بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس التّاسع والثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمّدٍ، وآلِه وصحبِه أجمعين، اللهمَّ متِّعْ شيخَنا على طاعتِك واغفرْ لنا وله وللمسلمين. قال شيخُ الإسلامِ رحمنَا اللهُ وإيّاهُ ووالدِينا والمسلمين:
وَالْأُصُولُ مَأخُوذَةٌ مِنْ أُصُولِ الشَّجَرَةِ وَأَسَاسِ الْبِنَاءِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِيهِ: الْأَصْلُ مَا اُبْتُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَوْ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ.
– الشيخ: ما أدري، لو أعدت الشي اللي من الكلامِ السابقِ.
– القارئ: يتكلمُ يا شيخ عن آيةِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً[إبراهيم:24]
– الشيخ: آه، يتكلَّمُ عن الآيةِ.
– القارئ: إي نعم، وأصولُ الأنبياءِ..
– الشيخ: لا، قبل، شوي … مقطع..
– القارئ: قال: وَالْأُصُولُ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ
– الشيخ: طيِّب امضي، نعم، اقرأ، اقرأ
– القارئ: فَالْأُصُولُ الثَّابِتَةُ هِيَ أُصُولُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قِيلَ:
أَيُّهَا الْمُغْتَدِي لِتَطْلُبَ عِلْمًا كُلُّ عِلْمٍ عَبْدٌ لِعِلْمِ الرَّسُولِ
تَطْلُبُ الْفَرْعَ كَيْ تُصَحِّحَ حُكْمًا ثُمَّ أَغْفَلْت أَصْلَ الْأُصُولِ
وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرُ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ؛ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَهَذِهِ الْأُصُولُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا مَا فِي الْقُلُوبِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَثَلَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. والكَلِمَةُ هِيَ قَضِيَّةٌ جَازِمَةٌ وَعَقِيدَةٌ جَامِعَةٌ، وَنَبِيُّنَا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أُوتِيَ فَوَاتِحَ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ؛ فَبُعِثَ بِالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ والآخرية عَلَى أَتَمِّ قَضِيَّةٍ.
– الشيخ: العلومُ الأوليَّةُ: يعني لعلَّه مثل ما يتعلَّقُ بالأصولِ وفي شأنِ بدءِ الخلقِ. والخواتِمُ: هي ما يتعلَّق بالفروعِ أو يتعلَّقُ بشأنِ اليومِ الآخرِ. وكلُّ هذا، كلُّ هذا جاءَ بالكتابِ والسُّنَّةِ، فبالكتابِ والسُّنَّةِ ذِكرُ المبدأ والمعادِ، وذكرُ أصولِ الاعتقادِ وأصولِ الأعمالِ؛ وهي مَبادئُها وما يَتْبَعُها.
– القارئ: فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ -وَهِيَ الْعَقِيدَةُ الْإِيمَانِيَّةُ التَّوْحِيدِيَّةُ- كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ؛ فَأَصْلُ أُصُولِ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَثَبَاتِ أَصْلِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ كما قال تعالى: إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[فاطر:10]، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَثَّلَ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ: أَيْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ بِشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ.
– الشيخ: وأشبه ما تكونُ من الشجرِ النَّخلة، النَّخلةُ هذه لها شأنٌ مثَّلَ بها النبيُّ المُؤمنَ، وكذلك مُثِّلَتْ بالكلمةِ الطيِّبةِ. النَّخلَةُ أصلُها ثابتٌ وفَرعُها عالٍ، ولها ثمرٌ عظيمٌ من أطيبِ الثمارِ وأيسرِها وأسهلِها، سبحانَ الله! كلّها يُنتفَعُ بها، يُنتفَعُ بجميعِ أجزائِها النخلةُ كما في حديثِ تمثيلِ المؤمنِ، كما جاءَ في الحديثِ الصحيحِ: (أنَّ مثلَ المُؤمنِ كمثلِ شجرةٍ لا يسقطُ ورقُها)، سألَ الرسولُ الصحابةَ فأجابَ، ثمَّ أخبرَهم بأنّها النَّخلَة.
– القارئ: فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَهَا فَرْعٌ عَالٍ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي قَلْبٍ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ[إبراهيم:27]
– الشيخ: اللهمّ ثبِّتْنا وإيّاكم بالقولِ الثابتِ، اللهُ أكبرُ، الثباتُ هو الذي تنبني عليه، تنبني عليه الخاتمةُ، إنّما الأعمالُ بالخواتيمِ، قد أرشدَ اللهُ المؤمنينَ إلى الأخذِ بأسبابِ ذلك: اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، الإنسانُ ليس بيدِه أن يموتَ مُسلمًا، إنّما الذي يستطيعُه أن يفعلَ الأسبابَ التي يثبُتُ بها الإسلامُ حتى يأتيه الموتُ.
– القارئ: فَالْمُؤْمِنُ عِنْدَهُ يَقِينٌ وَطُمَانِينَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ثَابِتٌ عَلَى الْإِيمَانِ مُسْتَقِرٌّ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ، وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ[إبراهيم:26]، اُسْتُؤْصِلَتْ وَاجْتُثَّتْ كَمَا يُقْطَعُ الشَّيْءُ يُجْتَثُّ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ، مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، لَا مَكَانَ تَسْتَقِرُّ فِيهِ وَلَا اسْتِقْرَارَ فِي الْمَكَانِ؛ فَإِنَّ الْقَرَارَ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَقَالَ: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا.
وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَا لَهُ قَرَارٌ: أَيْ ثَبَاتٌ، وَقَدْ فُسِّرَ الْقَرَارُ فِي الْآيَةِ بِهَذَا وَهَذَا؛ فَالْمُبْطِلُ لَيْسَ قَوْلُهُ ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ وَلَا هُوَ ثَابِتٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَثَلِ الْآخَرِ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ[الرعد:17]؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ اعْتَقَدَهُ مُدَّةً فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ يَخُونُهُ كَاَلَّذِي يُشْرِكُ بِاَللَّهِ، فَعِنْدَ الْحَقِيقَةِ يَضِلُّ عَنْهُ مَا كَانَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ تَخُونُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ؛ بَلْ هِيَ كَالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ أَصْلُهَا ثَابِتٌ كَانَ لَهُ فَرْعٌ فِي السَّمَاءِ يُوَصِّلُهُ إلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[فاطر:10]، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ الْوُصُولَ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْأُصُولَ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ لَا يَصِلُونَ إلَى غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلَّا فِي ضَلَالٍ[الرعد:14]
واللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ؛ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ. وَأَصْلُ عِبَادَتِهِ مَعْرِفَتُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ.
– الشيخ: رُسُلٌ ولَّا رسول؟
– القارئ: رُسُلَهُ
– الشيخ: رسلٌ عندكم؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: ماشي تابع
– القارئ: بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
– الشيخ: الثانية كذلك "رُسُلُهُ"؟
– القارئ: نعم "رُسُلُهُ"
مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَاَلَّذِينَ يُنْكِرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ، وَلَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ؛ لِيُثْبِتَ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ؛ وَلِيُثْبِتَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إلَّا هُوَ؛ وَلِيُثْبِتَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ؛ فَقَالَ فِي الزُّمَرِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الزمر:67] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي الْحَجِّ: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74]، وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91].
وَفِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ذَمَّ الَّذِينَ مَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْدُرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَأَنْ يُجَاهِدَ فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ[الحج:78]، وَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ[آل عمران:102]، وَالْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مُرَادٌ؛ أَيْ حَقَّ جِهَادِهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَحَقَّ تُقَاتِهِ الَّتِي..
– الشيخ: والمصدرُ مُضافٌ.
– القارئ: وَالْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مُرَادٌ…
– الشيخ: اصبِرْ اصبِرْ، حقَّ تُقاتَه: يعني يمكن، يعني حقَّ تُقَاتِه: فاعلُ التقوى هو المؤمنُ، واللهُ هو المُتَّقى، يعني اتَّقوا اللهَ حقَّ تُقاتِه، فالمصدرُ تُقاة: مضافٌ إلى المَفعولِ إلى ما ال، يُريدُ الضميرَ حقَّ تُقاتِه: الضميرُ يعودُ إلى اللهِ، اتَّقوه حقَّ تُقاتِه، يعني اتَّقُوه بما يَستحِقُّهُ من التقوى، وهذه الآيةُ مُقيَّدةٌ بقولِه: فاتقوا الله ما استطعتم [التغابن:16]
– القارئ: وَالْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ مُرَاد، أَيْ حَقَّ جِهَادِهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَحَقَّ تُقَاتِهِ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِهَا. وَاقْدُرُوهُ قَدْرَهُ الَّذِي بَيَّنَهُ لَكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهِ؛ فَصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ، وَأَطِيعُوهُ فِيمَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ. وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ عَنْ طَاقَةِ الْبَشَرِ؛ فَذَلِكَ لَا يُذَمُّ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: (فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ). وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ قَدْرًا عَظِيمًا؛ لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ[الزمر:67]، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: (مَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسعودٍ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ يَحْمِلُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى أُصْبُعٍ؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ).
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ إذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَى ذِهِ؟ وَالْأَرْضَ عَلَى ذِهِ؟ وَالْجِبَالَ وَالْمَاءَ عَلَى ذِهِ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ والترمذي مِنْ حَدِيثِ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَقَالَ: غَرِيبٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَظَمَتَهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفَ ذَلِكَ الْحَبْرُ؛ فَإِنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ أَبْلَغُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قَالَ: (يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- (يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَـأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الْمُلُوكُ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَأخُذُ الْأَرْضَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي ثِنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ ثِنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تَكَلَّمَتْ الْيَهُودُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالُوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا وَلَمْ يَرَوْا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67]، فَجَعَلَ صِفَتَهُ الَّتِي وَصَفُوهُ بِهَا شِرْكًا. وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي ثِنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثِنَا الْحَكَمُ يَعْنِي أَبَا مُعَاذٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: عَمِدَتْ الْيَهُودُ فَنَظَرُوا فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ؛ فَلَمَّا فَرَغُوا أَخَذُوا يُقَدِّرُونَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ. وَقَوْلُهُ: عَمَّا يُشْرِكُونَ …
– الشيخ: لم يَقْدُرُوه، المناسبُ: يَقْدُرُوه؛ لأنَّه كلّه الفعل ثلاثي، في الآياتِ كلِّها، ولم يَقْدُرُوه، وما قَدَرُوا، ما قال: يُقَدِّرُوه.
– القارئ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: عَمَّا يُشْرِكُونَ فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ مَخْلُوقًا مِثْلًا لِلْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَحَبَّهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّ الْخَالِقَ أَوْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ مَا يُوصَفُ بِهِ الْخَالِقُ فَهُوَ مُشْرِكٌ سَوَّى بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَعَدَلَ بِرَبِّهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا كُفُؤٌ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِثْلَ الْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّهُ مُعَطِّلٌ مُمَثِّلٌ وَالْمُعَطِّلُ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِ. وَاَللَّهُ ثَنَّى قِصَّةَ فِرْعَوْنَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا.
– الشيخ: وَاَللَّهُ ثَنّى.
– القارئ: وَاَللَّهُ ثَنَّى قِصَّةَ فِرْعَوْنَ…
– الشيخ: إلى هنا يا أخي.