بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (التَّبصرة في أصولِ الدِّينِ) لأبي الفرج الشّيرازي
الدِّرس: الحادي والعشرون
*** *** *** ***
- الصَّواب في مسألة تفاضل كلام الله [1] - الرَّد على شبهة "كلّ ما وقعَ عليه الفعلُ فهو مخلوقٌ" [2] - توجيه حديث مجيء سورة البقرة وآل عمران أنَّهما غمامتان [3]
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ: قالَ أبو الفرجِ الشِّيرازيُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في "التَّبصرةِ في أصولِ الدِّينِ" قالَ رحمَهُ اللهُ:
واحتجَّ أيضًا بقولِهِ تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86] والذَّهابُ هوَ الفناءُ فيكونُ الذَّهابُ فيهِ فناءَهُ، وإنَّما يفنى ما كانَ مخلوقًا
– الشيخ : يعني كلُّها، هذا ظاهرٌ أنَّها كلُّها في سياقِ أدلَّة المعتزلة على أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فهو يعرضُ لهذه الشُّبهاتِ، وكلُّها شبهاتٌ داحضةٌ، وللهِ الحمدُ.
– القارئ : والجوابُ أنْ نقولَ: هذا منهم جهلٌ منهم بتأويلِ القرآنِ، وإنَّما معناهُ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86] أي: إنْ شئْنا أنسيْناكَ ما أوحيْنا إليكَ؛ لأنَّ هذا سائغٌ في اللُّغةِ، لأنَّ الرَّجلَ إذا نسيَ آيةً يقولُ: "ذهبَتْ عليَّ وعنِّي آيةُ كذا، وذهبَتْ عليَّ سورةُ كذا" أي: نسيْتُها.
والجوابُ الآخرُ: وهوَ أنَّهُ يُحتمَلُ أنْ يكونَ معناهُ: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86] أي: لنرفعَنَّهُ مِن الصُّدورِ والمصاحفِ، وإنَّما امتنَّ عليهِ الحقُّ -سبحانَهُ وتعالى- ببقاءِ كلامِهِ في صدرِهِ فقالَ تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى:6] أي: سنثبتُهُ في صدرِكَ فلا تنسى.
واحتجَّ بقولِهِ تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13] وما لهُ مثلٌ فهوَ مخلوقٌ.
والجوابُ: هوَ أنَّ معنى الآيةِ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود:13] لأنَّكم زعمْتُم أنَّهُ كلامُ آدميٍّ، فإنْ كانَ كما زعمْتُم فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فأعجزَهم الحقُّ -سبحانَهُ وتعالى- أنْ يأتوا بسورةٍ مِن مثلِهِ بالنَّظمِ والنَّثرِ، فلمَّا عجزُوا عن ذلكَ علمُوا أنَّهُ ليسَ بكلامِ آدميٍّ، بل هوَ كلامُ اللهِ تعالى، وليسَ بمخلوقٍ كما زعمُوا هم؛ لأنَّهُ لو كانَ كما زعمُوا لكانَ لهُ مثلٌ، فلمَّا لم يكنْ لهُ مثلٌ وعجزُوا عن إتيانِ بمثلِهِ معَ كونِهم كانُوا مِن أفصحِ العُرباءِ دلَّ على أنَّهُ كلامُ الباري تعالى وأنَّهُ قديمٌ غيرُ مخلوقٍ على ما ذكرْناهُ.
واحتجَّ أيضًا بقولِهِ تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] وما كانَ بعضُهُ خيرًا مِن بعضٍ كانَ مخلوقًا.
والجوابُ أنْ نقولَ: أنَّ معنى قولِهِ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي: نأتي منها بخيرٍ، كما قالَ اللهُ تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل:89] فإنَّ المرادَ بالحسنةِ ها هنا هوَ قولُ: "لا إلهَ إلَّا اللهَ، محمدٌ رسولُ اللهِ"، وإنَّما معنى الآيةِ: نأتي منها بخيرٍ، فكذلكَ معنى الآيةِ وهوَ قولُهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا قد قيلَ في معنى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي: بحكمٍ أخفَّ منها حكمًا {أَوْ مِثْلِهَا} أي: حكمٌ مثلُ حكمِها، فأمَّا أنْ يكونَ أرادَ بهِ المفاضلةَ والمثليَّةَ في الكلامِ فلا.
الحاشية السفلية
↑1 | الصواب في مسألة تفاضل كلام الله - الشيخ : وهذا كأنَّه على قولٍ بأنَّ كلامَ اللهِ لا يتفاضلُ، والصَّوابُ: أنَّ كلامَ اللهِ يتفاضلُ، كما دلَّ على ذلك سنَّةُ رسولِ اللهِ، كما في آيةِ الكرسيِّ، وسورة الإخلاص تعدلُ ثلثَ القرآنِ، وأعظمُ آيةٍ في كتاب اللهِ: آية الكرسيِّ، وسورةُ الفاتحةِ أفضلُ سورةٍ نزلَتْ أنزلَها اللهُ، وليسَ في التَّوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبور مثلها، فالصَّوابُ: أنَّ كلامَ اللهِ يتفاضلُ، وآيات الصِّفات تتفاضلُ بمضمونها، فأين سورةُ: "تبَّتْ" مِن سورةِ "الإخلاص"؟ فهذه متضمِّنةٌ لوعيدِ شقيٍّ من أشقياءِ البشرِ، وهذه متضمِّنةٌ لصفةِ الرَّبِّ، كما قالَ ذاك الرَّجلُ: "إنَّها صفةُ اللهِ فأنا أحبُّها". فعبارةُ المؤلِّف كأنَّها تقتضي أنَّه يذهبُ إلى عدم التَّفاضُلِ في كلامِ اللهِ. - القارئ : واحتجَّ أيضًا بقولِهِ تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] وكلُّ مقدورٍ مخلوقٌ. والجوابُ: هوَ أنَّ معنى الآيةِ: وكانَ المقدورُ بأمرِ اللهِ تعالى مقدورًا مكونًا؛ لأنَّ المقدورَ لا يكونُ إلَّا بأمرِ اللهِ تعالى. واحتجَّ أيضًا بقولِهِ تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] وهوَ في وزنِ: "فضَّلَهُ تفضيلًا" وهذا يدلُّ على أنَّهُ مفعولٌ، وكلُّ ما وقعَ عليهِ الفعلُ فهوَ مخلوقٌ. والجوابُ هوَ أنَّا نقولُ: إنَّ هذا ليسَ بمفعولٍ حقيقيٍّ، وإنَّما هوَ مصدرٌ دخلَ في الكلامِ تأكيدًا، وهوَ في وزنِ: "علَّمَهُ تعليمًا" ثمَّ ثبتَ أنَّ العلمَ ليسَ المُرادُ منهُ الفعلَ وكذلكَ الكلامَ، وأمَّا قولُهُ: "كلُّ ما وقعَ عليهِ الفعلُ فهوَ مخلوقٌ" فإنَّهُ كلامٌ فاسدٌ؛ لأنَّ اللهَ معلومٌ لقلوبِنا، ومعبودٌ منَّا بإجماعٍ منَّا ومنكم ويلزمُنا معرفتُهُ، ولا يُوجِبُ كونُهُ مخلوقًا، فكذلكَ كلامُهُ وكذلكَ هوَ منظورٌ لأعينِنا على أصلِنا، ولا يُوجِبُ ذلكَ كونُهُ مخلوقًا فكذلكَ كلامُهُ |
---|---|
↑2 | الرد على شبهة كل ما وقع عليه الفعل فهو مخلوق - الشيخ : "منظورٌ بأعينِنا" يعني: يومَ القيامةِ، على مذهبِ أهلِ السُّنَّة أنَّ اللهَ يراه المؤمنون وينظرونه عِيانًا بأبصارهم، والمؤلِّفُ يردُّ هذه الشُّبهةَ السَّمِجَةَ الَّذي مضمونُها أنَّ كلَّ ما وقعَ عليه الفعلُ فهو مخلوقٌ، واللهُ تعالى معلومٌ ومسموعٌ وكلامُه مسموعٌ ومذكورٌ سبحانه وتعالى، تقولُ: "اذكروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، اذكروا اللهَ"، يُقالُ في النَّحو وفي الإعرابِ: "اللهُ مفعولٌ" يعني: مذكورٌ، اللهُ مذكورٌ. - القارئ : واحتجَّ أيضًا بما روى عمرانُ بنُ حصينٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّهُ قالَ: (كَانَ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الذِّكْرَ، ثُمَّ خَلَقَ الذِّكْرَ فَكَتَبَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ). والجوابُ: هوَ أنَّ هذا حديثٌ ضعَّفَهُ إمامُنا أحمدُ -رحمَهُ اللهُ-، وقالَ: هذا حديثٌ موضوعٌ، وإنْ صحَّ لم يكنْ فيهِ حجَّةٌ؛ لأنَّهُ قالَ: (ثُمَّ خَلَقَ الذِّكْرَ فَكَتَبَ فِيهِ) والذِّكرُ لا يُكتَبُ فيهِ، فعُلِمَ أنَّ المُرادَ هوَ محلُّ الذِّكرِ الَّذي هوَ اللَّوحُ المحفوظُ - الشيخ : وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ [الأنبياء:105] - القارئ : ولا يمتنعُ أنْ يُسمَّى محلُّ الشَّيءِ باسمِ الشَّيءِ، كقولِهِ تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37] والمُرادُ به: لمن كانَ لهُ عقلٌ، فسمَّى العقلَ قلبًا؛ لأنَّهُ محلٌّ لهُ، وكذلكَ سمَّى