانِ وَأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ؛ فَلِهَذَا لَم يَكُن أَحَدٌ مِنهُم يُعَارِضُ النُّصُوصَ بِمَعقُولِهِ، وَلَا يُؤَسِّسُ دِينًا غَيرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَإِذَا أَرَادَ مَعرِفَةَ شَيءٍ مِن الدِّينِ وَالكَلَامِ فِيهِ: نَظَرَ فِيمَا قَالَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ؛ فَمِنهُ يَتَعَلَّمُ وَبِهِ يَتَكَلَّمُ وَفِيهِ يَنظُرُ وَيَتَفَكَّرُ وَبِهِ يَستَدِلُّ؛ فَهَذَا أَصلُ أَهلِ السُّنَّةِ. وأهل..
– الشيخ: هذا طيب جميل
– القارئ: قال رحمهُ الله: فَلِهَذَا لَم يَكُن أَحَدٌ مِنهُم يُعَارِضُ النُّصُوصَ بِمَعقُولِهِ، وَلَا يُؤَسِّسُ دِينًا غَيرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَإِذَا أَرَادَ مَعرِفَةَ شَيءٍ مِن الدِّينِ وَالكَلَامِ فِيهِ: نَظَرَ فِيمَا قَالَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ؛ فَمِنهُ يَتَعَلَّمُ وَبِهِ يَتَكَلَّمُ وَفِيهِ يَنظُرُ وَيَتَفَكَّرُ وَبِهِ يَستَدِلُّ؛ فَهَذَا أَصلُ أَهلِ السُّنَّةِ.
وَأَهلُ البِدَعِ لَا يَجعَلُونَ اعتِمَادَهُم فِي البَاطِنِ وَنَفسِ الأَمرِ عَلَى مَا تَلَقَّوهُ عَن الرَّسُولِ؛ بَل عَلَى مَا رَأَوهُ أَو ذَاقُوهُ، ثُمَّ إن وَجَدُوا السُّنَّةَ تُوَافِقُهُ وَإِلَّا لَم يُبَالُوا بِذَلِكَ؛ فَإِذَا وَجَدُوهَا تُخَالِفُهُ أَعرَضُوا عَنهَا تَفوِيضًا أَو حَرَّفُوهَا تأويلا، فَهَذَا هُوَ الفُرقَانُ بَينَ أَهلِ الإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَأَهلِ النِّفَاقِ وَالبِدعَةِ، وَإِن كَانَ هَؤُلَاءِ لَهُم مِن الإِيمَانِ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِن اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، لَكِنَّ فِيهِم مِن النِّفَاقِ وَالبِدعَةِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمُوا فِيهِ بَينَ يَدَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ إن لَم يَعلَمُوا..
– الشيخ: وهذه، وهذه كلمةٌ يعني تتضمَّنُ العدلَ في الحُكمِ على كثيرٍ من طوائفِ المُتكلِّمين، هم يُريدونَ الحقَّ ولكنّه أخطأهُ، ولهذا يقولُ – الشيخ أنّهم لهم نصيبٌ وافرٌ وكثيٌر من الإيمان، وهم يُؤمنونَ باللهِ ورسولِهِ ويُعظِّمونَ يعني القرآنَ ويُعظِّمونَ الرّسولَ ويُعظِّمونَ الصّحابةَ، لكنّهم مُخلِّطونَ، مثلَ العُصاةِ، مثلَ عُصاةِ المسلمينَ في الأمورِ العمليَّةِ، فهؤلاءِ المُخالفونَ منهم العُصاةُ ومنهم المُخطئونَ، أي نعم خطأ، وقرَّرَ شيخُ الإسلامِ في مواضعَ أنَّ الخطأَ أيضاً مغفورٌ حتى في المسائلِ الاعتقاديةِ إذا كان الواحدُ أصلُهُ معرفةُ الحقِّ، أما المُعاندُ المُتعصِّبُ فهذا يتحمَّلُ، يحمِلُ من الوزرِ بحسبِ حالِه.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال: لَكِنَّ فِيهِم مِن النِّفَاقِ وَالبِدعَةِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمُوا فِيهِ بَينَ يَدَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ إن لَم يَعلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الرَّسُولَ وَلَو عَلِمُوا لَمَا قَالُوهُ؛ لَم يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَل نَاقِصِي الإِيمَانِ مُبتَدِعِينَ، وَخَطَؤُهُم مَغفُورٌ لَهُم لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيهِ وَإِن نَقَصُوا بِهِ.
فَصلٌ: فكُلُّ مَن خَالَفَ..
– الشيخ: كفى يا أخي
– القارئ: جزاكَ اللهُ كلَّ خير.