بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس السّادس والأربعون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمهُ اللهُ تعالى- في كتابِه "الفرقانُ بين الحقِّ والبطلان":
وَعِنْدَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّ جِبْرِيلَ إنَّمَا هُوَ خَيَالٌ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ
– الشيخ: أعوذُ باللهِ، قبَّحهمُ اللهُ
– القارئ: لَيْسَ هُوَ مَلَكًا يَأتِي مِنْ السَّمَاءِ، وَالنَّبِيُّ عِنْدَهُمْ يأخذُ مِنْ هَذَا الْخَيَالِ، وَأَمَّا..
– الشيخ: لهذا أصلُ النبوةِ عندَهم، يعني مصدرُها الخيالُ والتخيُّلُ، يتخيَّلُ ويُخيِّلُ للناسِ، هذا تكذيبٌ، تكذيبٌ بالنبّواتِ، لكن بطريقةٍ خبيثةٍ ماكرةٍ يخدعونَ بها السُّفهاءَ والجُهَّالَ، نعوذُ باللهِ من الضلالِ والكفرِ.
– القارئ: وأمَّا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فِي زَعْمِهِمْ؛ فَإِنَّهُ يأخذُ مِنْ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي يأخذُ مِنْهُ الْخَيَالُ؛ فَهُوَ يأخذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يأخذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ. وَهُمْ يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْنَ، وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ
– الشيخ: هذا الشيخُ يذكرُ المُتفلسفةَ من ملاحدةِ الصوفيةِ الاتحاديّةِ الذين جمعوا بين الفلسفةِ والتصوفِ، التصوفِ ودعوى المعرفةِ، ودعوى الولايةِ، الولايةِ، حتى يقولون أنَّ خاتمَ الأولياءِ أفضلُ من خاتَمِ الأنبياءِ.
– القارئ: وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ "الْفُصُوصِ"؛ قَالَ: وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبِ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ الخليفةُ بالسيف وأنه جَارٍ فِي الْعُرْفِ الناموسي؛ لِذَلِكَ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى أَيْ: وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيتُه فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ، قَالَ: وَلَمَّا عَلِمَتِ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا لَهُ: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]، فالدولةُ لك.
– الشيخ: لعنةُ اللهِ على الكافرين، أعوذُ باللهِ، لا إله إلا الله، نعم، فالدولةُ لك..
– القارئ: قَالَ: فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ فِرْعَوْنُ عَيْنَ الْحَقِّ
– الشيخ: لعنةُ اللهِ عليهم، هذا الكفرُ، الكفرُ الجامعُ لأنواعِ الكفرِ، قولُ الاتحاديّةِ القائلينَ بوحدةِ الوجودِ، القائلينَ بأنَّ هذا الوجودَ هو عينُ وجودِ الربِّ، تعالى عن قولِهم علوًا كبيرًا، كما قال ابنُ القيمِ في النونيةِ التي قرأناها:
فأتى فريقٌ ثمَّ قالَ وجدته … هذا الوجودُ بعينِه وعيانِ
فهو السماءُ بعينِها ونجومِها … وكذلك الأفلاكُ والقمرانِ
– القارئ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ: أَنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَإِذَا نَهَقَ الْحِمَارُ وَنَبَحَ الْكَلْبُ سَجَدُوا لَهُ وَقَالُوا هَذَا هُوَ اللَّهُ فَإِنَّهُ
– الشيخ: نسألُ اللهَ العافيةَ، أعوذُ باللهِ من الكفرِ، كفر، كفر، كفر، جامعٌ لأنواعِ الكفرِ.
– القارئ: فَإِنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ الْمَظَاهِرِ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا مَظْهَرٌ مِنْ الْمَظَاهِرِ؛ فَاجْعَلُوهُ كَسَائِرِ الْمَظَاهِرِ وَأَنْتُمْ تُعَظِّمُونَ الْمَظَاهِرَ كُلَّهَا أَوْ اُسْكُتُوا عَنْهُ. قَالَ فَقَالُوا لِي: مُحَمَّدٌ نُبْغِضُهُ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْفَرْقَ وَدَعَا إلَيْهِ وَعَاقَبَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ. قَالَ: فَتَنَاقَضُوا فِي مَذْهَبِهِمْ الْبَاطِلِ، وَجَعَلُوا الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ أَفْضَلَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ.
– الشيخ: لعنةُ اللهِ على الكافرين، لعنةُ اللهِ على الكافرين، أعوذُ باللهِ.