النَّجوَ غائطًا، والغائطُ: هوَ المكانُ المطمئِنُ مِن الأرضِ، فسمَّى النَّجوَ باسمهِ؛ لقربِهِ ومجاورتِهِ إيَّاهُ، وكذلكَ أيضًا قولُ الشَّاعرِ: تمشي الهُوينى بالنِّسا البُزَّلِ ... مشيَ الرُّويَّةِ بالمزادِ الأثقلِ فسمَّى البعيرَ راويةً؛ لقربِهِ منها، وكذلكَ أيضًا سمَّى اللَّوحَ المحفوظَ ذِكرًا لمجاورتِهِ لهُ وقربِهِ منهُ. واحتجَّ أيضًا بما رُوِيَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّهُ قالَ: (تأتي سورةُ البقرةِ وآلِ عمرانَ يومَ القيامةِ كأنَّهما غمامتانِ أو غيايتانِ) وكذلكَ قولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (يجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ في أحسنِ صورةٍ)، وقولُهُ: (إنَّ سورةً تجادلُ عن صاحبِها وهيَ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]) وكلُّ ما كانَ هذهِ صفتُهُ فهوَ مخلوقٌ. والجوابُ: هوَ أنَّ ظاهرَ هذهِ الأحاديثِ لا يقولُ بها مخالفُنا، لأنَّ الغمامَ جسمٌ بالإجماعِ، والقرآنُ ليسَ بجسمٍ، فحينئذٍ بطلَ احتجاجُهُ. وجوابٌ آخرُ: وهوَ أنَّ معنى الخبرِ هوَ أنَّ حاملَ القرآنِ يأتي يومَ القيامةِ في أحسنِ صورةٍ، وأنَّ حافظَ سورةِ البقرةِ وآلِ عمرانَ يأتي يومَ القيامةِ وعلى رأسِهِ غمامتانِ يظلَّانِهِ يومَ القيامةِ. |
↑3 | توجيه حديث مجيء سورة البقرة وآل عمران أنهما غمامتان - الشيخ : الحديثُ ظاهرُ الدَّلالةِ على أنَّ سورةَ البقرة وآل عمران تأتيان، والمرادُ فعلُ القارئِ والحافظِ، ليسَتْ نفسَ كلامِ اللهِ، كلامُ اللهِ لا يكونُ غمامًا ولا مثلَ الغمام، إنَّما الَّذي يأتي فسَّرَه من فسَّرَه من أهلِ السُّنَّة بأنَّ هذا محمولٌ على القراءة، فِعْلُ العاملِ. - القارئ : واحتجَّ - الشيخ : مواصلٌ؟ - القارئ : بما رُوِيَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن روايةِ ابنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّهُ قالَ: (ما خلقَ اللهُ مِن سماءٍ ولا أرضٍ ولا شيءٍ أعظمَ مِن آيةِ الكرسيِّ). والجوابُ: أنْ نقولَ: ما خلقَ اللهُ أعظمَ مِن قارئِ آيةِ الكرسيِّ، لأنَّ قدرَ العبدِ الموحِّدِ مِن أمَّةِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أعظمُ قدرًا مِن السَّماءِ والأرضِ، ولهذا فضَّلَهُ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- على البيتِ الحرامِ - الشيخ : (حرمةُ المؤمِنِ أعظمُ مِن حرمةِ هذا البيتِ) أيش قالَ على الأثر هذا؟ - القارئ : يقولُ: صحيحٌ موقوفٌ على ابنِ مسعودٍ، في الحاشيةِ: قالَ البخاريُّ في "خلقِ أفعالِ العبادِ": قالَ سفيانُ بنُ عيينةَ في تفسيرِهِ: إنَّ كلَّ شيءٍ مخلوقٌ، والقرآنُ ليسَ بمخلوقٍ، وكلامُهُ أعظمُ مِن خلقِهِ؛ لأنَّهُ يقولُ للشَّيءِ: "كنْ" فيكونُ، فلا يكونُ شيءٌ أعظمَ ممَّا يكونُ بهِ الخلقُ، والقرآنُ كلامُ اللهِ"، وقالَ ابنُ تيميةَ: "وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْأَثَرِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ لا أنَّهَا هِيَ مَخْلُوقَةٌ - الشيخ : أقولُ: هذا هو التَّوجيه الصَّواب، وهذا من جنسِ ما قبله، من جنسِ ما قالَ سفيان - القارئ : لا أنَّهَا هِيَ مَخْلُوقَةٌ، كَمَا يُقَالُ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ مَخْلُوقًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الْأَئِمَّةُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ. - الشيخ : هذا من كلامِ الشَّيخ؟ - القارئ : نعم - الشيخ : أحسنْتَ - القارئ : واحتجَّ أيضًا بأنْ قالَ - الشيخ : لعلَّك تقفُ، رحمه اللهُ، اللهُ المستعانُ. |