بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الفُرقان بينَ الحقِّ والباطلِ) لابن تيميّة
الدّرس الخمسون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، اللهمَّ متِّعْ شيخَنا على طاعتِك واغفرْ لنا وله وللمسلمين. قال شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ تعالى في "الفرقانِ بين الحقِّ والبطلان":
أَوَّلُ التَّفَرُّقِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَافْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلَمَّا اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى التَّحْكِيمِ..
– الشيخ: هذا أوَّلُ، أوَّلُ يعني مفتاحُ الشرِّ هو مقتلُ عثمانَ رضي اللهُ عنه؛ فبمقتلهِ حصلتِ الفرقةُ وحصلَ، ظهرتِ الرافضةُ وظهرَ الخوارجُ وظهرَ المُبتدِعَةُ وحصلتِ الفتنُ، لا إله إلا الله، فمقتلُ عثمانَ بوَّابةٌ ومفتاحُ بدايةٍ، مقتلُ عمرَ أيضًا، لَمَّا ذكرَ، سألَ عمرُ حذيفةَ عن الفتنةِ التي تموجُ كموجِ البحرِ قال: يا أميرَ المؤمنينَ دونَها بابٌ، قال: يُفتحُ البابُ أم يُكسَرُ قال: بل يُكسَرُ، قال: حريٌّ ألَّا يُغلقَ. يعني إذا كُسِرَ خلص، فصارت مقتلُ عمرَ رضي اللهُ عنه أيضًا إرهاصٌ لما سيحدُثُ، نعم، لا إله إلا الله.
– القارئ: فَلَمَّا اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى التَّحْكِيمِ أَنْكَرَتْ الْخَوَارِجُ وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ
– الشيخ: بدأت، هذه الفرقةُ، ظهرت الخوارجُ، نعم.
– القارئ: وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ، فَرَجَعَ نِصْفُهُمْ، وَالْآخَرُونَ أَغَارُوا عَلَى مَاشِيَةِ النَّاسِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ؛ فَقَتَلُوا ابْنَ خباب وَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ؛ فَقَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ رضي اللهُ عنه. وَأَصْلُ مَذْهَبِهِمْ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ وَطَلَبُ اتِّبَاعِهِ، لَكِنْ خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
– الشيخ: اللهُ أكبرُ، لاحظ، لاحظ، أصلُ ابتداعِهم تعظيمُ القرآن وطلبُ اتِّباعهِ، فليس كلُّ من رفعَ هذا الشِّعارَ يكون مُحِقًّا، ليس كلُّ من رفعَ شعارَ تحكيمِ القرآنِ والعملِ بالقرآنِ واتِّباعِ القرآنَ يكونُ مُحِقًّا، بل لا بدَّ أنْ يُوزَنَ، لا بدَّ أنْ يُوزَنَ بميزانِ الكتابِ والسنةِ ومنهجِ أهلِ السنَّةِ، سبحانَ اللهِ، وأصلُ ابتداعِهم، أيش تحكيم؟
– القارئ: وَأَصْلُ مَذْهَبِهِمْ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ وَطَلَبُ اتِّبَاعِهِ.
– الشيخ: يا سلام سَلِّمْ، نعم.
– القارئ: لَكِنْ خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَهُمْ لَا يَرَوْنَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ؛ كَالرَّجْمِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَضَلُّوا؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَجَوَّزُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا؛ فَلَمْ يُنَفِّذُوا لِحُكْمِ النَّبِيّ
– الشيخ: هذا أصلُهم، صاحبُهم سلفُهم الأوَّلُ، هو الذي قال: إنَّها لقسمةٌ ما أُريدَ بها وجهَ اللهِ، هذا أصلُهم، لكنْ جمهورُهم أخيرًا لا، لا أدري عنهم، يعني هل عُرِفَ عنهم التصريحُ بما صرَّحَ به سلفُهم الأوَّلُ، جوَّزُوا على النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو أن يكونَ ظالمًا، هذا ينطبقُ على ذاكَ؛ ذو الخويصرةِ والآخر والآخر، نعم، "وجوَّزُوا".
