بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس التّاسع عشر
*** *** *** ***
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ وسلَّم وباركَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين، اللهمّ اغفر لنا ولشيخِنا وللمسلمين يا ربَّ العالمين، قال شيخُ الإسلامِ -رحمنا اللهُ وإيّاه ووالدينا والمسلمين-:
وكَثِيرٌ مِن النَّاسِ رَأَى مَن قَالَ: "إنِّي أَنَا الخِضرُ" وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا، ثُمَّ صَارَ مِن النَّاسِ مَن يُكَذِّبُ بِهَذِهِ الحِكَايَاتِ إنكَارًا لِمَوتِ الخَضِرِ، وَاَلَّذِينَ قَد عَرَفُوا صِدقَهَا يَقطَعُونَ بِحَيَاةِ الخَضِرِ، وَكِلَا الطَّائِفَتَينِ مُخطِئٌ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ رَأَوا مَن قَالَ "إنِّي أَنَا الخِضرُ" هُم كَثِيرُونَ صَادِقُونَ وَالحِكَايَاتُ مُتَوَاتِرَاتٌ..
– الشيخ: صادِقون، لكن غالطونَ مُخطئونَ، الإنسانُ قد يُخبِرُ شيئًا وهو صادقٌ لكنّه قد أخطأ في تصوُّرِه.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال: وَالحِكَايَاتُ مُتَوَاتِرَاتٌ؛ لَكِن أَخطَئُوا فِي ظَنِّهِم أَنَّهُ الخِضرُ وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا، وَلِهَذَا يَجرِي مِثلُ هَذَا لِليَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَكَثِيرًا مَا يأتيهم فِي كَنَائِسِهِم مَن يَقُولُ إنَّهُ الخِضرُ، وَكَذَلِكَ اليَهُودُ يأتيهم فِي كَنَائِسِهِم مَن يَقُولُ إنَّهُ الخِضرُ، وَفِي ذَلِكَ مِن الحِكَايَاتِ الصَّادِقَةِ مَا يَضِيقُ عَنهُ هَذَا المَوضِعُ؛ يُبَيِّنُ صِدقَ مَن رَأَى شَخصًا وَظَنَّ أَنَّهُ الخِضرُ وَأَنَّهُ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ الخِضرُ، وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا، وَقَد يَقُولُ: أَنَا المَسِيحُ أَو مُوسَى أَو مُحَمَّدٌ أَو أَبُو بَكرٍ أَو عُمَرُ أَو الشَّيخُ فُلَانٌ، فَكُلُّ هَذَا قَد وَقَعَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَن رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَد رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي)، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فِي صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيهَا فِي حَيَاتِهِ.
وَهَذِهِ رُؤيَةٌ فِي المَنَامِ، وَأَمَّا فِي اليَقَظَةِ فَمَن ظَنَّ أَنَّ أَحَدًا مِن المَوتَى يَجِيءُ بِنَفسِهِ لِلنَّاسِ عِيَانًا قَبلَ يَومِ القِيَامَةِ فَمِن جَهلِهِ أُتِي، وَمِن هُنَا ضَلَّت النَّصَارَى حَيثُ اعتَقَدُوا أَنَّ المَسِيحَ بَعدَ أَن صُلِبَ -كَمَا يَظُنُّونَ- أَنَّهُ أَتَى إلَى الحَوَارِيِّينَ وَكَلَّمَهُم وَوَصَّاهُم، وَهَذَا مَذكُورٌ فِي أَنَاجِيلِهِم وَكُلُّهَا تَشهَدُ بِذَلِكَ، وَذَاكَ الَّذِي جَاءَ كَانَ شَيطَانًا قَالَ أَنَا المَسِيحُ، وَلَم يَكُن هُوَ المَسِيحَ نَفسَهُ، وَيَجُوزُ أَن يَشتَبِهَ مِثلُ هَذَا عَلَى الحَوَارِيِّينَ كَمَا اشتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِن شُيُوخِ المُسلِمِينَ، وَلَكِن مَا أَخبَرَهُم المَسِيحُ قَبلَ أَن يُرفَعَ بِتَبلِيغِهِ فَهُوَ الحَقُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيهِم تَبلِيغُهُ، وَلَم يُرفَع حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ؛ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَجِيئِهِ بَعدَ أَن رُفِعَ إلَى السَّمَاءِ.
