الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب الفرقان بين الحق والباطل/(18) الجن مأمورون ومنهيون كالإنس “قوله النوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله”
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(18) الجن مأمورون ومنهيون كالإنس “قوله النوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الثامن عشر

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين، اللهمَّ اغفر لنا ولشيخِنا وللمسلمين يا ربَّ العالمين، قال شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ تعالى:
والنَّوعُ الثَّالِثُ: أَن يَستَعمِلَهُم فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُستَعمَلُ الإِنسُ فِي مِثلِ ذَلِكَ؛ فَيأمرهُم بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيَنهَاهُم عَمَّا نَهَاهُم اللَّهُ عَنهُ وَرَسُولُهُ؛ كَمَا يأمر الإِنسَ وَيَنهَاهُم.
وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَحَالُ مَن اتَّبَعَهُ وَاقتَدَى بِهِ مِن أُمَّتِهِ وَهُم أَفضَلُ الخَلقِ؛ فَإِنَّهُم يأمرونَ الإِنسَ وَالجِنَّ بِمَا أَمَرَهُم اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ..
– الشيخ:
يعني إذا قُدِّرَ أنَّه يظهرُ له جِنِّيٌّ أو يقرأ على مصروعٍ يأمرُهُ وينهاهُ، هذا معناه، هنا الجنّ وينهم؟ ما في. إذا بُلِيَ الإنسانُ ببعضِ الجِنِّ في مكانِه أو في منزلِه؛ يُنكِرُ عليهم ويأمرُهُم بطاعةِ اللهِ، يقول: اتّقوا اللهَ، لا تُؤذونَ إخوانَكم إن كنتم مسلمين. يأمرُهُم بالإسلامِ إن كانوا غيرَ مسلمين، هذا معناه، ولَّا وين؟ وين الجن؟ الجنُّ من عالَمِ الغيبِ، الأصلُ كذا إِنَّهُ يَرَاكُم هُوَ وَقَبِيلُهُ مِن حَيثُ لاَ تَرَونَهُم [الأعراف:27]
لكن إذا حصلَ للإنسانِ مواقف ظهرَ له فيها جنّ، أو صارَ يعني هناك طريقٌ لدعوتِهم وأمرِهِم ونهيهِم: فعليه أن يأمرَ، ولَّا الأصل.. الرّسولُ عليه الصّلاةُ والسّلامُ يعني الشيُء الظَّاهرُ هو يعني أكثرُ مجالِسهِ وأكثرُ اجتماعاتِه ولقائِه وعملِه يعني كلّهُ مع الأنس، والجنُّ حصلَ بعضُ المواقفِ؛ كالّذينَ أخبرَ اللهُ عنهم حين جاؤوا يستمعونَ القرآن:َ وَإِذ صَرَفنَا إِلَيكَ نَفَرًا مِّنَ الجِنِّ يَستَمِعُونَ القُرآنَ [الأحقاف:29] قُل أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعنَا قُرآنًا عَجَبًا [الجن:1] الآيات.
 
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال رحمهُ اللهُ تعالى: وَيَنهَونَ الإِنسَ والجنَّ عَمَّا نَهَاهُم اللَّهُ عَنهُ وَرَسُولُهُ؛ إذ كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَبعُوثًا بِذَلِكَ إلَى الثَّقَلَينِ الإِنسِ وَالجِنِّ، وَقَد قَالَ اللَّهُ لَهُ: قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ [يوسف:108] وَقَالَ: قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]
وَعُمَرُ لَمَّا نَادَى يَا سَارِيَةُ الجَبَلَ، قَالَ: إنَّ لِلَّهِ..

– الشيخ: يَا سَارِيَةَ الجَبَلَ
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم
– الشيخ: اصبر، يَا سَارِيَةُ: صح، يَا سَارِيَةُ الجَبَلَ، يعني: عليكَ بالجبلِ، نعم، ساريةُ: علمٌ مُفردٌ، يُبنَى على الضّم.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليك، وَعُمَرُ لَمَّا نَادَى يَا سَارِيَةُ الجَبَلَ، قَالَ: إنَّ لِلَّهِ جُنُودًا يُبَلِّغُونَ صَوتِي. وَجُنُودُ اللَّهِ هُم مِن المَلَائِكَةِ، وَمِن صَالِحِي الجِنِّ، فَجُنُودُ اللَّهِ بَلَّغُوا صَوتَ عُمَرَ إلَى سَارِيَةَ؛ وَهُوَ أَنَّهُم نَادَوهُ بِمِثلِ صَوتِ عُمَرَ، وَإِلَّا نَفسُ صَوتِ عُمَرَ لَا يَصِلُ نَفسُهُ فِي هَذِهِ المَسَافَةِ البَعِيدَةِ.