– القارئ: وَجَوَّزُوا عَلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فَلَمْ يُنَفِّذُوا لِحُكْمِ النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وَلَا لِحُكْمِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ بَلْ قَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ وَالَاهُمَا قَدْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
– الشيخ: فكفروا عثمانَ وعلي ومعاويةَ والحَكَمين.
– القارئ: فَكَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الذَّنبِ وَبِغَيْرِهِ، وَتَكْفِيرُهُمْ وَتَكْفِيرُ سَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا: أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ. والثَّانِيَةُ: أَنَّ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ
– الشيخ: "وتكفيرُهم" مرَّةً ثانيةً "وتكفيرهم"؟
– القارئ: وَتَكْفِيرُهُمْ وَتَكْفِيرُ سَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ..
– الشيخ: يعني تكفيرُ الخوارجِ للمسلمينَ، وتكفيرُ سائرِ أهلِ البدعِ أيضًا لأهلِ السنّةِ، ليس المقصودُ تكفيرَ أهلِ السنَّةِ للخوارجِ، أو تكفيرَ أهلِ السنَّةِ لسائرِ أهلِ البدعِ، فالمصدرُ هنا مُضافٌ إلى فاعلِه، فتكفيرُهم للمسلمينَ أو لمن كفَّروهُ -أعني الخوارجَ- وتكفيرُ سائرِ أهلِ البدعِ، تكفيرُهم وتكفيرُ سائرِ أهلِ البدعِ مبنيٌّ على مُقدِّمَتَينِ.
– القارئ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ. والثَّانِيَةُ: أَنَّ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُذْنِبًا مُعْتَقِدًا لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ.
وَبِإِزَائِهِمْ "الشِّيعَةُ" غَلَوْا فِي الْأَئِمَّةِ وَجَعَلُوهُمْ مَعْصُومِينَ يَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَوْجَبُوا الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَلَا يُعَرِّجُونَ لَا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى السُّنَّةِ
– الشيخ: أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ.
– القارئ: بَلْ عَلَى قَوْلِ مَنْ ظَنُّوهُ مَعْصُومًا، وَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامِ مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ
– الشيخ: وهو الإمامُ، وهو الإمامُ المُنتظَرُ زعموا، الإمامُ المنتظرُ، الذي هو محمَّدُ بنُ الحسنِ الذي يزعمونَ أنَّه دخلَ السِّردابَ في سامرّاءَ، في عامِ كذا في مائتين وخمسين، ولم يزل، وقد دخلَ السِّردابَ وهو ابنُ كذا، ابنُ ستِّ سنينَ أو سبعِ سنينَ، وهم ينتظرونَه ويأتونَ إلى هذا الموضعِ ويُنادونَ عليه: أخرج أخرج، وإذا جاؤوا يقولون وذكروه يقولونَ: عجَّلَ اللهُ فَرَجَهُ، إلى آخرِه.
– القارئ: فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْ الْخَوَارِجِ فَإِنَّ أُولَئِكَ
– الشيخ: نعم الشيعةُ الرافضةُ أضلُّ من الخوارجِ، أضلُّ من الخوارجِ، الخوارجُ لهم شُبُهاتٌ يعني من القرآنِ فهموها ووضعوها في غيرِ موضعِها، أمَّا هؤلاءِ ليس لهم لمذهبِهم أدلَّةٌ عقليَّةٌ ولا نقليَّةٌ.
– القارئ: فَإِنَّ أُولَئِكَ يَرْجِعُونَ إلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ غَلِطُوا فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ؛ بَلْ إلَى مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يُنْقَلُ لَهُمْ عَنْ بَعْضِ الْمَوْتَى، فَيَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلِ غَيْرِ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ.
– الشيخ: لعلَّهُ يعني بقولِه "عن بعضِ الموتى" يعني من أئمّتِهم، عن فلانٍ أو فلانٍ عن جعفرَ، عن زينِ العابدين وعن، عمّن يزعمونَهم أئمّتُهم وهم بُراءُ منهم، جعفرُ وأبوه وجدُّه كلُّهم بريئونَ من الرافضةِ.