– القارئ: قَالَ لِي: وَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِاللَّعْنَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ وَكُفْرًا بِالرَّحْمَنِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ وَنُبَاحَ الْكَلْبِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا)، فَهُمْ إذَا سَمِعُوا نَهِيقَ الْحِمَارِ وَنُبَاحَ الْكَلْبِ تَكُونُ الشَّيَاطِينُ قَدْ حَضَرَتْ فَيَكُونُ سُجُودُهُمْ لِلشَّيَاطِينِ. وَكَانَ فِيهِمْ شَيْخٌ جَلِيلٌ مِنْ أَعْظَمِهِمْ تَحْقِيقًا -لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ- وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ "فَكُّ الْأَزْرَارِ عَنْ أَعْنَاقِ الْأَسْرَارِ"، ذَكَرَ فِيهِ مُخَاطَبَةً جَرَتْ لَهُ مَعَ إبْلِيسَ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُونِي وَقَهَرْتُمُونِي وَنَحْوَ هَذَا؛ لَكِنْ جَرَتْ لِي قِصَّةٌ تَعَجَّبْت مِنْهَا مَعَ شَيْخٍ مِنْكُمْ؛ فَإِنِّي تَجَلَّيْت لَهُ فَقُلْت: أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَسَجَدَ لِي.
– الشيخ: هذا، آمنتُ باللهِ، نسألُ اللهَ العافيةَ، هذا مثل اللي مرَّ علينا، نقولُ: يا ليتَ الشيخَ ما حكاهُ، أعوذُ باللهِ.
– القارئ: فَتَعَجَّبْتُ كَيْفَ سَجَدَ لِي، قَالَ هَذَا الشَّيْخُ: فَقُلْت لَهُ: ذَاكَ أَفْضَلُنَا وَأَعْلَمُنَا وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ قَصْدَهُ، مَا رَأَى فِي الْوُجُودِ اثْنَيْنِ، وَمَا رَأَى إلَّا وَاحِدًا، فَسَجَدَ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ، لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ، فَجَعَلَ هَذَا الشَّيْخُ ذَاكَ الَّذِي سَجَدَ لإبليس لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الرَّبِّ وَغَيْرِهِ؛ بَلْ جَعَلَ إبْلِيسَ هُوَ الله هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ جَعَلَهُ أَفْضَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ. وَلِهَذَا عَابَ ابْنُ عَرَبِيٍّ نُوحًا؛ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ، وَأَنْجَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلَكَ سَائِرَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَمَّا كَذَّبُوهُ؛ فَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَظَّمَ قَوْمه الْكُفَّار الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ، وَأَنَّ خَطَايَاهُمْ خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ. وَهَذَا عَادَتُهُ يَنْتَقِصُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَمْدَحُ الْكُفَّارَ كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَغَيْرِهِمْ، وَمَدَحَ عُبَّادَ الْعِجْلِ، وَتَنَقَّصَ هَارُونَ، وَافْتَرَى عَلَى مُوسَى فَقَالَ: وَكَانَ مُوسَى أَعْلَمَ بِالْأَمْرِ مِنْ هَارُونَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا عَبَدَهُ أَصْحَابُ الْعِجْلِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ، وَمَا قَضَى اللَّهُ بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ، فَكَانَ عَتبُ مُوسَى أَخَاهُ هَارُونَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ فِي إنْكَارِهِ وَعَدَمِ اتِّسَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ. فَذَكَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ عَتَبَ عَلَى هَارُونَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسَعْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ؛ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ.
– الشيخ: كأنَّها رجعت العبارةُ ولَّا أنت رَدِّيت؟ أقول: تكرّرت بالكتابةِ ولَّا؟
– القارئ: أي نعم، أحسنَ اللهُ إليكم.
– الشيخ: نعم بعده.
– القارئ: وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى عُبَّادِ الْعِجْلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ أَنْكَرَ الْعِجْلَ إنْكَارًا أَعْظَمَ مِنْ إنْكَارِ هَارُونَ، وَأَنَّهُ أَخَذَ بِلِحْيَةِ هَارُونَ لَمَّا لَمْ يَدَعْهُمْ وَيَتَّبِعْ مُوسَى لِمَعْرِفَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَاسِي إنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:83-94].
