الرئيسية/شروحات الكتب/روضة الناظر وجنة المناظر/(66) الأصل الثالث الإجماع – فصل الأخذ بأقل ما قيل ليس إجماعًا قوله “ليس للاستقصاء غاية محدودة”

(66) الأصل الثالث الإجماع – فصل الأخذ بأقل ما قيل ليس إجماعًا قوله “ليس للاستقصاء غاية محدودة”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: السَّادس والسّتون

***    ***    ***    ***

 

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ والتَّابعينَ، قالَ شيخُ الإسلامِ موفَّقُ الدِّينِ ابنُ قدامةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "روضةِ النَّاظرِ" في تتمَّةِ كلامِهِ عن الاستصحابِ، قالَ رحمَهُ اللهُ:

فإنْ قيلَ: ليسَ للاستقصاءِ غايةٌ محدودةٌ، بل للمجتهدِ بدايةٌ ووسطٌ ونهايةٌ، فمتى يحلُّ لهُ أنْ ينفيَ الدَّليلَ السَّمعيَّ، والبيتُ محصورٌ، وطلبُ اليقينِ فيهِ ممكِنٌ، ومداركُ الشَّرعِ غيرُ محصورةٍ، فإنَّ الأخبارَ كثيرةٌ، وربَّما غابَ راوي الحديثِ.

قلْنا: مهما علمَ الإنسانُ أنَّهُ قد بذلَ وسعَهُ، فلم يجدْ فلهُ الرُّجوعُ إلى دليلِ العقلِ؛ فإنَّ الأخبارَ قد دُوِّنَتْ، والصِّحاحَ قد صُنِّفَتْ فما دخلَ فيها محصورٌ، وقد انتهى ذلكَ إلى المجتهدينَ، وأوردُوها في مسائلِ الخلافِ.

فإنْ قيلَ: لِمَ لا يكونُ واجبًا لا دليلَ عليهِ، أو لهُ دليلٌ لم يبلغْنا؟

– الشيخ : لِمَ لا يكونُ

– القارئ : واجبًا لا دليلَ عليهِ

– الشيخ : لا، كأنَّه: "واجبٌ"، كأن يبدو "يكون" هذه تامَّةٌ، لِمَ لا يكونُ، يعني: لِمَ لا يُوجَدُ واجبٌ لا دليلَ عليه، يعني يمكن أنْ يكونَ ويُوجَدَ واجبٌ لا دليلَ عليه.

 

– القارئ : فإنْ قيلَ: لِمَ لا يكونُ واجبٌ لا دليلَ عليهِ، أو لهُ دليلٌ لم يبلغْنا؟

قلْنا: أمَّا إيجابُ ما لا دليلَ عليهِ فمحالٌ؛ لأنَّهُ تكليفُ ما لا يُطاقُ، ولذلكَ نفيْنا الأحكامَ قبلَ ورودِ الشَّرعِ، والبحثُ يدلُّنا على عدمِ الدَّليلِ، على ما ذكرْناهُ.

وأمَّا استصحابُ دليلِ الشَّرعِ: فكاستصحابِ العمومِ إلى أنْ يردَ تخصيصٌ، واستصحابِ النَّصِّ إلى أنْ يردَ نسخٌ، واستصحابِ حكمٍ دلَّ الشَّرعُ على ثبوتِهِ في دوامِهِ، كالـملكِ الثَّابتِ، وشغلِ الذِّمَّةِ بالإتلافِ أو الالتزامِ، وكذلكَ الحكمُ بتكرارِ اللُّزومِ إذا تكرَّرَتِ الأسبابُ، كتكرارِ شهرِ رمضانَ، وأوقاتِ الصَّلواتِ.

فالاستصحابُ إذن: عبارةٌ عن التَّمسُّكِ بدليلٍ عقليٍّ أو شرعيٍّ، وليسَ راجعًا إلى عدمِ الدَّليلِ، بل إلى دليلِ ظنٍّ معَ انتفاءِ المغيِّرِ، أو العلمِ بهِ.

– طالب:

– القارئ : في بعضِ النُّسخِ: "بل إلى دليلٍ معَ ظنِّ انتفاءِ المغيِّرِ"

– الشيخ : لعلَّ هذا أفضلُ، لعلَّ هذه، "بل إلى دليلٍ مع

– القارئ : معَ ظنِّ انتفاءِ المُغيِّرِ أو العلمِ بهِ. واللهُ أعلمُ.

فصلٌ: فأمَّا استصحابُ حالِ الإجماعِ في محلِّ الخلافِ: فليسَ بحجَّةٍ في قولِ الأكثرينَ.

وقالَ بعضُ الفقهاءِ: هوَ دليلٌ، واختارَهُ أبو إسحاقَ بنُ شاقلا.