– القارئ: وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ الطَّوَائِفِ، وَالْخَوَارِجُ صَادِقُونَ فَحَدِيثُهُمْ مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ الشِّيعَةِ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ.
وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ دِينُهُمْ الْمُعَظَّمُ مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالشِّيعَةُ تَخْتَارُ هَذَا؛ لَكِنَّهُمْ عَاجِزُونَ، وَالزَّيْدِيَّةُ تَفْعَلُ هَذَا، وَالْإِمَامِيَّةُ تَارَةً تَفْعَلُهُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: لَا نَقْتُلُ إلَّا تَحْتَ رَايَةِ إمَامٍ مَعْصُومٍ، وَالشِّيعَةُ اسْتَتْبَعُوا أَعْدَاءَ الْمِلَّةِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا
– الشيخ: أعد هذه الجملة ذي لنشوف؟
– القارئ: وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ دِينُهُمْ الْمُعَظَّمُ مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالشِّيعَةُ تَخْتَارُ هَذَا؛ لَكِنَّهُمْ
– الشيخ: تختارُ هذا، يعني تختارُ مُفارَقةَ جماعةِ المسلمينَ وسفكَ الدماءِ؛ لكنَّهم عاجزونَ ما يفعلون.
– القارئ: وَالزَّيْدِيَّةُ تَفْعَلُ هَذَا، وَالْإِمَامِيَّةُ تَارَةً تَفْعَلُهُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: لَا نَقْتُلُ إلَّا تَحْتَ رَايَةِ إمَامٍ مَعْصُومٍ
– الشيخ: كأنّها لا نُقَاتِلُ، ما في نسخة "لا نُقَاتِلُ"؟
– القارئ: لا أعلمُ يا شيخ
– الشيخ: لأنَّ المناسبَ "لا نُقَاتِلُ".
– القارئ: وَالشِّيعَةُ اسْتَتْبَعُوا أَعْدَاءَ الْمِلَّةِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ.
– الشيخ: اسْتَتْبَعُوا، يقول: وَالشِّيعَةُ، يعني الرافضة ترى.
– القارئ: وَالشِّيعَةُ اسْتَتْبَعُوا أَعْدَاءَ الْمِلَّةِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا أَوْصَتْ الْمَلَاحِدَةُ -مِثْلُ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْبَحْرَيْنِ، وَهُمْ مِنْ أَكْفَرِ الْخَلْقِ، وَمِثْلُ قَرَامِطَةِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ، وَهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ بِالتَّشَيُّعِ- أَوْصَوْا بِأَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَابِ التَّشَيُّعِ؛ فَإِنَّهُمْ يَفْتَحُونَ الْبَابَ لِكُلِّ عَدُوٍّ لِلْإِسْلَامِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ
– الشيخ: أقول: الأمةُ بُلِيَتْ بهم، الآن اشتدّت المِحْنةُ بهم، نسألُ اللهَ أن يُضعفَهم ويُضعِفَ قوَّتَهم بعزِّ الإسلامِ وبعزِّ أهلِ السنةِ والجماعةِ، ازدادَ شرُّهم وتسلُّطُهم بالعدوانِ على المسلمينَ، على أهلِ السنةِ، وبنشرِ مذهبِهم في النواحي، لما قامتْ لهم هذه الدولةُ المخذولةُ، خذَلهم اللهُ.
– القارئ: وَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ)، فَحَضَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: (وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ثَلَاثًا)، فَوَصَّى الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ أَئِمَّةً يَرْجِعُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ، فَانْتَحَلَتْ الْخَوَارِجُ كِتَابَ اللَّهِ، وَانْتَحَلَتْ الشِّيعَةُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُتَّبِعٍ لِمَا انْتَحَلَهُ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ خَالَفُوا السُّنَّةَ الَّتِي أَمَرَ الْقُرْآنُ بِاتِّبَاعِهَا، وَكَفَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِمْ، وَلِهَذَا تَأَوَّلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ [البقرة:26-27]، وَصَارُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنْ الْقُرْآنِ؛ فَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُمْ بِمَعْنَاهُ، وَلَا رُسُوخٍ فِي الْعِلْمِ، وَلَا اتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ، وَلَا مُرَاجَعَةٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ. وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الشِّيعَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ
– الشيخ: أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ، نسألُ اللهَ العافيةَ.
