بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: الثَّامن والسّتون
*** *** *** ***
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ؛ قالَ شيخُ الإسلامِ موفَّقُ الدِّينِ ابنُ قدامةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "روضةِ النَّاظرِ":
الأصلُ الثَّاني مِن المُختلَفِ فيهِ:
قولُ الصَّحابيِّ إذا لم يظهرْ لهُ مُخالِفٌ.
فرُوِيَ: أنَّهُ حجَّةٌ يقدَّمُ على القياسِ، ويُخَصُّ بهِ العمومُ وهوَ قولُ مالكٍ، والشَّافعيِّ في القديمِ
– الشيخ : "رُوِيَ" يعني عن الإمامِ أحمد
– القارئ : وهوَ قولُ مالكٍ، والشَّافعيِّ في القديمِ، وبعضِ الحنفيَّةِ.
ورُوِيَ: ما يدلُّ على أنَّهُ ليسَ بحجَّةٍ.
وبهِ قالَ عامَّةُ المتكلِّمِينَ، والشَّافعيِّ في الجديدِ، واختارَهُ أبو الخطَّابِ؛ لأنَّ الصَّحابيَّ يجوزُ عليهِ الغلطُ والخطأُ والسَّهوُ، ولم تثبتْ عصمتُهُ.
وكيفَ تجوزُ عصمةُ مَن يجوزُ عليهم الاختلافُ؟
وقد جوَّزَ الصَّحابةُ مخالفتَهم، فلم يُنكِرْ أبو بكرٍ وعمرَ على مَن خالفَهما.
فانتفاءُ الدَّليلِ على العِصمةِ، ووقوعُ الخلافِ بينَهم، وتجويزُهم مخالفتِهم: ثلاثةُ أدلَّةٍ.
وقالَ قومٌ: الحجَّةُ قولُ الخلفاءِ الرَّاشدِينَ؛ لقولِهِ -عليهِ الصَّلاةُ السَّلامُ-: (عليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدِينَ)
وذهبَ آخرون: إلى أنَّ الحجَّةَ قولُ أبي بكرٍ وعمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- لقولِهِ -عليهِ الصَّلاةُ السَّلامُ-: (اقتدوا باللَّذَينِ مِن بعدي: أبي بكرٍ وعمرَ).
ووجهُ الرِّوايةِ الأولى.
قولُهُ -عليهِ الصَّلاةُ السَّلامُ-: (أصحابي كالنُّجومِ بأيِّهم اقتديْتُم اهتديْتُم). فإنْ قيلَ: هذا خطابٌ لعوامِ عصرِهِ؛ بدليلِ: أنَّ الصَّحابيَّ غيرُ داخلٍ فيهِ.
قلْنا: اللَّفظُ عامٌّ، لكنْ خرجَ منهُ الصَّحابيُّ بقرينةِ: أنَّهم الَّذينَ أُمِرَ بتقليدِهم، وجعلَ الأمرَ لغيرِهم.
ومِن وجهٍ آخرَ: وهوَ أنَّ الصَّحابةَ أقربُ إلى الصَّوابِ، وأبعدُ مِن الخطأِ؛ لأنَّهم حضرُوا التَّنزيلَ، وسمعُوا كلامَ الرَّسولِ منهُ، فهم أعلمُ بالتَّأويلِ، وأعرفُ بالمقاصدِ، فيكونُ قولُهم أولى، كالعلماءِ معَ العامَّةِ.
وما ذكرُوهُ "مِن عدمِ العصمةِ": فلا يلزمُ؛ فإنَّ المجتهدَ غيرُ معصومٍ، ويلزمُ العاميُّ تقليدَهُ.
وقولُ مَن خصَّ الأئمَّةَ بالاحتجاجِ بقولِهم: لا يصحُّ؛ لِمَا ذكرْناهُ مِن عمومِ الدَّليلِ في غيرِهم.
وتخصيصُهم بالأمرِ بالاقتداءِ بهم: يُحتمَلُ أنَّهُ أرادَ الاقتداءَ بهم في سيرتِهم وعدلِهم، ويُحتمَلُ: أنَّهُ ذكرَهم؛ لكونِهم مِن جملةِ مَن يجبُ الاقتداءُ بهم.
فصلٌ: إذا اختلفَ الصَّحابةُ على قولَينِ
– الشيخ : مسألةُ قولِ الصَّحابيِّ هذه مسألةٌ أصوليَّةٌ كما ذكرَ المؤلِّفُ، والخلافُ فيها معروفٌ ومشهورٌ بينَ العلماءِ، هل قولُ الصَّحابيِّ حجَّةٌ؟ ولكن في الحقيقة أنَّه يمكن التَّفصيلُ فيما يقولُه الصَّحابيُّ فهناك ما للرَّأي فيه مجالٌ، وما ليس للرَّأي فيه مجالٌ، وهناك آثارٌ عملَ بها جمهورُ العلماءِ، عملوا بها كبعضِ أقوالِ عمرَ، كثير ما يستدلُّ الفقهاءُ بقول عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- في مسائلَ عديدةٍ في المواريث وفي المناسكِ وكذلك ابن عبَّاسٍ، ولا شكَّ أنَّ قولَ الصَّحابيِّ أنَّه إذا ثبتَ عنه فهو أحرى بالصَّواب وأقربُ، واستدلَّ من يقولُ بحجِّيَّته بثناءِ اللهِ على الصَّحابة وقد أفاضَ ابنُ القيِّمِ في "إعلامِ الموقِّعين" وذكرَ جملةً من الأدلَّة النَّقليَّة والنَّظريَّة على حجيَّة قولِ الصَّحابيِّ.
والظَّاهرُ أنَّه لا يخلو أحدٌ عن القول به عمليًّا، وإنْ خالفَه نظريًّا، فمن العلماء من لا يراه حجَّةً لكنَّه عند التَّطبيق تجده يستدلُّ بأقوال الصَّحابة، فيخالفُ في هذا الأصلِ نظريًّا ولكنَّه يعملُ…، يخالفه في عمله؛ لأنَّه يحتجُّ على كثيرٍ من مسائلِ الخلافِ بأقوالِ بعضِ الصَّحابة، وهذا تجدُه مضطردًا عن أصحابِ المذاهب، كثير استدلالهم بالآثار، فإذا نظرْنا إلى عملِ العلماءِ يمكن أن نقولَ: إنَّهم مُجْمِعُونَ على حجِّيَّةِ قولِ الصَّحابيِّ، أقصدُ: مجمعون عمليًّا في العمل، لا في التَّقرير النَّظريِّ، واللهُ أعلمُ.
– القارئ : فصلٌ
وإذا اختلفَ الصَّحابةُ على قولَينِ: لم يجزْ للمجتهدِ الأخذُ بقولِ بعضِهم مِن غيرِ دليلٍ.
خلافًا لبعضِ الحنفيَّةِ وبعضِ المتكلِّمينَ: أنَّهُ يجوزُ ذلكَ، ما لم ينكرْ على القائلِ قولَهُ؛ لأنَّ اختلافَهم إجماعٌ على تسويغِ الخلافِ، والأخذُ بكلِّ واحدٍ مِن القولَينِ.
ولهذا رجعَ "عمرُ" -رضيَ اللهُ عنهُ- إلى قولِ "معاذٍ" في تركِ رجمِ المرأةِ.
وهذا فاسدٌ؛ فإنَّ قولَ الصَّحابةِ لا يزيدُ على الكتابِ والسُّنَّةِ، ولو تعارضَ دليلانِ مِن كتابٍ أو سنَّةٍ: لم يجزِ الأخذُ بواحدٍ منهما بدونِ التَّرجيحِ.
ولأنَّنا نعلمُ أنَّ أحدَ القولَينِ صوابٌ، والآخرَ خطأٌ، ولا نعلمُ ذلكَ إلَّا بدليلٍ.
وإنَّما يدلُّ اختلافُهم على تسويغِ الاجتهادِ في كلا القولَينِ
– الشيخ : وهذا موجبُ قوله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء:59] ففي مسائلِ الخلافِ ليس الإنسانُ فيها على التَّخيير، يتخيَّرُ ما شاءَ، لا، لابدَّ من التَّرجيح الشَّرعيِّ بالدَّليل، هذا ينبغي تطبيقُه في هذه المسألةِ فيما اختلفَ فيه الصَّحابةُ وفيما اختلفَ فيه العلماءُ لا بدَّ من التَّرجيح بالدَّليل فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فبالكتابِ والسُّنَّةِ فصلُ النِّزاعِ.
– القارئ : وإنَّما يدلُّ اختلافُهم على تسويغِ الاجتهادِ في كلا القولَينِ، أمَّا على الأخذِ بهِ: فكلَّا.
وأمَّا رجوعُ "عمرَ" -رضيَ اللهُ عنهُ- إلى معاذٍ: فلأنَّهُ بانَ لهُ الحقُّ بدليلِهِ، فرجعَ إليهِ.
الثَّالثُ: الاستحسانُ
– الشيخ : إلى هنا يا أخي
– القارئ : أحسنَ اللهُ إليكم