بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (التَّبصرة في أصولِ الدِّينِ) لأبي الفرج الشّيرازي
الدِّرس: الثَّالث والعشرون
*** *** *** ***
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ قالَ أبو الفرجِ الشِّيرازيُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ "التَّبصرةِ في أصولِ الدينِ"، قالَ رحمَهُ اللهُ:
فصلٌ: والدَّلالةُ على أنَّ القرآنَ منزَّلٌ وكذلكَ المئة كتابٍ والأربعُ كتبٍ خلافًا للأشعريَّةِ في قولِهم: لم يُنزِلِ اللهُ إلى الأرضِ كلامًا ولا كتابًا، وإنَّما نزَّلَ عبارتَهُ وتلاوتَهُ
– الشيخ : لأنَّ الكلامَ عندَهم معنىً نفسيٌّ قائمٌ بالرَّبِّ، لا يُسمَعُ ولا ينزلُ، كيفَ ينزلُ وهوَ قائمٌ بالرَّبِّ كقيامِ علمِه به وحياتِه به؟ فقولُهم: أنَّه لم ينزلْ لله كلامٌ، مبنيٌّ على هذا التَّأصيلِ الفاسدِ.
– القارئ : دليلُنا قولُهُ تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:80] وكذلكَ قولُهُ تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195] والمتقدِّمُ ذكرُهُ هوَ القرآنُ.
دليلٌ ثانٍ: قولُهُ تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف:2] وكذلكَ قولُهُ تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]
دليلٌ ثالثٌ: قولُهُ تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] وقولُهُ تعالى: لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [يونس:94] وقولُهُ تعالى: وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء:106] إلى غيرِ ذلكَ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على تنزيلِهِ ممَّا لا يُحصَى ولا يُعَدُّ.
دليلٌ رابعٌ
– الشيخ : الآياتُ الَّتي فيها ذكرُ التَّنزيلِ تنزيل القرآن افتُتِحَتْ بها عددٌ من السُّورِ، آل حم: غافر وفصلت والجاثية، والأحقاف، كلُّها افتُتِحَتْ بذكرِ التَّنزيلِ، والزُّمر تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وغير ذلك، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] فكتبُ اللهِ منزلةٌ.
– القارئ : دليلٌ رابعٌ: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهُ قالَ: (أُنزِلَ القرآنُ مِن سبعةِ أبوابٍ على سبعةِ أحرفٍ، كلُّها شافٍ كافٍ).
دليلٌ خامسٌ: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهُ قالَ: (القرآنُ كلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ منهُ بدأَ وإليهِ يعودُ)
– الشيخ : أيش قالَ عليه المحقِّق؟ هذا معنى ما يقوله أهلُ السُّنَّةِ، لكن كونُه مرفوعٌ، هذا فيه نظرٌ.
– القارئ : نقلَ عن البيهقيِّ أنَّهُ قالَ: ونُقِلَ إلينا عن أبي الدَّرداءِ -رضيَ اللهُ عنهُ- مرفوعًا: (القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ) ورُوِيَ أيضًا عن معاذِ بنِ جبلٍ وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ وجابرِ بنِ عبدِ اللهِ مرفوعًا، ولا يصحُّ شيءٌ مِن ذلكَ أسانيدُهُ مظلمةٌ لا ينبغي أنْ يُحتَجَّ بشيءٍ منها، ولا أنْ يُستشهَدَ بشيءٍ منها، قالَ ابنُ الجوزيِّ في الموضوعاتِ: ورُوِيَ في هذا البابِ أحاديثٌ عن رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليسَ فيها شيءٌ يثبتُ عنهُ.
– الشيخ : نعم، واضحٌ
– القارئ : دليلٌ سادسٌ: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهُ قالَ: (أُنزِلَ القرآنُ يصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، فلا تضربُوا كتابَ اللهِ بعضَهُ ببعضٍ، إنَّ ذلكَ يوقعُ الشَّكَّ في قلوبِكم)
– الشيخ : نعم
– القارئ : قالَ: لم أجدْهُ بهذا اللَّفظِ، ثمَّ قالَ: وقد أخرجَ عبدُ الرَّزَّاقِ قريبًا مِن هذا اللَّفظِ.
دليلٌ سابعٌ: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهُ قالَ: (نزلَ عليَّ جبريلُ بالقرآنِ مِن أوَّلِهِ إلى آخرِهِ في ليلةِ القدرِ)
– الشيخ : وهذا مثلُ الَّذي قبلَه
– القارئ : نعم، قالَ: لم أجدْهُ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على أنَّهُ يخالفُ ظاهرَ القرآنِ.
– الشيخ : هذا مثلٌ، الأشبهُ أنْ يكونَ لا أصلَ له، موضوعٌ.. بس [فقط] اقتصرَ على.. أقولُ: هذا التَّعليقُ بس [فقط]؟
– القارئ : سم؟
– الشيخ : أقولُ: هذا هو التَّعليق ما زادَ؟
– القارئ : يقولُ: وقد صحَّ اللَّفظُ الثَّاني مِن قولِ ابنِ عبَّاسٍ، اللَّفظُ الثَّاني الي بيأتي الآنَ
ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: (أُنزِلَ إلى بيتِ العزَّةِ ونزلَ بهِ جبريلُ -عليهِ السَّلامُ- عليَّ نجومًا في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً)
– الشيخ : هذا مرفوعٌ يعني؟
– القارئ : إي نعم، على أساسِ أنَّه مرفوعٌ
– الشيخ : سبحانَ الله!
– القارئ : دليلٌ ثامنٌ: أنَّهُ لم يبعثِ اللهُ تعالى نبيًّا إلَّا ومعَهُ معجزةٌ تدلُّ على صدقِ قولِهِ مِن جنسِ ما قومُهُ عليهِ، فمعجزةُ موسى -عليهِ السَّلامُ- بُعِثَ في زمانِ السَّحرةِ والمنجِّمينَ والكهنةِ، وكانَتْ معجزتُهُ العصا؛ لأنَّها ابتلعَتْ عصا السَّحرةِ
– الشيخ : عصي
– القارئ : لأنَّها ابتلعَتْ عصيَّ السَّحرةِ وحبالَهم، ولم تتغيَّرْ صفاتُهُ، وعصيُّ السَّحرةِ كانَتْ متغيِّرةً صفاتُها: فتطولُ تارةً وتقصرُ أخرى وتكبرُ بطونُها، فلمَّا عجزُوا عن الإتيانِ بمثلِ ما أتى بهِ موسى -عليهِ السَّلامُ- علمُوا أنَّهُ نبيٌّ واستدلُّوا على أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وكذلكَ بُعِثَ عيسى بنُ مريمَ -عليهِ السَّلامُ- في زمنِ الأطبَّاءِ والحكماءِ الَّذين يُبرِئُونَ مِن العاهاتِ والعللِ وكانَتْ معجزتُهُ إبراءُ الأكمهِ والأبرصِ وإحياءُ الموتى فلمَّا عجزُوا عن ذلكَ معَ كونِهم حكماءَ الدُّنيا استدلُّوا على أنَّهُ نبيٌّ مرسَلٌ مِن عندِ اللهِ تعالى.
ونبيُّنا محمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعِثَ في زمنِ الفصحاءِ والبلغاءِ الَّذين كانُوا يقدرونَ على النَّظمِ والنَّثرِ والخطبِ كامرئِ القيسِ وغيرِهِ، وأُنزِلَ القرآنُ عليهِ فلمَّا أُنزِلَ عليهِ القرآنُ قالَ: ائِتُوا بمثلِهِ، فما قدرُوا على الإتيانِ بمثلِهِ، فلمَّا عجزُوا عن الإتيانِ بمثلِهِ معَ كونِهم مِن أفصحِ العُرباءِ، على ما كانُوا يزعمونَ على أنفسِهم بالفصاحةِ
– الشيخ : العُرباء وإلا العَرباء؟
– القارئ : ما هي مشكولة عندي
– الشيخ : كأنَّها العَرباء، العربُ العَرباءُ
– القارئ : معَ كونِهم مِن أفصحِ العَرباءِ، على ما كانُوا يزعمونَ على أنفسِهم بالفصاحةِ والبلاغةِ، وعجزُوا عن ذلكَ، علمُوا أنَّهُ مِن اللهِ، واستدلُّوا على أنَّهُ مِن كلامِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى وعلمُوا بأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولٌ مِن عندِ اللهِ مرسَلٌ
– الشيخ : هؤلاء يعني المؤمنون منهم، الَّذين آمنوا، أمَّا الكفرةُ فهم لا يقرُّون بذلك.
– القارئ : فإذا قيلَ: بأنَّ اللهَ تعالى ما أنزلَ عليهِ قرآنًا فيكونُ قد قالُوا ببطلانِ معجزتِهِ وإذا بطلَتْ معجزتُهُ بطلَتْ نبوَّتُهُ؛ لأنَّ مِن جملةِ ثبوتِ النُّبوَّةِ ثبوتُ المعجزةِ؛ لأنَّ ثبوتَ المعجزةِ دليلٌ على ثبوتِ النُّبوَّةِ؛ لأنَّ المعجزةَ تصديقٌ على صحَّةِ ثبوتِ الدَّعوةِ وهيَ النُّبوَّةُ، ولا يجوزُ لقائلٍ أنْ يقولَ: إنَّ النُّبوَّةَ ثبتَتْ بغيرِ القرآنِ لغيرِهِ مِن المعجزاتِ، لأنَّهُ هوَ المعجزةُ السَّابقةُ ومِن أعظمِ المعجزاتِ، فإذا قالُوا ببطلانِ الأعظمِ فيكونونَ قد قالُوا ببطلانِ الأصغرِ ضرورةً، كونَ أنَّ بطلانَ الأعظمِ أصعبُ مِن بطلانِ الأصغرِ ضرورةً، فإذا أمكنَ لهم إنكارُ معجزةِ الأعظمِ فلا مانعَ يمنعُهم مِن إنكارِ معجزةِ الأصغرِ لكونِ إنكارِ الأعظمِ أعظمَ وأصعبَ، ثمَّ الثَّانيةُ والثَّالثةُ يؤكِّدُها.
دليلٌ تاسعٌ: وهوَ أنَّ الشُّعراءَ مِن شعراءِ الجاهليَّةِ وغيرِهم اعترفُوا بتنزيلِ القرآنِ وذكرُوا دليلَ تنزيلِهِ في نظمِهم ونثرِهم، ولم يظهرِ النَّكيرُ عليهم، ولا نكيرُ بعضِهم على بعضٍ، ولا إنكارُ أحدٍ مِن الأمَّةِ عليهم ولا كذَّبَهم أحدٌ فيما قالُوا، فأوَّلُهم جُبيرٌ، قالَ جبيرٌ:
تصدِّقونَ بمارمِ جبيرٍ وابنِهِ … وتكذِّبونَ بمنزلِ القرآنِ
وقالَ الآخرُ:
يُعيِّرُني بالقتلِ قومي وإنَّما … أموتُ إذا جاءَ الكتابُ المنزَّلُ
وقالَ الرَّاعي:
أخليفةَ الرَّحمنِ أنَّا معشرُ الــ … ـحنفاءِ
– الشيخ : "إنَّا" بالكسر
– القارئ : يُعيِّرُني بالقتلِ قومِي؟
– الشيخ : لا، الَّتي بعدها
– القارئ : أخليفةَ الرَّحمنِ؟
– الشيخ : نعم
– القارئ : إنَّا معشرٌ؟
– الشيخ : تأمَّلْها
– القارئ : أخليفةَ الرَّحمنِ إنَّا معشرُ الــ … ـحنفاءِ نسجدُ بكرةً وأصيلًا
عربٌ نرى للهِ في أموالِنا … حقُّ الزَّكاةِ منزَّلًا تنزيلًا
دليلٌ آخرُ: وهوَ أنَّ الأمَّةَ اجتمعَتْ على أنَّ كلامَ اللهِ منزَّلٌ مِن عندِهِ، وأنَّهُ هوَ الَّذي في أيدينا، وكلُّ قولٍ خالفَ الإجماعَ لم يُقبَلْ مِن قائلِهِ ولا يُلتفَتُ إليهِ، وأيضًا فإنَّهم أنكرُوا على عَبَّادٍ الضَّمريِّ أنَّ القرآنَ ليسَ بمعجزٍ لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا قالُوا بعدمِ تنزيلِهِ فيكونونَ قد أتَوا بأقبحَ مِن قولِهِ: إنَّهُ تقوَّلَ القرآنَ.
– الشيخ : نعم
– القارئ : دليلٌ آخرُ: هوَ أنَّهُ قد ثبتَ بالإجماعِ أنَّنا مكلَّفينَ ومأمورينَ ومنهيِّينَ ولا يكونُ ذلكَ إلَّا بدليلٍ مِن القرآنِ، فإذا قالَ القائلُ: لم ينزلِ القرآنُ، فيكونُ عدمُ نزولِهِ دليلًا على عدمِ نزولِ أمرِهِ ونهيِهِ، فإذا كانَ الأمرُ والنَّهي على هذا التَّقديرِ غيرَ منزَّلٍ، فيكونُ دليلًا على أنَّنا ما كُلِّفْنا ولا خُوطِبْنا بشيءٍ مِن العباداتِ ولا نُهِيْنا على شيءٍ مِن المعصياتِ، وعلى هذا التَّقديرِ يُفضي ما قالُوهُ إلى إبطالِ جميعِ الشَّرائعِ، وإلى طيِّ بساطِ الشَّريعةِ وذلكَ كفرٌ بالاتِّفاقِ منَّا ومنكم، وبلا اختلافٍ بينَ الأمَّةِ، وما يفضي إلى ذلكَ يكونُ محالًا لا محالةَ.
فإنْ احتجَّ المخالفُ
– الشيخ : حسبُكَ، جزاكَ اللهُ خيرًا.