– القارئ: وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الشِّيعَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ حَدَثَ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ "الْقَدَرِيَّةُ"، فَكَانَتْ الْخَوَارِجُ تَتَكَلَّمُ فِي حُكْمِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ: أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَحُكْمِ مَنْ وَافَقَ ذَلِكَ وَمَنْ خَالَفَهُ، وَمَنْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَهِيَ "مَسَائِلُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ"، وَسُمُّوا مُحَكِّمَةً لِخَوْضِهِمْ فِي التَّحْكِيمِ بِالْبَاطِلِ، وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا قَالَ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، قَالُوا: هُوَ مُحَكِّمٌ؛ أَيْ: خَائِضٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ؛ فَخَاضَ أُولَئِكَ فِي شَرْعِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا "الْقَدَرِيَّةُ" فَخَاضُوا فِي قَدَرِهِ بِالْبَاطِلِ. وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْقَدَرَ يُنَاقِضُ الشَّرْعَ، فَصَارُوا حِزْبَيْنِ؛ حِزْبًا يُعَظِّمُونَ الشَّرْعَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَاتِّبَاعَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَجْرَ مَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ، وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ؛ فَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، كَمَا قَطَعَتْ الْخَوَارِجُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْجَمَاعَةِ؛ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَكَذَلِكَ "الْقَدَرِيَّةُ"؛ فَصَارُوا حِزْبَيْنِ؛ حِزْبًا يُغَلِّبُ الشَّرْعَ؛ فَيُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ وَيَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي بَعْضَهُ، وحِزْبًا يُغَلِّبُ الْقَدَرَ؛ فَيَنْفِي الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ يَنْفِي حَقِيقَتَهُ.
– الشيخ: وهم الجَبْريَّةُ، يُسمَّونَ الجَبْريَّةُ، نعم، وحزبٌ وحزبٌ.
– القارئ: وحِزْبًا يُغَلِّبُ الْقَدَرَ؛ فَيَنْفِي الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ يَنْفِي حَقِيقَتَهُ، وَيَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُبْغِضُهُ؛ لَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ؛ يَأمُر بِهَذَا وَيَنْهَى عَنْ مِثْلِهِ؛ فَجَحَدُوا الْفَرْقَ وَالْفَصْلَ الَّذِي بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْفَرْقِ فَأَنْكَرُوا الْجَمْعَ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ، وَأَثْبَتُوا لِغَيْرِ اللَّهِ الِانْفِرَادَ بِالْأَحْدَاثِ وَشُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ.
– الشيخ: أو بِالْإحْدَاثِ.. كأنّها: إحْدَاثٌ"، عندك أحداثٌ؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: لفوق الهمزة؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: لا؛ بِالْإحْدَاثِ
– القارئ: وَأَثْبَتُوا لِغَيْرِ اللَّهِ الِانْفِرَادَ بِالْإحْدَاثِ وَشُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كَمَا فَعَلَتْ الْمَجُوسُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ إلَّا مَعَ تَعْجِيزِهِ أَوْ تَجْهِيلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ إنْ لَمْ يُجْعَلْ عَاجِزًا وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا. كَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمُجَبِّرَةَ قَالُوا: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِتَسْفِيهِهِ وَتَجْوِيرِهِ.
فَهَؤُلَاءِ نَفَوْا حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ، وَأُولَئِكَ نَفَوْا قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ، أَوْ قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَعِلْمَهُ، وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الْمَجُوسَ فِي الْإِشْرَاكِ بِرُبُوبِيَّتِهِ حَيْثُ جَعَلُوا غَيْرَهُ خَالِقًا، وَأُولَئِكَ ضَاهَوْا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ؛ بَلْ يُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا يُجَوِّزُونَ عِبَادَتَهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا الْآيَةَ، وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى تَوْحِيدِهِمْ تَوْحِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُمْ يُنْكِرُونَهُ؛ وَلِهَذَا هُمْ أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَتَجْوِيزًا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمُنْتَهَى مُتَكَلِّمِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ
– الشيخ: يريدُ الجبريةُ، يريدُ من القدريةِ الجبريةِ.