مثالُهُ: أنْ يقولَ في المتيممِ إذا رأى الماءَ في أثناءِ الصَّلاةِ: الإجماعُ مُنعقِدٌ على صحَّةِ صلاتِهِ ودوامِها، فنحنُ نستصحبُ ذلكَ حتَّى يأتيَنا دليلٌ يزيلُنا عنهُ.

وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الإجماعَ إنَّما دلَّ على دوامِها حالَ العدمِ.

فأمَّا معَ الوجودِ: فهوَ مُختلَفٌ فيهِ، ولا إجماعَ معَ الاختلافِ، واستصحابُ الإجماعِ عندَ انتفاءِ الإجماعِ محالٌ.

وهذا كما أنَّ العقلَ دلَّ على البراءةِ الأصليَّةِ بشرطِ عدمِ دليلِ السَّمعِ، فلا يبقى لهُ دَلالةٌ على وجودِ دليلِ السَّمعِ، وهذا لأنَّ كلَّ دليلٍ يضادُّهُ نفسُ الخلافِ لا يمكنُ استصحابُهُ معَهُ، والإجماعُ يضادُّهُ نفسُ الخلافِ.

والعمومُ، والنَّصُّ، ودليلُ العقلِ، لا يضادُّهُ نفسُ الاختلافِ، فلذلكَ صحَّ استصحابُهُ معَهُ.

فصلٌ: والنَّافي للحكمِ يلزمُهُ الدَّليلُ.

– الشيخ : كما يقولون قاعدة مشهورة: النَّافي عليهِ الدَّليلُ كما على المثبِتِ؛ لأنَّ النَّفيَ حكمٌ، فالنَّافي للحكمِ عليه الدَّليلُ كما على المثبِتِ للحكمِ، إلَّا فيما فيه أصلٌ، فيُتمسَّكُ بالأصلِ، يُتمسَّكُ بالأصل كالتَّمسُّكِ مثلًا بالبراءة الأصليَّة العقليَّة والتَّمسُّك بالعموم مثلًا، أنواعُ البراءاتِ المتقدِّمة: البراءةُ الأصليَّةُ، واستصحابُ.. البراءةُ الأصليَّةُ، واستصحابُ الدَّليلِ الشَّرعيِّ من عمومٍ أو دليلٍ دلَّ على حكمٍ فإنَّه يجبُ التَّمسُّكُ به حتَّى يثبتَ ما يخالفُه كما ذكرَ المؤلِّفُ أنَّه يُستصحَبُ دليلُ الحكم حتَّى يثبتَ النَّاسخُ، فالنَّافي عليه الدَّليلُ.

 

– القارئ : والنَّافي للحكمِ يلزمُهُ الدَّليلُ.

وقالَ قومٌ في الشَّرعيَّاتِ كقولِنا، وفي العقليَّاتِ لا دليلَ عليهِ.

وقالَ قومٌ: لا دليلَ عليهِ مطلقًا لأمرَينِ:

أحدِهما: أنَّ الـمُدَّعى عليهِ الدَّينُ لا دليلَ عليهِ.

والثَّاني: أنَّ الدَّليلَ على النَّفي مُتعذِّرٌ، فكيفَ يكلَّفُ ما لا يمكنُ؟

كإقامةِ الدَّليلِ على براءةِ الذِّمَّةِ.

ولنا قولُهُ تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]

ومِن المعنى: يُقالُ للنَّافي: ما ادَّعيْتَ نفيَهُ، علمْتَهُ، أم أنتَ شاكٌّ فيهِ؟

فإنْ أقرَّ بالشَّكِّ فهوَ معترِفٌ بالجهلِ.

وإنْ ادَّعى العلمَ: فإمَّا أنْ يَعلمَ بنظرٍ أو تقليدٍ:

فإنْ ادَّعى العلمَ بتقليدٍ، فهوَ -أيضًا- معترِفٌ بعمىً نفسَهُ، وإنَّما يدَّعي البصيرةَ لغيرِهِ.

وإنْ كانَ بنظرٍ: فيحتاجُ إلى بيانِهِ.

ولأنَّه لو أسقطَ الدَّليلَ عن النَّافي: لم يعجزِ المثبِتُ عن التَّعبيرِ عن مقصودِ إثباتِهِ بالنَّفي فيقولُ: بدلَ قولِهِ: "مُحدَثٌ": "ليسَ بقديمٍ" وبدلَ قولِهِ: "قادرٌ": "ليسَ بعاجزٍ".

وقولُهم: "إنَّ الـمُدَّعى عليهِ الدَّينُ لا دليلَ عليهِ": عنهُ أجوبةٌ:

أحدُها: المنعُ؛ فإنَّ اليمينَ دليلٌ، لكنَّها قصرَتْ عن الشَّهادةِ، فشُرِعَتْ عندَ عدمِها، واختصَّتْ بالمُنكَرِ؛ لرجحانِ جانبِهِ باليدِ الَّتي هيَ دليلُ الملكِ.

واحتمالُ الكذبِ فيها لا يمنعُ كونَها دليلًا، كاحتمالِ الكذبِ في الشَّهادةِ.

الثَّاني: إنَّما لم يحتجْ المنكِرُ إلى دليلٍ؛ لوجودِ اليدِ الَّتي هيَ دليلُ الملكِ؛ إذِ الظَّاهرُ أنَّ ما في يدِ الإنسانِ ملكُهُ.

الثَّالثُ: إنَّما لم يجبْ عليهِ الدَّليلُ لعجزِهِ عنهُ؛ إذْ لا سبيلَ إلى إقامةِ دليلٍ على النَّفي، فإنَّ ذلكَ إنَّما يُعرَفُ: بأنْ يلازمَهُ الشَّاهدُ مِن أوَّلِ وجودِهِ إلى وقتِ الدَّعوى، فيَعلمَ انتفاءَ سببِ اللُّزومِ قولًا وفعلًا، بمراقبتِهِ للخطابِ، وهوَ محالٌّ.

وشغلُ الذِّمَّةِ -أيضًا- لا سبيلَ إلى معرفتِهِ؛ فإنَّ الشَّاهدَ لا يحصلُ إلَّا الظَّنَّ بجريانِ سببِ اللُّزومِ، مِن إتلافٍ أو غيرِهِ، وذلكَ في الماضي.

أمَّا في الحالِ: فإنَّهُ يجوزُ براءتُها بأداءٍ، أو إبراءٍ، فاكتُفِيَ بالشَّهادةِ على سببِ اللُّزومِ، واكتُفِيَ معَها باليمينِ لقولِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (البيِّنةُ على المُدَّعِي، واليمينُ على مَن أنكرَ).

أمَّا في مسألتِنا: فيمكنُ إقامةُ الدَّليلِ إنْ كانَ النِّزاعُ في الشَّرعيَّاتِ، فقد يصادفُ الدَّليلُ عليهِ مِن الإجماعِ، كنفي وجوبِ صلاةِ الضُّحى، وصومِ شوَّال، أو النَّصِّ، كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا زكاةَ في الحليِّ)، و (لا زكاةَ في المعلوفةِ)، أو بمفهومٍ، أو بقياسٍ، كقياسِ الخضرواتِ على الرُّمانِ في نفي وجوبِ الزَّكاةِ.

وإنْ عدمَ الأدلَّةَ: فيتمسَّكُ باستصحابِ النَّفي الأصليِّ الثَّابتِ بدليلِ العقلِ.

وأمَّا العقليَّاتُ: فيمكنُ نفيُها، بإنَّ إثباتَها يُفضي إلى محالٍ، وما أفضى إلى المحالِ محالٌ.

ويمكنُ الدَّليلُ عليهِ بدليلِ التَّلازُمِ؛ فإنَّ انتفاءَ أحدِ المتلازمَينِ دليلٌ على انتفاءِ الآخرِ، كقولِهِ تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]

فانتفاءُ الفسادِ دليلٌ على انتفاءِ إلهٍ ثانٍ.

فصلٌ: هذا بيانُ أصولٍ مختلَفٍ فيها، وهيَ أربعةٌ

– الشيخ : إلى آخره، عندَك مذكِّرة الشَّيخ الشَّنقيطيِّ؟

– القارئ : نعم عندي

– الشيخ : موجودةٌ؟

– القارئ : نعم موجودةٌ

– الشيخ : لخّصَ هذا ولَّا ما لخَّصَ؟

– القارئ : ذكرَ كلامًا مختصَرًا قالَ:

فصلٌ: اعلمْ بأنَّهُ مَن نفى حكماً بأنَّ الأمرَ الفلانيَّ ليسَ بكذا اختلفَ فيهِ, هل يكفيهِ مجرَّدُ النَّفيِ بناءً على أنَّهُ الأصلُ حتَّى يردَ دليلُ الوجوبِ أو يكلَّفَ بالدَّليلِ على ما ادَّعاهُ مِن النَّفي؟

وهذا الأخيرُ هوَ مذهبُ الجمهورِ وهوَ الحقُّ واختارَهُ المؤلِّفُ واستدلَّ لهُ بقولِهِ تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111] انتهى.

– الشيخ : بس [فقط]؟

– القارئ : بس [فقط]

– الشيخ : ما شاءَ الله، رحمَه اللهُ، جزاك اللهُ خيرًا، نعم يا محمَّد

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :الفقه وأصوله