قُلْت لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ أَوْ يُخَالِفُهُ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يُخَالِفُهُ. قُلْت: فَاخْتَرْ لِنَفْسِك إمَّا الْقُرْآنَ وَإِمَّا كَلَامَ ابن عَرَبِيٍّ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْ نُوحٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ نُوحًا جَمَعَ لِقَوْمِهِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ لَأَجَابُوهُ، أَيْ: ذَكَرَ لَهُمْ فَدَعَاهُمْ جِهَارًا ثُمَّ دَعَاهُمْ إسْرَارًا إلَى أَنْ قَالَ: وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَكْرٌ بِالْمَدْعُوِّ؛ لِأَنَّهُ مَا عُدِمَ مِنْ الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ أَدْعُو إلَى اللَّهِ؛ فَهَذَا عَيْنُ الْمَكْرِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَنَبَّهَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَأَجَابُوهُ مَكْرًا كَمَا دَعَاهُمْ، فَجَاءَ الْمُحَمَّدِيُّ وَعَلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَا هِيَ مِنْ حَيْثُ هُوِيَّتِه؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ أَسْمَائِهِ فَقَالَ:يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، فَجَاءَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ وَقَرَنَهَا بِالِاسْمِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَالَمَ كَانَ تَحْتَ حَيْطَةِ اسْمٍ إلَهِيٍّ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ، فَقَالُوا فِي مَكْرِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا؛ فَإِنَّهُمْ إذَا تَرَكُوهُمْ جَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ يَجْهَلُهُ، كَمَا قَالَ فِي الْمُحَمَّدِيِّينَ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا، أَيْ: حَكَمَ، فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عُبِدَ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ، وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ؛ فَمَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ.
وَهُوَ دَائِمًا يُحَرِّفُ الْقُرْآنَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ
– الشيخ: أقول: لعنةُ اللهِ على الكافرينَ، لعنةُ اللهِ على الكافرينَ، إي "في هذه القصةِ" إش بعده؟
– القارئ: كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ فَهِيَ الَّتِي خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَهِيَ الْحَيْرَةُ؛ فَأُدْخِلُوا نَارًا فِي عَيْنِ الْمَاءِ فِي الْمُحَمَّدِيِّينَ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ سَجَّرَت التَّنُّور أَوْقَدَته.
– الشيخ: سَجَّرْتُ التَّنُّورَ: أَوْقَدْتُهُ.
– القارئ: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا، فَكَانَ اللَّهُ عَيْنَ أَنْصَارِهِمْ فَهَلَكُوا فِيهِ إلَى الْأَبَدِ. وَقَوْلُهُ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ؛ بِمَعْنَى أَمَرَ وَأَوْجَبَ وَفَرَضَ. وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى "وَوَصَّى رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ" فَجَعَلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدَّرَ وَشَاءَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَمَا قَدرَهُ فَهُوَ كَائِنٌ، فَجَعَلَ مَعْنَاهَا كُلُّ مَعْبُودٍ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ أَحَدًا مَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ قَطُّ؛ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى دِينِهِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ؛ بَلْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:60-62].
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف:39-40].
وَقَالَ تَعَالَى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:138-140].
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: إذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:42-50].
فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ يَقُولُونَ: مَا عَبَدْنَا غَيْرَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ.
– الشيخ: إلى هنا يا أخي، قف، بس، أقول إلى هنا بس.
– القارئ: باقي الآية هذه، ثمَّ قال: والجهميةٌ.
– الشيخ: كمِّل.
– القارئ: وَقَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:148-149]، إلَى قَوْلِهِ: إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. قَالَ أَبُو قلابة: هِيَ واللهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يُذِلَّهُ اللَّهُ.
– الشيخ: أحسنَ اللهُ إليك، جزاكَ اللهُ خير.
– القارئ: وإياك.
– الشيخ: الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ. إذا سمعتمْ وقرأتمْ عن أحوالِ هؤلاءِ الكفرةِ والملاحدةِ وأنواعِ المُشركينَ فاذكروا نعمةَ اللهِ عليكم، الحمدُ للهِ الذي هدانا. هم ناس، أقول: ناسٌ ولهم أسماعٌ وأبصارٌ ولهم قلوبٌ؛ لكن كما قال اللهُ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، من الأنعامِ.
نعم، نعم يا حمود، حسبنُا اللهُ ونعمَ الوكيل، أعوذُ باللهِ من الضلالِ والعمى، أعوذُ باللهِ من عمى البصائرِ، أعوذُ باللهِ من عمى البصيرةِ، أعوذُ باللهِ، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].