بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح (الرّسالة المدنيّة) لابن تيمية
الدّرس الثّامن
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمين وصلّى الله وسلّم على عبدهِ ورسولهِ نبيّنا محمّد وعلى آلهِ وصَحبهِ أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.
يقولُ شيخُ الإسلامِ الإمام أبو العباس ابن تيمية -رحمهُ الله تعالى- في رسالتهِ: "الرسالةُ المدنية في الحقيقةِ والمجاز في الصفات"، قال رحمهُ الله:
قلتُ له: ونحنُ لا نُنْكرُ لغةَ العربِ التي نَزل َبِها القرآن في هذا كُلّهِ، والمتأوّلونَ للصفاتِ الذينَ حرّفوا الكَلِمَ عَنْ مَواضعهِ، وألحدوا في أسمائهِ وآياتهِ تأوّلوا قولهُ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقولهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] على هذا كُلّه، فقالوا: إنَّ المراد َنِعْمتهُ، أي: نِعمةَ الدنيا ونعمةَ الآخرة، وقالوا: بِقدرتهِ، وقالوا: اللفظُ كِناية عَنْ نَفسِ الجودِ مِنْ غيرِ..
– الشيخ: أيش؟ وقالوا..
– القارئ: وقالوا: اللفظُ كنايةٌ عَنْ نَفْسِ الجودِ مِن غيرِ أن يكونَ هُناكَ يدٌ حقيقةً، بل هذه اللفظة قَد صارتْ حقيقةً في العطاءِ والجودِ، وقولهُ تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي: خَلقتهُ أنا، وإنْ لمْ يَكن هُناكَ يدٌ حقيقيةٌ.
قُلْتُ له: فهذه تأويلاتُهم؟ قال: نعم. قلتُ له: فَننظُر فيما قَدّمنا..
– الشيخ: يعني يريد يُطبّق المقامات المتقدّمة
– القارئ: المقامُ الأول: أنَّ لفظَ اليدينِ بصيغةِ التثنية لمْ يُسْتَعْمل في النعمةِ ولا في القدرة..
– الشيخ: ولا في القدرة؟ أمّا في النعمة فهذا نعم، أمّا في القدرةِ فاستُعمِل لكنْ لا بهذه الصيغة، ما هي بصيغة: فَعلتُ بيديَّ، بمعنى بقوَّتي، جاءَ استعمالُ اليدينِ عِبارةً عَنِ القوّة، في قولك: لا يدانِ لي في هذا الأمر، أو لا يدانِ لهُ بهذا الأمر، يعني لا قُدْرة لهُ عليه، هذا موجود بهذه الصيغة، أمّا بصيغة: يعني فعلتْ يداهُ، أو فَعلتُ بيديَّ فلا، فالشيخ عندما يقول مثل هذا لا بدّ مِنْ أنْ يُفهم أنّهُ يُريدُ الصيغة التي جاءتْ في القرآنِ، يعني وهي قولهُ تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، هذا لا يأتي، لم يأت باللغة العربية مُراداً بها القدرة.
– القارئ: أنَّ لفظَ اليدينِ بصيغة التثنيةِ لمْ يُسْتَعْمل في النعمةِ ولا في القدرة؛ لأنَّ مِن لغةِ القومِ استعمالُ الواحدِ في الجمعِ، كقولهِ تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]
ولفظُ الجمعِ في الواحدِ كقولهِ تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ [آل عمران:173] ولفظُ الجمعِ في الاثنينِ كقولهِ تعالى: صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]
أمّا استعمالُ لفظِ الواحدِ في الاثنينِ، أو الاثنينِ في الواحدِ فلا أصلَ لهُ؛ لأنَّ هذه الألفاظ عددٌ، وهي نصوصٌ في مَعْناها لا يُتجوّزُ بِها، ولا يَجوزُ أنْ يُقالَ: عندي رجلٌ، ويَعْني رَجُليَن، ولا عِنْدي رَجُلانِ، ويَعْني بهِ الجنس؛ لأنَّ اسمَ الواحد يَدلُّ على الجنسِ والجنسُ فيهِ شياع، وكذلكَ اسمُ الجمعِ فيهِ مَعْنى الجنس.
– الشيخ: في شياع يعني عموم، نعم بعده..
– القارئ: وكذلكَ اسمُ الجمعِ فيهِ مَعنْى الجنس، والجنسُ يَحْصلُ بحصولِ الواحد.
فقولهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] لا يجوزُ أنْ يُراد َبهِ القدرة؛ لأنَّ القدرةَ صِفةٌ واحدة، ولا يجوزُ أنْ يُعبّر بالاثنينِ عَن ِالواحد.
– الشيخ: لا إله إلّا الله، لا إله إلّا الله، لا إله إلّا الله، لا إله إلّا الله، إن وجدت كلام للشيخ في المثال الذي ذكرته طيب، عرفت؟
– القارئ: نعم يعني في موضع آخر
– الشيخ: إي، إنْ كانَ ذكرَ قولَ القائل: لا يدانِ، يعني يُقال: لا يدَ لي بهذا الأمر، أو لا يدانِ لي فيهِ، أو لا يدانِ له، وفيهِ أيضاً وتأتي يدان أيضاً بِمعنى قُدَّام، وهذا مِن شُبهاتِهم، مِن شُبهاتِ المتأوّلين، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57] لاحظ، بين يَدَي رحمتهِ، فيُعبَّر بذكرِ اليدينِ عَن القُدَّام، ويُعبّر بِهما عَنِ القوّة في أسلوبٍ مُعيّن، في أساليبَ مُعيّنة، تقول بينَ يَدَيْ كذا، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]
– القارئ: يعني تعبير اثنين عن الواحد
– الشيخ: لأ، ما أستطيع أنْ أقولَ لك تعبير باليدين عن القوة، وباليدين عن القُدّام، بين وذلكَ في أسلوب مُعيّن، إذا جاءت اليدين بعد "بين" فَمَعْناها الأمام.
– القارئ: نعم
– الشيخ: لاحظ
– القارئ: للظرفية، تأتي للظرفية يعني؟
– الشيخ: اليدين، لا ما هي مِنَ الظرفية، "بين" مضاف، و"اليدين" مُضاف إليه، الظرفية في "بين".
– القارئ: نعم
فقولهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] لا يَجوزُ أنْ يُرادَ بهِ القدرة؛ لأنَّ القدرةَ صفةٌ واحدة، ولا يجوزُ أنْ يُعبَّر بالاثنينِ عنِ الواحد.
ولا يجوزُ أنْ يُرادَ بهِ النعمة؛ لأنَّ نِعم الله لا تُحصى، فلا يجوزُ أنْ يُعبَّر عَنِ النعم التي لا تُحصى بصيغةِ التثنية.
– الشيخ: هذا هو نص، الآية نَص في إرادةِ اليدين التي بِهما الفعل، كما ذكرَ في غيرِ هذا الموضع أو يُمكنْ يَذْكُره، إذا أُسندَ الفعلُ للفاعلِ ثمَّ عُدِّيَ لليدِ أو اليدينِ بالباء كانَ اللفظُ نصاً في إرادةِ اليدِ التي بِها الفعل، فَفرقٌ بينَ قولكَ: هذا ما فَعلتْ يَداكَ، هذه نعم يصير المعنى هذا ما فعلتَ، يُتَجوّز باليدينِ عَنِ الفاعل إذا أُسندَ الفعلُ لليدين.
أمّا إذا أُسندَ الفعلُ لفاعلِ ثمَّ عُدِّيَ الفعلُ إلى اليدِ أو اليدينِ بالباءِ كانَ اللفظُ نصّاً في إرادةِ اليدِ، لا القدرةُ ولا النعمةُ ولا نفسُ الفاعِل.
– القارئ: ولا يجوزُ أنْ يُرادَ بهِ النعمة؛ لأنَّ نِعم الله لا تُحصى، فلا يجوزُ أنْ يُعَبِّر عَنِ النعم التي لا تُحصى بصيغةِ التثنية، ولا يجوزُ أنْ يكونَ لِما.
– الشيخ: لأن "يُعبَّر" أحسن
– القارئ: نعم..
– الشيخ: "يُعَبَّر" أحسن تقول
– القارئ: فلا يجوزُ أنْ يُعبَّر عَن النعم التي لا تُحصى بصيغةِ التثنية، ولا يجوزُ أنْ يكونَ لِما خلقتُ أنا؛ لأنّهم إذا أرادوا ذلكَ أضافوا الفعلَ إلى اليدِ..
– الشيخ: صح
– القارئ: فتكونُ إضافتهُ إلى اليدِ إضافةً لهُ إلى الفعلِ..
– الشيخ: إلى الفاعل
– القارئ: كقوله..
– الشيخ: إلى الفاعل
– القارئ: نعم
– الشيخ: إلى الفاعل، اقرأ
– القارئ: فتكونُ إضافتهُ إلى اليدِ إضافةً لهُ إلى الفاعِل..
هنا نسب إلى الفعل يعني
– الشيخ: الفاعل، الفاعل
– القارئ: أحسن الله إليكم
– الشيخ: أعد الجملة، نعم
– القارئ: لأنّهم إذا أرادوا ذلكَ أضافوا الفعلَ إلى اليدِ، فتكونُ إضافتهُ إلى اليدِ إضافةً لهُ إلى الفعل..
– الشيخ: إلى الفاعل
– القارئ: نعم، إضافةً لهُ إلى الفاعل..
– الشيخ: نعم، ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، هذا ما فعل
– القارئ: كقولهِ: بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج: 10] وقَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182] ومنهُ قولهُ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس:71]
أمّا إذا أضافَ الفعلَ إلى الفاعلِ، وعَدّى الفعلَ إلى اليدِ بحرفِ الباءِ، كقولهِ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فإنّهُ نصٌّ في أنّهُ فعلَ الفعلَ بيديهِ؛ ولهذا لا يجوزُ لِمَنْ تكلَّمَ أو مشى أنْ يقال: فعلتَ هذا بيديك..
– الشيخ: فعلتُ هذا..
– القارئ: أنْ يقالَ: فعلتُ هذا بيديك..
– الشيخ: بيديك؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: إذاً فعلتَ نعم، فعلتَ..
– القارئ: نعم نعم، ولهذا لا يجوزُ لِمَنْ تكلَّم أو مشى أنْ يُقال: فعلتَ هذا بيديك ويُقال: هذا فَعَلَتْهُ يَداك؛ لأنَّ مجرّد قولهِ: فعلتَ، كافٍ في الإضافةِ إلى الفاعلِ، فلو لمْ يَرِدْ أنّهُ فعلهُ باليدِ حقيقةً..
– الشيخ: فلو لم يُرِد..
– القارئ: فلو لمْ يُرِدْ أنّهُ فَعلهُ باليدِ حقيقةً كانَ ذلكَ زيادةً مَحْضة مِنْ غيرِ فائدة، ولسْتَ تجدُ في كلامِ العربِ ولا العجمِ إنْ شاءَ الله تعالى أنَّ فَصيحًا يقول: فَعلتُ هذا بيدي، أو فُلانٌ فَعلَ هذا بيديهِ..
– الشيخ: ويريدُ أنّهُ فعلهُ
– القارئ: نعم
– الشيخ: أي كمّل، بس أنت..
– القارئ: فعلتُ هذا بيَدي، أو فلانٌ فعلَ هذا بيديه، إلّا ويكون فِعْلُهُ..
– الشيخ: فَعَلَهُ
– القارئ: إلّا ويكون فَعَلَهُ بيديهِ حقيقةً..
– الشيخ: نعم
– القارئ: ولا يجوزُ أنْ يكونَ لا يدَ لهُ، أو أنْ يكونَ لهُ يدٌ والفعلُ وقعَ بغيرها. وبهذا الفرقِ المحقّقِ تتبيّنُ مواضعُ المجازِ ومواضعُ الحقيقةِ، ويَتبيّنُ أنَّ الآيات لا تَقْبلُ المجازَ البتة..
– الشيخ: أن؟
– القارئ: ويَتبيّنُ أنَّ الآياتِ لا تَقْبلُ المجازَ البتة مِنْ جهةِ نَفسِ اللغة.
قالَ لي: فقدْ أوقعوا الاثنينِ موقعَ الواحدِ في..
– الشيخ: إلى هنا الله يعافيك
– القارئ: تبقى القليل وينتهي المقام
– الشيخ: طيب تفضل، ينتهي الكتاب؟
– القارئ: المقام الأول
– الشيخ: أي طيب
– القارئ: قالَ لي: فَقدْ أوقعوا الاثنينِ موقعَ الواحدِ في قولهِ: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ [ق:24] وإنّما هو خطابٌ للواحد..
– الشيخ: ألقيا في جهنم
– القارئ: قالَ لي: فَقدْ أوقعوا الاثنينِ موقعَ الواحدِ في قولهِ: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ [ق:24] وإنّما هو خطابٌ للواحد..
يعني المَلَك؟
– الشيخ: أي فيها كلام، بعضهم يقول: ألقيا أصلها ألقيَن، يعني لهم فيها توجيهات..
– القارئ: قلتُ له: هذا ممنوعٌ، بلْ قولهُ: أَلْقِيَا قَدْ قيلَ: تثنيةُ الفاعلِ لتثنية الفعل..
– الشيخ: أيش؟
– القارئ: قَدْ قيلَ: تَثْنيةُ الفاعلِ لتَثْنيةِ الفِعل..
– الشيخ: أنّهُ تساوي ألقيا ألقِ ألقِ
– القارئ: نعم
والمعنى: ألقِ ألقِ، وقدْ قيلَ: إنّهُ خِطابٌ للسائقِ والشّهيد.
ومَنْ قالَ: إنّهُ خِطابٌ للواحدِ، قالَ: إنَّ الإنسانَ يَكونُ معهُ اثنان: أحَدُهما عَنْ يَمينهِ، والآخرُ عَنْ شِمالهِ، فيقول: خليلَيَّ! خليلَيَّ! ثمَّ إنّهُ يُوقِعُ هذا الخطاب وإن لم..
– الشيخ: ما يقول ما هم ما يقول: خليلَيّ، يقول: خليلَيَّ خليلَيَّ عوجا، يعني يحتسب يعتبر أن معه صاحبان، يمين وشمال، يخاطبهما بالتثنية.
– القارئ: ومَنْ قالَ: إنّهُ خِطابٌ للواحدِ، قال: إنَّ الإنسانَ يَكونُ معهُ اثنان: أحدُهما عَنْ يمينهِ، والآخرُ عَنْ شِمالهِ، فيقولُ: خليليَّ! خليلي! ثمَّ إنّهُ يوقِعُ هذا الخطابَ وإنْ لمْ يَكونا مَوْجودَين، كأنّهُ يُخاطبُ مَوْجودَين، فَقولهُ: أَلْقِيَا عِندَ هذا القائل إنّما هو خطابٌ لاثنين يُقدّرُ وجودَهُما، فلا حُجّة فيهِ البتة.