وَأَصحَابُ الحَلَّاجِ لَمَّا قُتِلَ كَانَ يأتيهم مَن يَقُولُ أَنَا الحَلَّاجُ فَيَرَونَهُ فِي صُورَتِهِ عِيَانًا، وَكَذَلِكَ شَيخٌ بِمِصرِ يُقَالُ لَهُ الدُّسوقيُّ بَعدَ أَن مَاتَ كَانَ يأتي أَصحَابَهُ مِن جِهَتِهِ رَسَائِلُ وَكُتُبٌ مَكتُوبَةٌ، وَأَرَانِي صَادِقٌ مِن أَصحَابِهِ الكِتَابَ الَّذِي أَرسَلَهُ فَرَأَيتَه (فرَأيتُهُ) بِخَطِّ الجِنِّ – وَقَد رَأَيت خَطَّ الجِنِّ غَيرَ مَرَّةٍ -، وَفِيهِ كَلَامٌ مِن كَلَامِ الجِنِّ، وَذَاكَ المُعتَقِدُ يَعتَقِدُ أَنَّ الشَّيخَ حَيٌّ وَكَانَ يَقُولُ: انتَقَلَ ثُمَّ مَاتَ، وَكَذَلِكَ شَيخٌ آخَرُ كَانَ بِالمَشرِقِ وَكَانَ لَهُ خَوَارِقُ مِن الجِنِّ وَقِيلَ كَانَ بَعدَ هَذَا يأتي خَوَاصَّ أَصحَابِهِ فِي صُورَتِهِ فَيَعتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ.
وَهَكَذَا الَّذِينَ كَانُوا يَعتَقِدُونَ بَقَاءَ عَلِيٍّ أَو بَقَاءَ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ قَد كَانَ يأتي إلَى بَعضِهم أَصحَابِهِم جِنِّيٌّ فِي صُورَتِهِ، (وَكَان مُنتَظَرُ الرَّافِضَةِ قَد يَرَاهُ أَحَدُهُم، أحسنَ الله إليكم)، وَكَذَا مُنتَظَرُ الرَّافِضَةِ قَد يَرَاهُ أَحَدُهُم أَحيَانًا وَيَكُونُ المَرئِيُّ جِنِّيًّا.
فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاقِعٌ كَثِيرًا، وَكُلَّمَا كَانَ القَومُ أَجهَلَ كَانَ عِندَهُم أَكثَرُ، فَفِي المُشرِكِينَ أَكثَرُ مِمَّا فِي النَّصَارَى، وَهُوَ فِي النَّصَارَى كَمَا هُوَ فِي الدَّاخِلِينَ فِي الإِسلَامِ، وَهَذِهِ الأُمُورُ يُسلِمُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ وَيَتُوبُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ يَكُونُونَ أَضَلَّ مِن أَصحَابِهَا، فَيَنتَقِلُونَ بِسَبَبِهَا إلَى مَا هُوَ خَيرٌ مِمَّا كَانَ عَلَيهِ؛ كَالشَّيخِ الَّذِي فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ مِن الإِنسِ قَد يأتيه قَومٌ كُفَّارٌ فَيَدعُوهُم إلَى الإِسلَامِ فَيُسلِمُونَ وَيَصِيرُونَ خَيرًا مِمَّا كَانُوا، وَإِن كَانَ قَصدُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَاسِدًا. وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ..
– الشيخ: يعني إذا قامَ بالدّعوةِ بعضُ المُبتدِعةِ فإنَّهم ينقلون الكفّارَ إلى دينِ الإسلام، ولكن ينقلونَه إلى دينِ الإسلامِ المَشوبِ بالبِدعةِ، ينقلونَهم من شرٍّ إلى ما هو أخفُّ منه؛ مثل المعتزلةِ أو غيرهِم يدعون للإسلامِ فينتقلُ الكافرُ إلى دينِ الإسلامِ لكن على ذلك المُعتقَدِ، على مذهبِ ذلك الدّاعيةِ الذي دَعاهُ ودخلَ بسببِه في الإسلام.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، قال: وَإِن كَانَ قَصدُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَاسِدًا. وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ وَبِأَقوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُم) وَهَذَا كَالحُجَجِ وَالأَدِلَّةِ الَّتِي يَذكُرُهَا كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكَلَامِ وَالرَّأيِ؛ فَإِنَّهُ يَنقَطِعُ بِهَا كَثِيرٌ مِن أَهلِ البَاطِلِ وَيَقوَى بِهَا قُلُوبُ كَثِيرٍ مِن أَهلِ الحَقِّ، وَإِن كَانَت فِي نَفسِهَا بَاطِلَةً فَغَيرُهَا أَبطَلُ مِنهَا، وَالخَيرُ وَالشَّرُّ دَرَجَاتٌ، فَيَنتَفِعُ بِهَا أَقوَامٌ يَنتَقِلُونَ مِمَّا كَانُوا عَلَيهِ إلَى مَا هُوَ خَيرٌ مِنهُ.
وَقَد ذَهَبَ كَثِيرٌ مِن مُبتَدِعَةِ المُسلِمِينَ مِن الرَّافِضَةِ والجهمية وَغَيرِهِم إلَى بِلَادِ الكُفَّارِ؛ فَأَسلَمَ عَلَى يَدَيهِ خَلقٌ كَثِيرٌ وَانتَفَعُوا بِذَلِكَ وَصَارُوا مُسلِمِينَ مُبتَدِعِينَ وَهُوَ خَيرٌ مِن أَن يَكُونُوا كُفَّارًا، وَكَذَلِكَ بَعضُ المُلُوكِ قَد يَغزُو غَزوًا يَظلِمُ فِيهِ المُسلِمِينَ وَالكُفَّارَ وَيَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَيَحصُلُ بِهِ نَفعُ خَلقٍ كَثِيرٍ كَانُوا كُفَّارًا فَصَارُوا مُسلِمِينَ، وَذَاكَ كَانَ شَرًّا بِالنِّسبَةِ إلَى القَائِمِ بِالوَاجِبِ وَأَمَّا بِالنِّسبَةِ إلَى الكُفَّارِ فَهُوَ خَير.
وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِن الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي التَّرغِيبِ وَالتَّرهِيبِ وَالفَضَائِلِ وَالأَحكَامِ وَالقَصَصِ قَد يَسمَعُهَا أَقوَامٌ فَيَنتَقِلُونَ بِهَا إلَى خَيرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيهِ وَإِن كَانَت كَذِبًا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يُسلِمُ رَغبَةً فِي الدُّنيَا وَرَهبَةً مِن السَّيفِ ثُمَّ إذَا أَسلَمَ وَطَالَ مُكثُهُ بَينَ المُسلِمِينَ دَخَلَ الإِيمَانُ فِي قَلبِهِ، فَنَفسُ ذُلِّ الكَفرِ الَّذِي كَانَ عَلَيهِ وَانقِهَارُهُ وَدُخُولُهُ فِي حُكمِ المُسلِمِينَ خَيرٌ مِن أَن يَبقَى كَافِرًا، فَانتَقَلَ إلَى خَيرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيهِ وَخَفَّ الشَّرُّ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ إذَا أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ أَدخَلَ الإِيمَانَ فِي قَلبِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحصِيلِ المَصَالِحِ..
– الشيخ: إلى هنا يا أخي.. عندك فصلٌ ولّا شيء قريب؟ كلامُ الشّيخِ متواصلٌ، نعم يا محمّد..
– طالب: في المسألةِ التي ذكرها قبلَ قليلٍ الشيخُ، في مسألةِ القَصصِ وغيرِها، هل يعني معناه تُسلَّم إلى بعضِ يعني يقول في قصصِ التّائبينَ وغيرِها وإن كان فيها شيء من المُجاوزات؟
– الشيخ: ما أدري التحديد مثل ايش؟
– طالب: بعضُهم يا شيخ يستمعُ عنده كثيرٌ من النّاسِ، وبعضُهم أحياناً قد يتجاوزُ القَصصَ إلى الكذبِ من باب أنّه يتوب أو غيره.
– الشيخ: ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ [النحل:125] لا تدعُ بالباطلِ، لا تدعُ للحقِّ بوسائلِ الباطلِ، لكن من وقعَ منه ذلك بحسنِ نيَّةٍ واجتهادٍ، يُنتَفَعُ به بذلك إن شاءَ الله، لكن هذا لا يُوجبُ أن يكونَ هذا شريعةً أو أنَّه مشروعٌ أو جائزٌ، لأ.