– الشيخ: وقد يصلُ على حَسَبِ تصوّرِ، أظن ممكن يصلُ، أصلاً الآنَ أصبحَ من الأسبابِ التي أقدَرَ الله عليها الخلقَ، يصلُ الصّوتُ، ها هو الآن، الاتصالاتُ يصِلُ إليك الصَّوتُ من أبعادٍ بعيدةٍ، قول – الشيخ: وإلا فالصوتُ لا يصلُ. حسبَ التصوُّرِ يعني كان في السّابقِ، ولهذا فَرَضَ الشّيخُ، فَرَضَ ذلك بأنّ ساريةَ سمعَ عمرَ بواسطةَ مَلَكٍ أو جِنِّيٍّ صالحٍ أوصلَ إليه هذا النّداءَ بصوتٍ يُشبِهُ صوتَ عمر. والأظهرُ أنّ اللهَ أسمَعَه، أسمعهُ، طيِّب وماذا يقولُ يعني في القّصةِ أنَّه رأى، نفسُ عمرَ وهو يخطبُ رأى جيشَ المسلمين وقد أحاطَ بهم العدوُّ … اللهُ كشفَ له ذلك، كشفَ له ذلك، وأوصلَ إليه الصّوتَ.
– طالب: من الذي أسمعَ عمر؟ من الذي عرّف عمر عن وضع سارية؟
– الشيخ: قلت: أنّه رآهُ، كُشِفَ له، الآنَ أنت ما تشوف بالتّلفزيون؟
– طالب: نعم
– الشيخ:
الذي أقدرَ العبادَ على أنّهم يتمكَّنونَ، الآنَ افتح الجهازَ وتفرّج وشوف الحرم؛ في زحمةٍ، ولّا ما في زحمة؟ شفته يا عبدَ العزيز؟ ها؟
– طالب: نعم
– الشيخ: ها، الآنَ النّاسُ يُشاهدون الطّائفينَ وهم في بيوتِهم، سبحانَ اللهِ، هذهِ آياتٌ، آياتٌ عظيمةٌ دالّةٌ على قدرةِ اللهِ، من الّذي خلقَ الأسبابَ؟ ومن الّذي خلقَ العُقولَ؟ ومن الّذي هَدَى العقولَ لتلك الأسبابِ الدّقيقةِ الخفيَّةِ؟ كانت أسبابُها موجودةٌ، لكنَّ لها وقتٌ، أجَلٌ في قَدَرِ اللهِ، ما تظهرُ إلّا في ذلك الوقتِ الّذي قدّرهُ اللهُ، ولها أجلٌ تنقضي فيه هذهِ الحضارةُ وتزولُ، وتزول، واللهُ أعلمُ متى يكونُ ذلك؟ ولعلّه ليسَ بالبعيد.
ما ارتفعَ شيءٌ من هذه الدّنيا إلا كانَ حقّاً على اللهِ أن يَضَعَه، فهذهِ الحضارةُ المُنتفخةُ المُنتفشةُ التي بلغت مدىً بعيداً، واستكبرَ أهلُها الّذينَ جَرَت على أيديهِم هذهِ، ننتظرُ يعني تراجُعَها وذهابَها وتحوُّلَّ، يعني حالَ الأرضِ عمّا هي عليهِ الآنَ، سبحانَ اللهِ، لكنَّ جهلةَ الخلقِ ما يُفكِّرون إلّا بالعلمِ، الدولُ المُتقدِّمةُ المُتحضّرةُ، الدّولُ الرّاقيةُ، كلُّها كلماتُ تمكينٍ وتعظيمٍ وتهويلٍ! دولٌ مُنحطّةٌ، دولٌ طاغيةٌ ظالِمةٌ خاسرةٌ خاسِئةٌ، بين طَغامٍ وطُغاةٍ، الأممُ والدّولُ الكافرةُ بين طَغامٍ وطُغاةٍ، هم فريقين.