– القارئ: وَمُنْتَهَى مُتَكَلِّمِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ تَجْوِيزُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّ الْعَارِفَ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فَبَاحَ بِهَا مُتَأَخِّرُوهُمْ؛ كالرازي صَنَّفَ فِيهَا مُصَنَّفًا، وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمَا؛ يُصَرِّحُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهَا وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ. فالْقَدَرِيَّةُ أَصْلُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَفَعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلَ؛ فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ، وَقَالُوا: نُثْبِتُ حِكْمَتُهُ كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يُوجِبُ السَّفَهَ وَالظُّلْمَ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؛ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا يُلَامُ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ الْمُجَبِّرَةُ: بَلْ قُدْرَتُهُ ثَابِتَةٌ بِلَا حِكْمَةٍ.
– الشيخ: الظاهرُ أنها تُنطقُ المُجبِرة.
– القارئ: المُجْبَرةُ يا شيخ؟
– الشيخ: المُجبِرة.
– القارئ: وَقَالَتْ المُجبِرةُ: بَلْ قُدْرَتُهُ ثَابِتَةٌ بِلَا حِكْمَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ لِحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْحَاجَةِ، وَلَا عَدْلَ وَلَا ظُلْمَ بَلْ كُلُّ مَا أَمْكَنَ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ، وَلَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ مَا هُوَ حَسَنٌ يَنْبَغِي الْأَمْرُ بِهِ، وَقَبِيحٌ يَنْبَغِي النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَا مَعْرُوفَ وَمُنْكَرَ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأمُر بِكُلِّ شَيْءٍ، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.
ثُمَّ مَنْ حَقَّقَ مِنْهُمْ أَنْكَرَ الشَّرْعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنْكَرَ النُّبُوَّاتِ مَعَ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَأمُر بِشَيْءِ وَيَنْهَى عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَحِيصًا؛ لَكِنْ مَنْ اتَّبَعَ الْأَنْبِيَاءَ يَأمُر بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَنْفَعُ غَيْرَهُ، وَيَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ، وَمَنْ خَالَفَ الْأَنْبِيَاءَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأمُر بِمَا يَضُرُّ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ فَيَسْتَحِقُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِرًّا بِالنُّبُوَّةِ فَأَنْكَرَ الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ: الْعَارِفُ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً
– الشيخ: الظاهرُ الكلام متواصلٌ، "وأمَّا"، إلى هنا.. اللهُ المستعانُ، رحمهُ اللهُ، يعني هذه مُعادَلاتٌ بين هذه الطوائفِ، وموازناتٌ بين الخوارجِ والشيعةِ، وبين القدريةِ المُجْبِرةِ والقدريةِ النفاةِ، كلُّهم ضالّونَ. والحقُّ يعني فكلُّ طائفةٍ عندَها حقٌّ وباطلٌ، والواجبُ قبولُ ما عندَهم من الحقّ، واطِّراحُ ما عندَهم من الباطلِ، ومذهبُ أهلِ السنّةِ جامعٌ لكلِّ الحقّ الذي عندَ الطوائفِ، وبريءٌ من كلِّ الباطلِ الذي عند الطوائفِ. وأهلُ السنةِ يُؤمنونَ بالقرآنِ وبالسنَّةِ ويُحكِّمونَهُما، ويدعونَ إلى لزومِ جماعةِ المسلمينَ، ولا يستحلُّونَ دماءَ المسلمينَ بغيرِ حقٍّ، وهكذا. ويؤمنونَ بكمالِ قدرةِ الربِّ وحكمتِه وعدلِه سبحانَه وتعالى، يُؤمنونُ بشرعِه، بشرعِه وقَدَرِهِ جميعًا، هذا مذهبُ أهلِ السنَّةِ، أسألُ اللهَ أنْ يُثبِّتَنَا وإيَّاكم عليه.