بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح (رسالة ابن القيّم إلى أحد إخوانه)
الدّرس الرّابع عشر
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين. قالَ ابنُ القيّمِ -رحمهُ اللهُ تعالى- في رسالتِهِ إلى أحدِ إخوانِه:
فصلٌ؛ المشهدُ الخَامِسُ: مشهدُ الْمِنَّةِ، وَهُوَ أَن يشهدَ أَنّ المِنَّةَ للهِ سُبْحَانَهُ، كَونه أَقَامَهُ فِي هَذَا المقَام، وَأَهَّلَه لَهُ ووفّقَهُ لقِيَامِ قلبِه وبدنِه فِي خدمتِه، فلولا اللهُ سُبحَانَهُ لم يكن شَيءٌ مِن ذَلِك
– الشيخ: اللهُ أكبر الله أكبر.
– القارئ: كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُحدُّون بَين يَدي النَّبِيِّ -صلّى الله عَلَيْهِ وَسلّم- فَيَقُولُونَ:
(وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهتدينا … وَلَا تصدَّقنا وَلَا صلّينَا).
قَالَ الله تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17]، فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جعلَ المُسلمَ مُسلماً وَالمُصَلي مُصَلياً، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ -عليه الصّلاةُ والسّلامُ-: رَبَّنَا وَٱجْعَلنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّة مُّسْلِمَة لَّكَ [البقرة:128]، وَقَالَ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم: 40]
فالمِنَّةُ للهِ وَحدَه فِي أَنْ جعلَ عَبدَه قَائِمًا بِطَاعَتِهِ، وَكَانَ هَذَا من أعظمِ نعمِهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الله تَعَالَى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، وَقَالَ: وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَٱلعِصْيَانَۚ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ [الحجرات:7].
وَهَذَا المشهدُ من أعظمِ المشَاهدِ وأنفعِها للعَبدِ.
– الشيخ: فضلاً من اللهِ ونِعمةٍ، لو كَمّلتَ الآيةَ كانَ أَولى، فيها مناسبة، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: 8]
– القارئ: وَهَذَا المشهدُ من أعظمِ المشَاهدِ وأنفعِها للعَبدِ، وَكلّما كَانَ العَبدُ أعظمَ توحيداً كَانَ حَظُّهُ من هَذَا المشهدِ أتمَّ.
وَفِيهِ من الفَوَائِدِ أَنّه يَحولُ بَين القلبِ وَبَين العُجبِ بِالعَمَلِ ورؤيتِه، فَإِنَّهُ إِذا شَهِدَ أَنّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ المانُّ بِهِ الْمُوفِّقُ لَهُ الْهَادِي إِلَيْهِ، شَغَلَهُ شُهُودُ ذَلِك عَن رُؤْيَتِهِ والإعجابِ بِهِ، وَأَن يَصولَ بِهِ على النَّاسِ فيُرفَعُ من قلبِهِ، فَلَا يعجبُ بِهِ، وَمِن لِسَانِه فَلَا يَمُنُّ بِهِ وَلَا يَتَكَّثَّرُ بِهِ وَهَذَا شَأْنُ العَمَلِ الْمَرْفُوعِ.
وَمن فَوَائِدِه أَنَّه يُضيفُ الحَمدَ إِلَى وَليِّهِ ومُستحِقِّه فَلَا يَشْهدُ لنَفسِهِ حمداً بل يشهدُهُ كُلُّه لله، كَمَا يَشْهدُ النِّعْمَةَ كلَّهَا للهِ وَالفضلَ كُلَّه لله، وَالْخَيْر كُلَّه فِي يَدَيْهِ وَهَذَا من تَمامِ التَّوْحِيد، فَلَا يسْتَقرُّ قدمُهُ فِي مقَامِ التَّوحِيدِ إِلَّا بِعلمِ ذَلِك وشهودِه، فَإِذا علمَهَ ورَسَخَ فِيهِ صَارَ لَهُ مشهداً، وَإِذا صَارَ لِقَلْبِهِ مشهداً أثمرَ لَهُ من المحبَّةِ والأُنسِ بِاللَّه والشّوقِ إِلَى لِقَائِه والتَّنعُّمِ بِذكرِهِ وطاعتِه مَا لَا نِسْبَةَ بَينَهُ وَبَينَ أَعلَى نعيمِ الدُّنْيَا أَلْبَتَّة. وَمَا للمرءِ خيرٌ فِي حَيَاتِهِ إِذا كَانَ قلبُهُ عَن هَذَا مصدوداً، وَطَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَيْهِ عَنهُ مسدوداً، بل هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3]. فصلٌ..
– الشيخ: إلى هنا بس، لا إله إلّا الله، ما أحسَنَ هذا! شهودُ المِنَّةِ شهودُ النِّعمةِ، إذا عملَ الإنسانُ عملاً صلّى للهِ، قرأَ قرآن، صامَ علَّمَ تعلَّمَ ذَكَرَ ربَّه، فمن أنفعِ ما يكونُ له أن يستحضرَ بقلبِهِ أنّ هذا كلَّه من توفيقِ الله له، ليس شيءٌ من ذلك من نفسِهِ، لأنَّه إذا شَعُرَ أنَّ هذا من نفسِهِ أُعجبَ بها، ورأى عمَلَه وترفَّعَ على الآخرين، وأُصيبَ بالغرور والزُّهو واحتقرَ غيرَه، ولم يشهدْ فضلَ اللهِ عليه ونعمتَه عليه، فهو لا يشكرُ الله.
فمن أنفعِ ما يكونُ للعبدِ أن يشهدَ المِنَّةَ، يشعرُ، عليه أن يستشعِرَ إذا فعلَ شيئاً من ذلك أيَّ خيرٍ أنْ يتذكرَ أنَّ هذا من توفيقِ اللهِ له، أنَّ هذا من فضِلِه، من.. ولا أيضاً يفكّرُ أنَّهُ يعني أنّه أهلٌ لذلك، بل أيضاً يشكرُ ربَّه أنْ جعلَه أهلاً لهذه النِّعمةِ، فهو الذي جعَلَهُ أهلاً، وهو الّذي أنعمَ عليه.
وهذا يُوجبُ للعبدِ أن يعني كثرةَ الاستغفارِ، فلا يغترُّ بعملِهِ بل يشعرُ دائماً مهما عَمِلَ من الأعمالِ الصَّالحةِ يشعرُ بأنَّه مقصِّرٌ، وهذا شَهِدَه، تضمَّنَهُ سيّدُ الاستغفارِ وفيه: (أبوءُ لكَ بنعمتِكَ عليَّ وأبوءُ بذنبي)، فهو يَشهدُ من جِهَةِ ربِّه المِنَّةَ والنِّعمةَ والتَّفضُّلَ، ويَشهَدُ من جهةِ نفسِهِ الذّنبَ والتّقصيرَ وظُلْمَ النّفسِ، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] لا إله إلا الله.