 
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال رحمهُ الله: وَإِلَّا نَفسُ صَوتِ عُمَرَ لَا يَصِلُ نَفسُهُ فِي هَذِهِ المَسَافَةِ البَعِيدَةِ، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَدعُو آخَرَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، فَيُعَانُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَقُولُ الوَاسِطَةُ بَينَهُمَا: يَا فُلَانُ. وَقَد يَقُولُ لِمَن هُوَ بَعِيدٌ عَنهُ: يَا فُلَانُ احبِس المَاءَ، تَعَالَ إلَينَا، وَهُوَ لَا يَسمَعُ صَوتَهُ فَيُنَادِيهِ الواسِطَةُ بِمِثلِ ذَلِكَ: يَا فُلَانُ احبِس المَاءَ أو أَرسِل المَاءَ، إمَّا بِمِثلِ صَوتِ الأَوَّلِ إن كَانَ لَا يَقبَلُ إلَّا صَوتَهُ وَإِلَّا..
– الشيخ: وش، إما؟

– القارئ: قال: إمَّا بِمِثلِ..
– الشيخ: لا، وهذا مثل هذا
– القارئ: قال: فَيُنَادِيهِ الوَاسِطَةُ بِمِثلِ..
– الشيخ: لا، قبل
– القارئ: وَقَد يَقُولُ لِمَن هُوَ بَعِيدٌ عَنهُ: يَا فُلَانُ احبِس المَاءَ تَعَالَ إلَينَا، وَهُوَ لَا يَسمَعُ صَوتَهُ، فَيُنَادِيهِ الوَاسِطَةُ بِمِثلِ ذَلِكَ؛ يَا فُلَانُ احبِس المَاءَ أَرسِل المَاءَ؛ إمَّا بِمِثلِ صَوتِ الأَوَّلِ إن كَانَ لَا يَقبَلُ إلَّا صَوتَهُ،
– الشيخ: في تعليق على هالقصّة، وهذا التّمثيل، كأنّه يشيرُ إلى شيءٍ، كأنّهُ يشيرُ إلى قصّة.
– القارئ: لا، أحسنَ اللهُ إليك
– الشيخ: … لا إلهَ إلّا الله، لا إلهَ إلّا الله، لا إلهَ إلّا الله، لا إلهَ إلّا الله
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال: إمَّا بِمِثلِ صَوتِ الأَوَّلِ إن كَانَ لَا يَقبَلُ إلَّا صَوتَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّ بِأَيِّ صَوتٍ كَانَ إذَا عَرَفَ أَنَّ صَاحِبَهُ قَد نَادَاهُ. وَهَذِهِ حِكَايَةٌ: كَانَ عُمَرُ مَرَّةً قَد أَرسَلَ جَيشًا فَجَاءَ شَخصٌ وَأَخبَرَ أَهلَ المَدِينَةِ بِانتِصَارِ..
– الشيخ:
صار يُشيرُ إلى القصّة، خلاص، يقول: وكان عمرُ، كَمِّل
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، كَانَ عُمَرُ مَرَّةً قَد أَرسَلَ جَيشًا، فَجَاءَ شَخصٌ وَأَخبَرَ أَهلَ المَدِينَةِ بِانتِصَارِ الجَيشِ، وَشَاعَ الخَبَرُ، فَقَالَ عُمَرُ: مِن أَينَ لَكُم هَذَا؟ قَالُوا شَخصٌ صِفَتُهُ كَيتَ وَكَيتَ فَأَخبَرَنَا، فَقَالَ عُمَرُ: ذَاكَ عُثَيمٌ بَرِيدُ الجِنِّ، وَسَيَجِيءُ بَرِيدُ الإِنسَانِ بَعدَ ذَلِكَ بِأَيَّامِ.
وَقَد يأمرُ المَلِكُ بَعضَ النَّاسِ بِأَمرٍ وَيَستَكتِمُهُ إيَّاهُ، فَيَخرُجُ فَيَرَى النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ بِهِ، فَإِنَّ الجِنَّ تَسمَعُهُ وَتُخبِرُ بِهِ النَّاسَ.
وَاَلَّذِينَ يَستَخدِمُونَ الجِنَّ فِي المُبَاحَاتِ يُشبِهُ استِخدَامَ سُلَيمَانَ، لَكِن أُعطِيَ مُلكًا لَا يَنبَغِي لِأَحَدِ بَعدَهُ، وَسُخِّرَت لَهُ الإِنسُ وَالجِنُّ، وَهَذَا لَم يَحصُل لِغَيرِهِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لمَّا..

– الشيخ: وَحُشِرَ لِسُلَيمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيرِ فَهُم يُوزَعُونَ [النمل:17]
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم َلَمَّا تَفَلَّتَ عَلَيهِ العِفرِيتُ لِيَقطَعَ عَلَيهِ صَلَاتَهُ قَالَ: (فَأَخَذتُه فذعتُّه حَتَّى سَالَ لُعَابُهُ عَلَى يَدِي، وَأَرَدتُ أَن أَربِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِن سَوَارِي المَسجِدِ، ثُمَّ ذَكَرتُ دَعوَةَ أَخِي سُلَيمَانَ فَأَرسَلته) فَلَم يَستَخدِم الجِنَّ أَصلًا؛ لَكِن دَعَاهُم إلَى الإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيهِم القُرآنَ وَبَلَّغَهُم الرِّسَالَةَ وَبَايَعَهُم كَمَا فَعَلَ بِالإِنسِ. وَاَلَّذِي أُوتِيهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ..
– الشيخ: وبايعهم! لِمَا هيَ هُنا؟ يمكن، لكن لفظَ بايعهم ما، جاؤوا شَكَوا، يعني شَكَوا عليه يعني بعضَ الأمورِ، وسألوهُ الطّعامَ، وسألوه، فقال: (لكم كلُّ عظمٍ ذُكرَ اسمُ الله عليه تجدونَه أوفرَ ما يكون لحماً)، وبعرُ الدَّوابِّ يكون عَلَفَاً لدوابّهم.

– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، وَاَلَّذِي أُوتِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَعظَمُ مِمَّا أُوتِيَهُ سُلَيمَانُ؛ فَإِنَّهُ استَعمَلَ الجِنَّ وَالإِنسَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَحدَهُ، وَسَعَادَتِهِم فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، لَا لِغَرَضِ يَرجِعُ إلَيهِ إلَّا ابتِغَاءَ وَجهِ اللَّهِ وَطَلَبَ مَرضَاتِهِ، وَاختَارَ أَن يَكُونَ عَبدًا رَسُولًا عَلَى أَن يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا، فداودُ وَسُلَيمَانُ وَيُوسُفُ أَنبِيَاءُ مُلُوك، وَإِبرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ رُسُلٌ عَبِيدٌ، فَهُوَ أَفضَلُ كَفَضلِ السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ عَلَى الأَبرَارِ أَصحَابِ اليَمِينِ.
وَكَثِيرٌ مِمَّن يَرَى هَذِهِ العَجَائِبَ الخَارِقَةَ يَعتَقِدُ أَنَّهَا مِن كَرَامَاتِ الأَولِيَاءِ، وَكَثِيرٌ مِن أَهلِ الكَلَامِ وَالعِلمِ لَم يَعرِفُوا الفَرقَ بَينَ الأَنبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الآيَاتِ الخَارِقَةِ، وَمَا لِأَولِيَاءِ الشَّيطَانِ مِن ذَلِكَ مِن السَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ وَالكُفَّارِ مِن المُشرِكِينَ وَأَهلِ الكِتَابِ وَأَهلِ البِدَعِ وَالضُّلَالِ مِن الدَّاخِلِينَ فِي الإِسلَامِ؛ فَجَعَلُوا الخَوَارِقَ جِنسًا وَاحِدًا، وَقَالُوا: كُلُّهَا يُمكِنُ أَن تَكُونَ مُعجِزَةً إذَا اقتَرَنَت بِدَعوَى النُّبُوَّةِ، وَالِاستِدلَالِ بِهَا، وَالتَّحَدِّي بِمِثلِهَا.
وإِذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَن لَيسَ بِنَبِيِّ مِن الكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ؛ فَلَابُدَّ أَن يَسلُبَهُ اللَّهُ مَا كَانَ مَعَهُ مِن ذَلِكَ، وَأَن يُقَيِّضَ لَهُ مَن يُعَارِضُهُ، وَلَو عَارَضَ وَاحِدٌ مِن هَؤُلَاءِ النَّبِيَّ لَأَعجَزَهُ اللَّهُ، فَخَاصَّةُ المُعجِزَاتِ عِندَهُم مُجَرَّدُ كَونِ المُرسَلِ إلَيهِم لَا يأتون بِمِثلِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ مِمَّا لَم يَكُن مُعتَادًا لِلنَّاسِ. قَالُوا: إنَّ عَجزَ النَّاسِ عَن المُعَارَضَةِ خَرقُ عَادَةٍ، فَهَذِهِ هِيَ المُعجِزَاتُ عِندَهُم، وَهُم ضَاهَوا أسلَافَهُم مِن المُعتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا المُعجِزَاتُ هِيَ خَرقُ العَادَةِ، لَكِن أَنكَرُوا كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ، وَأَنكَرُوا أَن يَكُونَ السِّحرُ وَالكَهَانَةُ إلَّا مِن جِنسِ الشَّعبَذَةِ وَالحِيَلِ، لَم يَعلَمُوا أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُعِينُ عَلَى ذَلِكَ، وَأُولَئِكَ أَثبَتُوا الكَرَامَاتِ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ المُسلِمِينَ أَجمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَجُلِ صَالِحٍ أَو نَبِيٍّ، قَالُوا: فَإِذَا ظَهَرَت عَلَى يَدِ رَجُلٍ كَانَ صَالِحًا بِهَذَا الإِجمَاعِ. وَهَؤُلَاءِ أَنفُسُهُم قَد ذَكَرُوا أَنَّهَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ مَا هُوَ مِثلُهَا، وَتَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ كَمَا قَد بُسِطَ فِي غَيرِ هَذَا المَوضِعِ.
فَصَارَ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ لَا يَعلَمُونَ مَا لِلسَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ وَمَا يَفعَلُهُ الشَّيَاطِينُ مِن العَجَائِبِ، وَظَنُّوا أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِرَجُلِ صَالِحٍ؛ فَصَارَ مَن ظَهَرَت هَذِهِ لَهُ يَظُنُّ أَنَّهَا كَرَامَةٌ؛ فَيَقوَى قَلبُهُ بِأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ طَرِيقَةُ الأَولِيَاء، ِوَكَذَلِكَ غَيرُهُم يُظَنُّ فِيهِ ذَلِكَ ثُمَّ يَقُولُونَ: الوَلِيُّ إذَا تَوَلَّى لَا يُعتَرَضُ عَلَيهِ، فَمِنهُم مَن يَرَاهُ مُخَالِفًا لِمَا عُلِمَ بِالِاضطِرَارِ مِن دِينِ الرَّسُولِ؛ مِثلِ تَركِ الصَّلَاةِ المَفرُوضَةِ وَأَكلِ الخَبَائِثِ كَالخَمرِ وَالحَشِيشَةِ وَالمَيتَةِ وَغَيرِ ذَلِكَ، وَفِعلِ الفَوَاحِشِ وَالفُحشِ وَالتَّفَحُّشِ فِي المَنطِقِ وَظُلمِ النَّاسِ وَقَتلِ النَّفسِ بِغَيرِ حَقٍّ وَالشِّركِ بِاَللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَظُنُّ فِيهِ أَنَّهُ وَلِيٌّ مِن أَولِيَاءِ اللَّهِ، قَد وَهَبَهُ هَذِهِ الكَرَامَاتِ بِلَا عَمَلٍ فَضلًا مِن اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَعلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ مِن أَعمَالِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّ هَذِهِ مِن أَولِيَاءِ الشَّيَاطِينِ تُضِلُّ بِهَا النَّاسَ وَتُغوِيهِم.
وَدَخَلَت الشَّيَاطِينُ فِي أَنوَاعٍ مِن ذَلِكَ فَتَارَةً يأتون الشَّخصَ فِي النَّومِ يَقُولُ أَحَدُهُم: أَنَا أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ وَأَنَا أُتوِّبُكَ إلِي وَأَصِيرُ شَيخَك، وَأَنتَ تتوب النَّاسَ لِي، وَيُلبِسُهُ فَيُصبِحُ وَعَلَى رَاسِهِ مَا أَلبَسَهُ؛ فَلَا يَشُكُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الَّذِي جَاءَهُ وَلَا يَعلَمُ أَنَّهُ الشَّيطَانُ، وَقَد جَرَى مِثلُ هَذَا لِعِدَّةِ مِن المَشَايِخِ بِالعِرَاقِ وَالجَزِيرَةِ وَالشَّامِ.
