الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب الفرقان بين الحق والباطل/(42) فصل وأهل الضلال الذين فرقوا دينهم “قوله وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا”

(42) فصل وأهل الضلال الذين فرقوا دينهم “قوله وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الثّاني والأربعون

***    ***    ***    ***
 

– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، اللهمَّ متِّعْ شيخَنا على طاعتِك واغفرْ لنا وله وللمسلمين. قال شيخُ الإسلامِ رحمنا اللهُ وإيّاهُ ووالدينا والمسلمين:

وَكَانَ أَسْبَابُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا هَؤُلَاءِ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ وَدِينِهِمْ؛ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا سَلَكَهَا مَنْ ذَكَرْته مِنْ أَجِلَّاءِ شُيُوخِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إمْكَانِهَا بِكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً كَمَا سَلَكَ الشَّيْخُ الْآخَرُ، وَهَذَا يَنْفِي عَنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَذَلِكَ نَفْيٌ عَنْهُ أَنَّهُ جِسْمٌ بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ. وَحُذَّاقُ النُّظَّارِ الَّذِينَ كَانُوا أَخْبَرَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَأَعْظَمَ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا بِهَا وَبِغَيْرِهَا قَدْ عَرَفُوا فَسَادَهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ[التوبة:33]، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، واللهُ سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْإِنْسَانَ بِجِنْسِ عَمَلِهِ؛ فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَمَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ عُوقِبَ بِمِثْلِ ذَنْبِهِ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَدَحَ فِيهِمْ وَنَسَبَ مَا يَقُولُونَهُ إلَى أَنَّهُ جَهْلٌ…

– الشيخ: أيش؟

– القارئ: وَنَسَبَ مَا يَقُولُونَ إلَى أَنَّهُ جَهْلٌ وَخُرُوجٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ؛ اُبْتُلِيَ فِي عَقْلِهِ وَعِلْمِهِ وَظَهَرَ مِنْ جَهْلِهِ مَا عُوقِبَ بِهِ. وَمَنْ قَالَ عَنْهُمْ إنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ أَظْهَرَ اللَّهُ كَذِبَهُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ جُهَّالٌ أَظْهَرَ اللَّهُ جَهْلَهُ؛ فَفِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَقَارُونُ لَمَّا قَالُوا عَنْ مُوسَى إنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ؛ أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}[غافر:23-24] وَطَلَبَ فِرْعَوْنُ إهْلَاكَهُ بِالْقَتْلِ وَصَارَ يَصِفُهُ بِالْعُيُوبِ كَقَوْلِهِ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ[غافر:26]، وَقَالَ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ[الزخرف:52]؛ أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ، وَأَظْهَرَ كَذِبَهُ وَافْتِرَاءَهُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ، وَأَذَلَّهُ غَايَةَ الْإِذْلَالِ، وَأَعْجَزَهُ عَنْ الْكَلَامِ النَّافِعِ فَلَمْ يُبَيِّنْ حُجَّةً. وَفِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ كَانَ يُسَمَّى أَبَا الْحَكَمِ؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- سَمَّاهُ أَبَا جَهْلٍ، وَهُوَ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أَبُو جَهْلٍ أَهْلَكَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَتْبَاعَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

– الشيخ: أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ، لا إله إلا الله، أعوذُ باللهِ من الشقاءِ. أبو جهل، نعم، لعلَّهُ أشقى هذه الأمة، أعوذُ باللهِ.

 

– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم. وَاَلَّذِينَ قَالُوا عَنْ الرَّسُولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّهُ أَبْتَرُ وَقَصَدُوا أَنَّهُ يَمُوتُ فَيَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ؛ عُوقِبُوا بِانْبِتَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}؛ فَلَا يُوجَدُ مَنْ شَنَأَ الرَّسُولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إلَّا بَتَرَهُ اللَّهُ؛ حَتَّى أَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِسُنَّتِهِ. قِيلَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ إنَّ بِالْمَسْجِدِ قَوْمًا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْبِدْعَةِ، فَقَالَ: مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إلَيْهِ، لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَبْقَوْنَ وَيَبْقَى ذِكْرُهُمْ وَأَهْلُ الْبِدْعَةِ يَمُوتُونَ وَيَمُوتُ ذِكْرُهُمْ.

– الشيخ: كأنّه ما يلزمُ أنَّه، لكنْ أهلُ السُنّةِ يكونُ لهم ذِكرٌ جميلٌ، ذِكرٌ جميلٌ ولسانُ صدقٍ، وغيرُهم يكونُ لهم ذِكرٌ، يُذكَرونَ بالشرِّ، يُذكَرونَ بالشرّ لما ارتكبوه من المُخالفاتِ والبدعِ، وقد من يموتُ ذِكْرُه هو أربحُ ممن يبقى ذِكْرُه لكنَّه يُذكَرُ بقبيحِ قولِه وقبيحِ عملِه.

 

– القارئ: وَهَؤُلَاءِ الْمُشْبِهُونَ لِفِرْعَوْنَ الجهميةُ نفاةُ الصِّفَاتِ الَّذِينَ وَافَقُوا فِرْعَوْنَ فِي جَحْدِهِ؛ وَقَالُوا إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ..

– الشيخ: أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ، إنَّا للهِ وإنّاَ إليه راجعون.

– القارئ: وَقَالُوا إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا[غافر:36-37].

وَكَانَ فِرْعَوْنُ جَاحِدًا لِلرَّبِّ؛ فَلَوْلَا أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَهُ أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمَا قَالَ: فَأَطَّلَعُ إلَى إلَهِ مُوسَى. وقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلَّا فِي تَبَابٍ[غافر:37].

وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ[القصص:38-42].

وَمُحَمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؛ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى مُوسَى وَأَنَّ مُوسَى قَالَ لَهُ: (ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ إلَى أُمَّتِك)، كَمَا تَوَاتَرَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ، فَمُوسَى صَدَّقَ مُحَمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقُ، وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقُ؛ فَالْمُقِرُّونَ بِذَلِكَ مُتَّبِعُونَ لِمُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِما.

– الشيخ: لا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله، هذه مسألةٌ عظيمةٌ، سبحانَ اللهِ العظيمِ! دخلتْ على كثيرٍ وهو نفي علوِّ اللهِ على خلقِه، دخلتْ على كثيرٍ، مع أنَّها -مسألة العلوِّ؛ علوُّ الله بذاته- تضافرتْ عليها الأدلةُ كُلّها من الكتابِ والسُنّةِ، وأجمعَ على ذلك أهلُ السنّةِ، ودلَّ على ذلك العقلُ والفِطرةُ. فمن يقولُ: إنَّ اللهَ حالٌّ في كلِّ مكانٍ لم يُثْبِتْ علوَّ الله، وأقبحُ منه من يقولُ: إنَّه لا داخلَ العالمِ ولا خارجَه، أعوذُ باللهِ.

 

– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم. وَالْمُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ مُوَافِقُونَ لِفِرْعَوْنَ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ النُّظَّارِ، وَهِيَ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْإِبَانَةُ"، وَذَكَرَ عِدَّةَ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّه فَوْقَ الْعَالَمِ، وَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: فَإِنْ قَالَ…

– الشيخ: أعد الْأَشْعَرِيُّ، أيش يقول؟

– القارئ: وَهِيَ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا، وهَذِهِ الْحُجَّةُ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ النُّظَّارِ وَهِيَ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْإِبَانَةُ"، وَذَكَرَ عِدَّةَ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ.

– الشيخ: ما في تعليق عندك، ولَّا شيء؟

– القارئ: ما في إلّا بس مرجع الإبانة، قال: شيخُ الإسلامِ ينقلُ عنه كثيرًا كما في "إقامةِ الدليلِ على إبطالِ التحليلِ".

– الشيخ: اللهُ المستعان، نعم، أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ..

– القارئ: وَذَكَرَ عِدَّةَ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّه فَوْقَ الْعَالَمِ، وَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ؛ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ.

قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا عز وجلّ وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وَمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، ونحن بذلك معتصمون، وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بن مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ نضَّرَ اللهُ وجهَه ورفعَ درجتَه وأجزلَ مثوبتَه قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ؛ لأِنَّهُ الرَّئِيسُ الْكَامِلُ وَالْإِمَامُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ، ودفعَ به الضلالَ، وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنَهاجَ، وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ؛ فَرَحِمَةُ اللَّهُ عليهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَجَليلٍ مُعَظَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفَهِّمٍ، وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَذَكَرَ جُمْلَةَ الِاعْتِقَادِ، وَالْكَلَامَ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ، وَعَلَى الرُّؤْيَةِ، وَمَسْأَلَةَ الْقُرْآنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْمُعَطِّلَةَ نُفاةَ الصِّفَاتِ أَوْ نُفاةَ بَعْضِهَا لَا يَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ إذْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ الْإِثْبَاتَ لَا النَّفْيَ؛ لَكِنْ يَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَظُنُّونَهُ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً، وَيُعَارِضُونَ بِذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.

وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ مَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لَا مِنْ سَمْعٍ وَلَا عَقْلٍ؛ فَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ خَبَرًا بَيَّنَ بِهِ الْحَقَّ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَلَا ذَكَرَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً تُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ؛ بِخِلَافِ غَيْرِ هَذَا؛ فَإِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرَّسُولَ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَدِلَّة عَقْلِيَّةً عَلَى ثُبُوتِ الرَّبِّ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ.

وَقَدْ يَقُولُونَ أَيْضًا: إنَّهُ أَخْبَرَ بِالْمَعَادِ؛ لَكِنْ نَفَوْا الصِّفَاتَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ النَّفْيِ لَمْ يَذْكُرْهُ الرَّسُولُ فَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَلَا ذَكَرَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَيْهِ؛ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ الْإِثْبَاتَ وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا؛ فَأَحْوَجَ النَّاسَ إلَى التَّأوِيلِ أَوْ التَّفْوِيضِ، فَلَمَّا نَسَبُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ، لَا خَبَرَ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ عَاقَبَهُمْ اللَّهُ بِجِنْسِ ذُنُوبِهِمْ؛ فَكَانَ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَارِجًا عَنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ؛ فَإِذَا اخْتَبَرَهُ الْعَارِفُ وَجَدَهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ؛ مِنْ جِنْسِ شُبُهَاتِ أَهْلِ السَّفْسَطَةِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِينَ يَقْدَحُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ.

وَأَمَّا السَّمْعُ فَخِلَافُهُمْ لَهُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَتَّبِعُهُمْ أَنَّهُمْ أَحْكَمُوا الْعَقْلِيَّاتِ فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ وَجَدَهُمْ كَمَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ: وقالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[الملك:10].

وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[النور:39-40].

فَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ؛ سَلَبَهُمْ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ؛ حَتَّى كَانُوا مِنْ أَضَلِّ الْبَرِيَّةِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ النَّبِيِّينَ، وَهَذَا مِيرَاثٌ مِنْ فِرْعَوْنَ وَحِزْبِهِ اللَّعِينِ.

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ عُرَفَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِي الْإِسْلَامِ التَّعْطِيلَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ هُوَ: "الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمً"؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ إنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَشَكَرَ لَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلَهُ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا الْجَعْدُ إلَيْهِ يُنْسَبُ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَعْدِيُّ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ شُؤْمُهُ عَادَ عَلَيْهِ حَتَّى زَالَتْ الدَّوْلَةُ؛ فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْبِدَعُ الَّتِي تُخَالِفُ دِينَ الرُّسُلِ انْتَقَمَ اللَّهُ مِمَّنْ خَالَفَ الرُّسُلَ وَانْتَصَرَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ وَمَلَكُوا الشَّامَ وَغَيْرَهَا ظَهَرَ فِيهَا النِّفَاقُ وَالزَّنْدَقَةُ الَّذِي هُوَ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ "إنْكَارُ الصَّانِعِ وَإِنْكَارُ عِبَادَتِهِ"، وَخِيَارُ مَا كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ الرَّفْضُ؛ فَكَانَ خِيَارُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ الرَّافِضَةُ، وَظَهَرَ بِسَبَبِهِمْ الرَّفْضُ وَالْإِلْحَادُ؛ حَتَّى كَانَ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ الشَّامَ مِثْلُ بَنِي حَمْدَانَ الْغَالِيَةِ وَنَحْوِهِمْ مُتَشَيِّعِينَ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي بُوَيهٍ فِي الْمَشْرِقِ.

وَكَانَ ابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَهْلِ دَعْوَتِهِمْ، قَالَ: وَبِسَبَبِ ذَلِكَ اشْتَغَلْتُ في الْفَلْسَفَةِ، وَكَانَ مَبْدَأُ ظُهُورِهِمْ مِنْ حِينِ تَوَلَّى الْمُقْتَدِرُ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَ بَعْدُ، وَهُوَ مَبْدَأُ انْحِلَالِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ حِينَئِذٍ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمَوِيَّ الذِي كَانَ بِالْأَنْدَلُس،ِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ وَيَقُولُ: لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَتَانِ، فَلَمَّا وُلِّيَ الْمُقْتَدِرُ قَالَ: هَذَا صَبِيٌّ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ؛ فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ. وَكَانَ بَنُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ الْمَلَاحِدَةُ يُسَمّ..

– الشيخ: قِفْ، قف على هذا متصلٌ، متصلٌ كلامُ الشيخِ رحمهُ اللهُ.. نسألُ اللهَ العافيةَ، نسألُ اللهَ العافيةَ، أعوذُ باللهِ، نسألُ اللهَ العافيةَ، أعوذُ باللهِ.

الشاهدُ على أنَّ قصةَ الجعدِ وقتلَ خالدٍ القسريِّ قصةٌ مشهورةٌ، ويذكرُها أهلُ العلمِ، ويُثنُونَ على خالدٍ القسريّ بما صنعَ وبهذه الخطبةِ العجيبةِ في يومِ الأضحى: "ضحُّوا بعد الخطبةِ تقبّلَ اللهُ ضحاياكم فإنّي مضحٍّ بِالجعْدِ بن درهمٍ". بعضُ المُتطفِّلينَ على العلمِ يُشكِّكُّونَ في هذه القصةِ، ويقولون: هذه قصةٌ ما ثبتتْ، وهذا يعني من تطاولِهم على أهلِ العلمِ، أهلُ العلمِ نقلوها وذكروها في كتبِهم؛ البخاريُّ وغيرُه وابنُ القيّمِ يقولُ:

ولأجلِ ذا ضحّى بِجعْدٍ خالد القسري يومَ ذبائحِ القربانِ

شكرَ الضحيةَ كلُّ صاحبِ سُنَّةٍ للهِ درّكَ من أخِ القربانِ

فلا يُغترُّ بهؤلاءِ، قصة ما ثبتت يُشكِّك فيها! لا، هي ثابتةٌ، ومسائلُ التاريخِ لا يُعوَّلُ فيها على الأسانيدِ، يُعوَّلُ فيها على الشُّهرةِ ونقلِ جمهورِ الناسِ.

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة