بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس الثّالث
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين. اللهم اغفر لشيخنا، وللحاضرين، وللمستمعين قال الشيخ ابن سِعدي -رحمه الله تعالى- في كتابهِ "القواعد الحسان في تفسير القرآن"
قال رحمه الله: القاعدة الثانية: العبرةُ بعمومِ الألفاظِ لا بخصوصِ الأسباب؛ وهذه القاعدة نافعةٌ جداً، بمراعاتِها يحصلُ للعبد خيرٌ كثير وعلمٌ غزير، وبإهمالِها وعدمِ ملاحظتها يفوتهُ علمٌ كثير، ويقعُ الغلطُ والارتباك.
وهذا الأصلُ اتفقَ عليهِ المحققون مِنْ أهلِ الأصولِ وغيرهم، فمتى راعيتَ القاعدة السابقة، وعرفت أنَّ ما قالهُ المفسرون مِنْ أسبابِ النزول؛ إنّما هي أمثلةٌ توضّحُ الألفاظ، ليست الألفاظ مقصورةً عليها. فقولهم: نزلت في كذا ونزلت في وكذا، معناه: أنَّ هذا مِمّا يدخلُ فيها، ومِنْ جملة ما يُرادُ بها، فإنّها كما تقدمت إنما أنزل القرآنُ لهداية أول الأمة وآخرها.
والله تعالى قدْ أمرنا بالتفكّر والتدبّر لكتابهِ، فإذا تدبّرنا الألفاظ العامة، وفَهِمنا أنَّ معناها يتناولُ أشياءَ كثيرة، فلأي شيءٍ نخرجُ بعض هذه المعاني، مع إدخالنا ما هو مثلها ونظيرها؟
طالب: النسخة اللي معي "مع دخول ما هو مثلها"
– الشيخ: مع دخول جيد؛ قد تكون مناسبة لأنه يقول كيف نخرج ونحن ندخل كذا، والمعنى واحد.
– القارئ: ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعِها سمعك؛ فإنه إمّا خيرٌ تُؤمرُ بهِ، وإمّا شرٌ تُنهى عنه». فمتى مرَّ بكَ خبرٌ عن الله، وعمَّا يستحقهُ من الكمال، وما يتنزَّه عنهُ مِنَ النقصِ، فأَثْبِتْ جميعَ ذلك المعنى الكامل الذي أثبتهُ لنفسهِ، ونزِّهه عن كلِّ ما نزَّه نفسهُ عنه.
وكذلك إذا أخبرَ عن رسلهِ، وكتبهِ، واليوم الآخر، وعن جميعِ الأمور السابقة واللّاحقة، جزمتَ جزمًا لا شكَّ فيهِ أنّه حقٌّ على حقيقتهِ، بل هو أعلى أنواع الحقِّ والصدق وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[النساء:122]، وحديثًا.
وإذا أمرَ بشيءٍ نظرتَ إلى معناه، وما يدخلُ فيهِ وما لا يدخل، أنَّ ذلكَ موجّهٌ إلى جميعِ الأمة، وكذلك في النهي؛ ولهذا كانت معرفةُ حدودِ ما أنزلَ الله على رسولهِ أصلُ الخيرِ والفلاح، والجهلُ بذلكَ أصلُ الشرِ والجفاء.
فمراعاة هذه القاعدة أكبرُ عونٍ على معرفةِ حدودِ ما أنزلَ الله على رسولهِ، والقرآنُ قدْ جمعَ أجلَّ المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضحِ الألفاظِ وأحسنها؛ كما قال تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:33] يوضّحُ ذلكَ ويبينهُ ويَنْهجُ طريقه.
– الشيخ: الحمد لله وصلّى الله وسلّم وباركَ على عبدهِ ورسولهِ: هذه القاعدة -العبرةُ بعمومِ اللفظ لا بخصوصِ السبب- قاعدةٌ مُقررة ومشهورة عندَ المفسرين، وتُذكرُ في علومِ القرآن وأصولِ التفسير، العبرة والاعتماد على عمومِ اللفظِ، يعني المُعوّل في دلالةِ القرآن على ما تَدلُّ عليهِ ألفاظُها ونصوصها، وقدْ ثبتَ أنَّ آياتٍ وسور مِنَ القرآن تنزلُ لحوادثَ معينة، يعني تحصل وهو: ما يسمى "بأسباب النزول" ولهذا تجدونَ في التفسير هذه الآية نزلت في كذا، في فلان أحيانًا وأحيانًا في حادثة مِنَ الحوادث، مثل آيات اللعان، وآيات المواريث بعضها، فيقول: العلماء إنَّ هذه الآيات النّازلة على أسباب لا تختصُ أحكامُها بتلكَ الأسباب والوقائع، بل ننظر إلى اللفظ، فإذا نجدهُ عامًّا فنحكمُ بعمومهِ وأنّه عام لصورة السبب، ولكلِّ ما يدخل في هذا العموم؛ فإنَّ القرآن نزلَ لهداية الأمة، فكل مَنْ يتناولهُ هذا اللفظ يدخلُ في حكمهِ.
ولهذا ذكرَ الأصوليون ألفاظ العموم، يريدونَ ألفاظ العموم وهذا يُستفاد مِن اللغة العربية، يريدون ألفاظ العموم في النصوص في الكتاب وفي السُنّة، فما دلَّ عليه اللفظُ العام يَثْبُتُ لكلِّ أفرادهِ، لكل ما يدخلُ تحتَ هذا اللفظ، فلا يُقصرُ على سببهِ، لكن معرفةُ سببِ النزول مِمّا يُعينُ على فهمِ الآية، والمرادِ بها؛ فهي من طرق التفسير معرفة أسباب النزول مما يعين وهذا الموضوعُ مُفصّل في علومِ القرآن، ونجد في التفسير ذِكرُ أخبار تتضمّن حوادث، وقصص، ويُذكرُ في ضِمن ذلكَ إنَّ الآية، أو هذه الصورة نزلتْ في هذا الشأن، ويقولُ بعضُ السّلف نزلتْ الآية في كذا، مثل هذه العبارة ما يلزم أنْ تكون لها سبب مُعيّن، بل يُريدون في قولهم "نزلت في كذا" يعني أنّها نزلت في هذا الشأن وفي هذا المعنى، ولكنْ إذا ذَكرَ الرّاوي قِصّةً ثم قال ثم نزلت أو فنزلت الآية هذا يكون فيهِ تصريحٌ ونص على أنَّ هذه القِصّة، أو هذه الواقعة هي سَبب نزول هذه الآيات.
والمقصود هو التّعويلّ على دلالاتِ ألفاظ القرآن، خِطاباتُ القرآن عامة يَا أَيُّهَا النَّاسُ عمومًا، كل الناس، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نصٌّ عام، خِطاب لجميعِ المؤمنين، لا يَختصُّ بِمنْ كانَ موجودًا في وقتِ النزول لا؛ خِطابات القرآن تَشملُ كلَّ الأمّة الموجودين في وقت النزول إلى قيام الساعة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ هذا خِطاب مُتوجّه لعمومِ البشرية، لعمومِ الناس؛ لأن رسالة محمد -صلّى الله عليه وسلّم- عامة لجميعِ الناس فإذا قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ، بل قال الله تعالى لنبيّه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[الأعراف:158]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى[الحجرات:13] خطابٌ لجميعِ الناس الموجودين في عهدِ النبّوة، وعِندَ نُزول القرآن ومَنْ جاءَ بعدهم إلى قيامِ الساعة، خطابٌ عام.
فالمقصود أنَّ هذه قاعدةٌ ذاتُ شأنٍ في التفسير "العِبْرة بعمومِ اللفظِ لا بِخصوصِ السبب" وقصرهُ على السبب تضييقٌ لمعناه، قَصْرُها على السبب ما يجوز لأن لفظها يكون حينئذٍ ليس فيه كبير فائدة، تكونُ فائدتهُ ناقصة وقاصرة، لفظٌ عام يُحملُ على عُمومهِ، ويجبُ إدخالُ جميع ما يتناولهُ هذا اللفظ، وإذا كان هذا النّص أو هذه الآية نزلتْ على سبب فيجبُ اعتبارُ جميعِ نظائره، يعني جميع أفراد هذا العموم هو نظيرُ لما نزلتْ فيهِ، والشريعةُ لا تُفرِّق بينَ المُتماثلات إلّا أنْ يأتي نصٌّ مِنَ السُنّة، أو يكونَ في الآية ما يَدلُّ على قَصْر هذا الحكم على سببهِ، لكنْ الأصل هو هذا، الأصل إنّهُ يجبُ إجراء النصوص على ظاهرها، وعمومها، واستطردَ الشيخ وذكر أنَّ هذا يوجبُ الإيمان بكلِّ ما أخبرَ الله بهِ مِنَ الغيوب مِمّا يتعلّقُ بذاتهِ وصفاتهِ، أو ما يتعلّق بِما كان أو يكون، يجبُ الإيمانُ بهذا كلِّه إيمانًا راسخًا، واعتقاد أنَّ كلَّ ما أخبرَ الله بهِ فإنّه حقٌّ على حقيقتهِ؛ لأن الله تعالى يقول: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا[الأنعام:115] صِدْقًا في الأخبار، وعَدلًا في الأحكام.
طالب: من غير الإمام السيوطي اعتنى بأسباب النزول؟
– الشيخ: هو وغيره، المفسرون أيضًا، كلُّ المفسرين إذا جاؤوا إلى آية ذكروا سببَ نُزولها، وبعضُ أسبابِ النزول يكون ثابت، ومَروي بأسانيدَ صحيحة، وبعضُ أسباب النّزول فيها نظر وفيها ضعف، يعني أسباب النّزول؛ هي أخبار مِنْها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومِنها ما لم يَصح أصلًا. يَذْكر المُفسّرون في أسبابِ النّزول أشياءَ ومَرويات على درجات.