وَتَارَةً يَقُصُّ شَعرَهُ فِي النَّومِ فَيُصبِحُ فَيَجِدُ شَعرَهُ مَقصُوصًا، وَتَارَةً يَقُولُ: أَنَا الشَّيخُ فُلَان،ٌ فَلَا يَشُكُّ أَنَّ الشَّيخَ نَفسَهُ جَاءَهُ وَقَصَّ شَعرَهُ. وَكَثِيرًا مَا يَستَغِيثُ الرَّجُلُ بِشَيخِهِ الحَيِّ أَو المَيِّتِ فَيأتونهُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيخِ وَقَد يُخَلِّصُونَهُ مِمَّا يَكرَهُ؛ فَلَا يَشُكُّ أَنَّ الشَّيخَ نَفسَهُ جَاءَهُ، أَو أَنَّ مَلَكًا تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ وَجَاءَهُ، وَلَا يَعلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي تَمَثَّلَ إنَّمَا هُوَ الشَّيطَانُ لَمَّا أَشرَكَ بِاَللَّهِ أَضَلَّتهُ الشَّيَاطِينُ، وَالمَلَائِكَةُ لَا تُجِيبُ مُشرِكًا. وَتَارَةً يأتونَ إلَى مَن هُوَ خَالٍ فِي البَرِّيَّةِ وَقَد يَكُونُ مَلَكًا أَو أَمِيرًا كَبِيرًا وَيَكُونُ كَافِرًا وَقَد انقَطَعَ عَن أَصحَابِهِ وَعَطِشَ وَخَافَ المَوتَ؛ فيأتيهِ فِي صُورَةِ إنسِيٍّ وَيَسقِيهِ وَيَدعُوهُ إلَى الإِسلَامِ ويُتوِّبُه فَيُسلِمُ عَلَى يَدَيهِ ويُتوِّبُه وَيُطعِمُهُ وَيَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ..
– الشيخ:
ويتوِّبه، يُتَوِّبه إلى الله، صارت.. يُتَوِّبُ
– القارئ: إي نعم
– الشيخ: أنت تقرأها "يُتَوِّبُ"
– القارئ: إي نعم، أقرأها بالتاء
– الشيخ: لأن صارت عندي "يُتوِّبُ"
 
– القارئ: ويتوِّبُه وَيُطعِمُهُ وَيَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَيَقُولُ مَن أَنتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ وَيَكُونُ مِن مُؤمِنِي الجِنِّ. كَمَا جَرَى مِثلُ هَذَا لِي كُنتُ فِي مِصرَ فِي قَلعَتِهَا، وَجَرَى مِثلُ هَذَا إلَى كَثِيرٍ مِن التُّركِ مِن نَاحِيَةِ المَشرِقِ وَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّخصُ: أَنَا ابنُ تيمية، فَلَم يَشُكَّ ذَلِكَ الأَمِيرُ أَنِّي أَنَا هُوَ وَأَخبَرَ بِذَلِكَ مَلِكَ مَارِدِينَ، وَأَرسَلَ بِذَلِكَ مَلِكُ مَارِدِينَ إلَى مَلِكِ مِصرَ رَسُولًا، وَكُنت فِي الحَبسِ؛ فَاستَعظَمُوا ذَلِكَ وَأَنَا لَم أَخرُج مِن الحَبسِ وَلَكِن كَانَ هَذَا جِنِّيًّا يُحِبُّنَا فَيَصنَعُ بِالتُّركِ التتر مِثلَ مَا كُنتُ أَصنَعُ بِهِم لَمَّا جَاءُوا إلَى دِمَشقَ، كُنت أَدعُوهُم إلَى الإِسلَامِ؛ فَإِذَا نَطَقَ أَحَدُهُم بِالشَّهَادَتَينِ أَطعَمتهم مَا تَيَسَّرَ..
– الشيخ:
يعني التتر ما هم جِن
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال أَطعَمتهم مَا تَيَسَّرَ فَعَمِلَ مَعَهُم مِثلَ مَا كُنت أَعمَلُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ إكرَامِي لِيَظُنَّ ذَاكَ أَنِّي..
– الشيخ:
لا لا، صاروا جِن، صاروا جِن، يَظهرُ أنّه جنّ، إذا كانوا يعني التّتر يقول لما جاؤوا إلى الشّامِ.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال: وَأَرَادَ بِذَلِكَ إكرَامِي لِيَظُنَّ ذَاكَ أَنِّي أَنَا الَّذِي فَعَلت ذَلِكَ. قَالَ لِي طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ مَلَكًا؟ قُلت لَا، إنَّ المَلَكَ لَا يَكذِبُ، وَهَذَا قَد قَالَ: "أَنَا ابنُ تيمية" وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ رَأَى..
– الشيخ:
إلى هنا يكفي يا أخي
– القارئ: جزاكَ اللهُ خيرًا.
 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة