بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، اللهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللمسلمين. قال شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ تعالى:
فَصْلٌ: والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ مُشْتَرِكُونَ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ.
– الشيخ: اللهُ المستعانُ، مشتركون: يعني كلُّهم، يعني مذهَبُهم يقومُ على نفيِ الصّفاتِ، لكنَّ الجهميةَ ينفُونَ الأسماءَ، حتى الأسماء، أمَّا المُعْتَزلةُ يُثبتونَ الأسماءَ، لكن يُثبِتونَ أسماءً مَحْضةً مُجرَّدةً لا تدلُّ على صفات، حتى يقولون: عليمٌ بلا عِلْم، قديرٌ بِلا قُدْرَةٍ، وهكذا، نعوذُ باللهِ من عَمى البصائرِ.
– القارئ: وَابْنُ كلَّابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ -كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَمَنْ تَبِعَهُمْ- أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ؛ لَكِنْ لَمْ يُثْبِتُوا الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةَ مِثْلَ كَوْنِهِ…
– الشيخ: الصّفاتُ الاختياريةُ: هي التي يُسمّيها العلماءُ الصّفاتُ الفِعليَّةُ، فيُثبتونَ العلمَ والسَّمعَ والبَصرَ والقُدرةَ، مثلًا وما أشبهَ ذلك من الصفاتِ الذاتيةِ، أمَّا الصّفاتُ الفعليَّةُ هي الاختياريةُ؛ كالاستواءِ على العرشِ والنُّزولِ والرِّضا والغضبِ، يعني كلُّ ما تتعلّقُ به المشيئةُ فهي صفاتٌ اختياريةٌ، وهي صفاتٌ فعليةٌ، كلُّ ما تقول فيه أنَّه كذا إذا شاءَ فهي صفةٌ فعليَّة، فإذن هي اختياريَّةٌ، لكنَّ العلمَ تقولُ: يعلمُ إذا شاءَ، هو حيٌّ إذا شاءَ؟ لا، هذه صفاتٌ ذاتيَّةٌ لا تتعلَّقُ بها المَشيئةُ، نعم، لكنَّهم..
– القارئ: لَكِنْ لَمْ يُثْبِتُوا الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةَ؛ مِثْلَ كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ، وَمِثْلَ كَوْنِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ يَقُومُ بِذَاتِهِ، وَمِثْلَ كَوْنِهِ يُحِبُّ وَيَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ، وَيَغْضَبُ وَيُبْغِضُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ كُفْرِهِم، وَمِثْلَ كَوْنِهِ يَرَى أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا…
– الشيخ: لا إلهَ إلّا الله، أعمالُ العبادِ يَراها اللهُ إذا وُجدتْ، أمَّا قبلَ أن تُوجدَ مَعدومةً هذه لا تُرى أصلًا.
– القارئ: وَمِثْلَ كَوْنِهِ يَرَى أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، فَأَثْبَتَ رُؤْيَةً مُسْتَقْبَلَةً، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]، وَمِثْلَ كَوْنِهِ نَادَى مُوسَى حِينَ أَتَى لَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِنِدَاءٍ قَامَ بِذَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ والجهمية يَقُولُونَ: خَلَقَ نِدَاءً فِي الْهَوَاءِ. والكُلَّابية…
– الشيخ: اللهُ المُستعانُ، النداءُ: هو نوعٌ من الكلامِ، لكن يكونُ بصوتٍ، صوتٌ رفيعٌ، صوت، واللهُ كلَّمَ موسى نِداءً ونِجاءً، ناداهُ وناجاهُ، وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيَّا [مريم:52]، ونِداؤُه ونِجاؤهُ وتكلِيمهُ كلُّ ذلك بمشيئةٍ، كل ذلك بمشيئتِه، فهِيَ، فهي أفعالٌ اختياريةٌ، كانت وتكونُ بالمَشيئةِ. وابن كُلَّاب.
– القارئ: والكُلَّابية والسَّالمية يَقُولُونَ: النِّدَاءُ قَامَ بِذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ، لَكِنْ سَمِعَهُ مُوسَى فَاسْتَجَدُّوا سَمَاعَ مُوسَى.
– الشيخ: أيش؟
– القارئ: فَاسْتَجَدُّوا، في تعليق أحسنَ اللهُ إليكم لكم: فاستحْدَثُوا سماعَ موسى.
– الشيخ: فاستَحْدثوا، قالوا: إنَّ الحادِثَ هو سماعُ موسى، يعني قولُ اللهِ لموسى: يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه:11-12-13]، خطابٌ لِمُوسى، هذا قائمٌ باللهِ، لكنَّه في القِدَمِ، ليس شيئًا يعني حصلَ، أو شيء تكلَّمَ اللهُ به في ذلك الوقت، لكنَّ الشيءَ الذي حدثَ هو سماعُ موسى لكلامِ اللهِ، فالمُحدَث هو سَماعُ موسى لكلامِ اللهِ أمَّا كلامُ اللهِ فهو قديمٌ، هذه طريقةُ الكُلَّابية والسَّالمية.
– القارئ: فاستحدَثُوا سماعَ موسى، وَإِلَّا فَمَا زَالَ عِنْدَهُمْ مُنَادِيًا. وَالْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كُلُّهَا تُخَالِفُ هَذَا وَهَذَا، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ نَادَاهُ حِينَ جَاءَ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ فِي وَقْتٍ بِكَلَامِ مُعَيَّنٍ، كَمَا قَالَ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11]، وَقَالَ تَعَالَى: إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]. وَالْقُرْآنُ فِيهِ مِئُونٌ مِنَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
– الشيخ: نعم، يعني مِئات، مِئُون جمع مائة، نعم، مِئُون من الآيات.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَا تُحْصَى. وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ.
– الشيخ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا، يعني في القِدمِ، لم يزلْ، يتكلمُ إذا شاءَ، متى شاءَ، كيفَ شاءَ، لم يكن عاجزًا عن الكلامِ ثمَّ صارَ مُتكلِّما لا، ولا كلامه المُعيَّن لازمٌ لِذَاتِه، لا، بل يتكلَّمُ إذا شاءَ بما شاءَ، فهو كلَّمَ الأبوين، نادى الأبوين، خاطبَ الملائكةَ، أمَرَهمْ بالسُّجودِ وأمور أخبرنا اللهُ عنها من كلامِه فيما مضى، من كلامِه فيما مضى، ومن خطابِه للأنبياءِ نوح وغيره من الأنبياءِ وموسى إلى آخرِه، وأخبرنا عن كلامٍ سَيكُون، أخبرنا عن كلامٍ حتى الآن لم يتكلَّمْ به إلّا على وجهِ الإِخبارِ، وهو قولُه للمشركين: أَينَ شُرَكاؤُكم، هذا سيقولُه سبحانَه وتعالى للمُشركين وهو يُخاطبُهم، وسيقولُ للرُّسُل: مَاذا أُجبتم، إلى آخرِه.
– القارئ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ نَعْرِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ.
– الشيخ: ولهذا لا يُقالُ: القرآنُ قديمٌ، الذي يقولُ: القرآنُ قَدِيمٌ؛ غَلَط، بل هو القرآنُ، اللهُ تكلَّمَ به حين شاءَ، وأنْزَلَه على عبدِه ورسولِه حين شاءَ.
– القارئ: وَاَلَّذِينَ قَالُوا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: هُوَ قَدِيمٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ الْمُرَادَ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ فِي عِلْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدِيمٌ أَيْ مُتَقَدِّمُ الْوُجُودِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذَاتِ زَمَانِ الْمَبْعَثِ؛ لَا أَنَّهُ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ مُرَادُنَا بِقَدِيمِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، والمَقْصُودُ هُنَا…
– الشيخ: في تعليق على: في غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؟
– القارئ: لا يا شيخ.
– الشيخ: بعده.
– القارئ: والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ.
– الشيخ: هذا توجيهٌ من الشيخِ لقولِ من يقولُ من بعضِ الشيوخِ وبعضِ المعروفين بحُسْنِ الاعتقادِ أنَّهم يُطلقونَ أنَّ القرآنَ قديمٌ، فالشيخُ يُوجِّه كلامُهم وأنّهم لم يتصوَّروا؛ لأنَّ القدِيم إذا جيَء به في علمِ الكلامِ يُرادُ به التقدمُّ المُطلَقُ الأزَلي الذي لا بدايةَ له، فبعضُ من يقولُ: القرآنُ قديمٌ، لا يتصوَّرُ هذه الحقيقةَ، بل يريدُ بالقديمِ بعضَ المعاني التي ذَكَرها الشيخُ، يعني أنّه قديمٌ، يعني أنَّه غيرُ مَخْلُوقٍ غيرُ مُحدَث.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، والمَقْصُودُ هُنا: أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ رَآهَا وَسَمِعَ أَصْوَاتَ عِبَادِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ…
– الشيخ: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، نعم.
– القارئ: إذْ كَانَ خَلْقُهُ لَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَبِذَلِكَ صَارُوا يُرَوْنَ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَخُصُّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ كَقَوْلِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: مَلِكٌ كَذَّابٌ وَشَيْخٌ زَانٍ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)، وَكَذَلِكَ فِي "الِاسْتِمَاعِ" قَالَ تَعَالَى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:2]؛ أَيْ: اسْتَمَعَتْ. وَقَالَ النَّبِيُّ…
– الشيخ: في هذا الاستشهادِ، هذا الاستشهادُ، لأنّه نحن في مَقامِ ما يُضافُ إلى اللهِ من الأفعالِ ممّا يكونُ بمشيئتهِ من الرؤيةِ والاستماعِ والكلامِ، لكن هنا أَذِنَتْ يعني السَّمَاع، أَذِنَت لربِّها: يعني استمعتْ لأمرِ ربّها، وأطاعتْ وانقادتْ، أَذِنَتْ، اللي يصلح شَاهد، مثل هذا الاستشهادِ فيه نظرٌ، الشَّاهدُ للاستِمَاعِ مثلُ حديثِ: (ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ أَذَنَهُ لنبيٍّ يتغنَّى بالقرآنِ يجهرُ به)، ما أذنَ اللهُ: يعني ما استمع، وقوله تعالى: إنَّا مَعَكُم مُسْتَمِعُون [الشعراء:15]، فالاستِماعُ فعلٌ يكونُ بمشيئتِه، فاللهُ يسمعُ أصواتَ العبادِ، لكن لا يستمعُ لكلّ كلامٍ، يستمعُ لما شاءَ، يستمعُ لما شاءَ، أمَّا الاستشهادُ بالآيةِ ففيها ما هو بواضحٍ؛ لأنَّ أَذِنَتْ بمعنى اسْتَمَعتْ هذا ما، مُضافٌ إلى الأرضِ أو إلى السماءِ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ*وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ*وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ*وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ*وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق].
– القارئ: وَقَالَ النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَإِذْنِهِ لِنَبِيِّ..)
– الشيخ: كَأَذَنِهِ، هذا هو.. هذا الاستشهادُ، لكن لعلَّ الشيخَ ذكرَ الآيةَ للاستشهادِ بها على معنى الاستماعِ بس، لأنَّ أَذِنَ يأتي بمعنى استمعَ، وأذِنَت لربّها: يعني استمعت، ثمَّ أتى بالشاهدِ الذي فيه إضافةُ الأَذَنِ إلى اللهِ.
– القارئ: وَقَالَ النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَأَذَنِهِ لِنَبِيِّ حَسَنَ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ)، وَقَالَ: (لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلَى صَاحِبِ الْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ)، فَهَذَا تَخْصِيصٌ بالأَذَنْ.
– الشيخ: الذي هو الاستماع، نعم.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ لِبَعْضِ الْأَصْوَاتِ دُونَ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ سَمِعَ الْإِجَابَةَ كَقَوْلِهِ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، وَقَوْلِ زكريا: إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وَقَوْلِ الخليل: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [إبراهيم:39]، يقتضي التَّخْصِيصَ بِهَذَا السَّمْعِ، فَهَذَا التَّخْصِيصُ ثَابِتٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِمَعْنَى يَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ -كَمَا تَقَدَّمَ-، وَعِنْدَ النفاةِ هُوَ تَخْصِيصٌ بِأَمْرٍ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ.
– الشيخ: عند النفاةِ: الجهميِّة والمعتزلةِ، أشارَ إليهم، نعم، عند النفاةِ.
– القارئ: وَعِنْدَ النفاة هُوَ تَخْصِيصٌ بِأَمْرِ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ لَا بِمَعْنَى يَقُومُ بِذَاتِهِ. وَتَخْصِيصُ مَنْ يُحِبُّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُنْتَفٍ عَنْ غَيْرِهِمْ. لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ هَلْ يُقَالُ: إنَّ نَفْسَ الرُّؤْيَةِ وَالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الْإِدْرَاكِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ مَسْمُوعٍ وَمَرْئِيٍّ إلَّا وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ كَالْعِلْمِ؟ أَوْ يُقَالُ: إنَّهُ أَيْضًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَنْظُرُ إلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ وهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَدْ يَقُولُونَ: مَتَى وُجِدَ الْمَرْئِيُّ وَالْمَسْمُوعُ وَجَبَ تَعَلُّقُ الْإِدْرَاكِ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ جِنْسَ السَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ لَا ينظُرَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْمَاثُورُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ؛ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجوني قَالَ: مَا نَظَرَ اللَّهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ إلَّا رَحِمَهُ وَلَكِنَّهُ قَضَى أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهِمْ.
وقدْ يُقَالُ: هَذَا مِثْلُ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً)
فَهَذَا الذِّكْرُ يَخْتَصُّ بِمَنْ ذَكَرَهُ فَمَنْ لَا يَذْكُرُهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الذِّكْرُ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ ذَكَرَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا قَالَ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-125-126]
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، وَقَدْ فَسَّرُوا هَذَا النِّسْيَانَ بِأَنَّهُ تَرْكٌ، وَهَذَا النِّسْيَانُ ضِدُّ ذَلِكَ الذِّكْرِ.
وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْكَافِرِ يُحَاسِبُهُ قَالَ: (أَفَظَنَنْتَ أَنَّك مُلَاقِيَّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَالْيَوْمَ أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي)، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ أَهْلَ طَاعَتِهِ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ هَذَا الْعَبْدَ وَعَلِمَ مَا سَيَعْمَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَلَمَّا عَمِلَ عَلِمَ مَا عَمِلَ وَرَأَى عَمَلَهُ، فَهَذَا النِّسْيَانُ لَا يُنَاقِضُ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ هَذَا.
– الشيخ: أحسنْتْ.