بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس الحادي عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمهُ الله تعالى- وأسكنهُ الله فسيحَ جنانه "أصول وقواعد في تفسير القرآن الكريم":
القاعدة العاشرة: في الطرق التي في القرآن لدعوة الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم. يدعوهم إلى الدين الإسلامي، وإلى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-.
– الشيخ: الدعوةُ إلى الدخولِ في الإسلام، والإيمان بالرسول وبالقرآن هذا هو المقصود مِنَ الرسالة، فالله أرسلَ رسولهُ محمداً صلّى الله عليه وسلّم لدعوة الخلقِ إلى عبادة الله وحده لا شريك لهُ وطاعته، وهذه دعوة الرسل مِنْ أوّلهم إلى آخرهم، فدعوةُ الرسلِ واحدة، ولكنَّ الشّرائع تتعدَّدُ وتختلف لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [لمائدة:48]
أمّا أصلُ الدّعوة فإنّها واحدة، كلُّ الرسلِ مِنْ أوّلهم إلى آخرهم يدعونَ إلى الإسلام، دينهم الإسلام الذي يقومُ على أصلين: على عبادةِ الله وحدهُ لا شريكَ له، وطاعةُ الرسول المرسلِ إليهم، ومنذُ بعثَ الله محمداً فالواجبُ هو اتّباعهُ عليه الصلاة والسلام، والإيمانُ بهِ وبما جاءَ بهِ، يجب، وهذا واجبٌ على البشرية كُلّهم على اختلافِ نِحَلِهِم.
فالشيخ هنا يقول طريقةُ القرآنِ في دعوة الكفار، طريقةُ القرآنِ في دعوة الكفّار على اختلافِ مِلَلِهم، اليهود، النصارى، المشركين، هذا هو التقسيمُ في الغالب، ويأتي أيضاً الصَّابِئَةُ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الحج:17]، هذه يعني أهم طوائف العالم، هذه الأمم منهم أهلُ الكتاب كاليهود والنصارى، ومنهم مَنْ ليسَ لهُ كتابٌ كسائرِ طوائفِ المشركين، والدّعوةُ للجميع، ولهذا يأتي الخطاب بالأسلوب العام يا أيّها الناس:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] إلى قوله: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء:174]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ [النساء:1]، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:104] إلى آخر الآيات.
– القارئ: يدعوهم إلى الدين الإسلامي، والإيمان بمحمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بِما يصفهُ مِنْ محاسنَ شرعهِ ودينهِ، وما يذكرهُ مِنْ براهينَ رسالةِ محمدٍ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليهتدي منْ قصدهُ الحقُ والإنصاف، وتقومُ الحُجّةُ على المعاند. وهذه أعظمُ طريقٍ يُدْعى بِها جميعُ المخالفينَ لدينِ الإسلام.
فإنَّ محاسنَ دينِ الإسلامِ ومحاسن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وآياتهِ وبراهينه فيها كِفايةٌ تامّة للدعوة، بقطعِ النظرِ عنْ إبطالِ شُبَههم، وما يَحْتجّونَ بهِ، فإنَّ الحقَ إذا اتّضحَ عُلِمَ أنَّ كلَّ ما خالفهُ فهو باطلٌ ضلال.
– الشيخ: باطل
– القارئ: فهو باطلٌ ضلال
– الشيخ: وضلال
– القارئ: وضلال، ويدعوهم بما يُخوّفهم مِنْ أَخَذَاتِ الأمم
– الشيخ: إيش و؟
– القارئ: ويدعوهم بما يُخوّفهم مِنْ أَخَذَاتِ الأمم
– الشيخ: أَخَذَاتِ الأمم
– القارئ: نعم أحسن الله إليك
– الشيخ: يعني أَخَذَاتِ الأمم الماضية، يُحذرهم أن يسلكوا مسالك المُكذِّبينَ فيأخذهم الله كما أخذ من قبلهم وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال:38]
– القارئ: وعقوبات الدنيا وعقوبات الآخرة، وبِما في الأديانِ الباطلة مِنْ أنواعِ الشرور، والعواقبِ الوخيمة، ويحذّرهم مِنْ طاعةِ رؤساءِ الشرِّ، ودُعاةِ النّار، وأنّهم لا بدَّ أنْ تتقطّعَ نفوسُهم على طاعتهم حسرات، وأنّهم يتمنّونَ أنْ لو أطاعوا الرسولَ ولم يُطيعوا السّادة والرؤساء، وأنَّ مودَّتهم وصداقتهم.
– الشيخ: كما قال تعالى أن أهل النار يقولون: يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب:66-67]، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167] نعم، يا الله أعوذ بالله.
– القارئ: أحسن الله إليك، وأن مودّتهم وصداقتهم ستتبدّل بغضاء وعداوة، ويدعوهم أيضاً بنحو ما يدعو المؤمنين بذكرِ آلائه ونعمهِ وأنَّ المنفردَ بالخلقِ والتدبيرِ والنّعمِ الظاهرة والباطنة هو الذي يجبُ على العبادِ طاعته، وامتثالُ أمرهِ واجتنابُ نَهْيهِ.
ويدعوهم أيضاً بشرحِ ما في أديانهم الباطلة، وما احتوتْ عليهِ مِنَ القبحِ، ويُقارنُ بينها وبينَ دينِ الإسلام، ليتبيّنَ ويتّضحَ ما يجبُ إيثارهُ، وما يتعيّنُ اختياره.
– الشيخ: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، يذكرُ الله في كتابهِ، يعني ما يدلُّ على بطلانِ شركِ المشركين بضربِ الأمثالِ بآلهتهم معَ الإله الحق:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ*وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:75-76]
وقال سبحانه: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29]
هذه الأمثال يذكرُ الله للدّلالة بها على بُطلانِ الشركِ وفساده، وصِحّة التوحيد فأينَ مَنْ يعبدهُ المشرك، ومَنْ يعبدهُ المؤمنُ المُوحِّدُ، هذا يعبدُ ربَّ العالمين فاطر السمواتِ والأرض، الموصوفِ بكلِّ كمال، الخلَّاقُ العليم، وهذا يعبدُ جماداً أو ميتاً أو بشراً مثلهُ مخلوق مِنْ ماءٍ مَهينٍ، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17] سبحان الله العظيم.
– القارئ: ويدعوهم بالتي هي أحسن، فإذا وصلتْ بهم الحالُ إلى العنادِ والمُكابرةِ الظاهرة توعّدهم بالعقوباتِ الصوارم، وبيَّنَ للناسِ طريقتهم التي كانوا عليها، وأنّهم لمْ يخالفوا الدينَ جَهْلاً وضلالاً، أو لقيامِ شُبهةٍ أوجبتْ لهم التّوقّف، وإنّما ذلكَ جُحودٌ ومكابرةٌ وعِناد.
– الشيخ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] وقال في فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]
– القارئ: ويُبيِّنُ معَ ذلكَ الأسباب التي منعتهم مَنْ مُتابعة الهُدى..
– الشيخ: كالكبر، يمنعهم الكبر
– القارئ: وأنّها رياساتٌ وأغراضٌ نفسية، وأنّهم لمّا آثروا الباطلَ على الحق..
– الشيخ: نعم، وأنّهم..
– القارئ: وأنهم لمّا آثروا الباطلَ على الحق طُبِعَ على قُلوبِهم وخُتِمَ عليها، وسُدَّ عليهم طريقُ الهدى عقوبةً لهم على إعراضِهم وتولّيهم..
– الشيخ: آمنت بالله ورسوله
– القارئ: وتولِّيهم للشيطان، وتَخلّيهم مِنْ وِلايةِ الرحمن، وأنّه ولَّاهُم ما تولَّوْا لأنفسهم.
وهذه المعاني الجزيلة مبسوطةٌ في القرآنِ في مواضعَ كثيرة، فتأمَّل وتدبّر القرآن تجِدْهَا واضحةً جليّة، والله أعلم.
– الشيخ: الله المستعان لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، سورة الفاتحة، تدلُّ على أنواعِ التوحيد، وعلى بُطلانِ الشِّرْكِ، تارةً بالمنطوق وتارة بالتضمُّنِ وتارةً بطريقِ اللزوم، الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيها الدّلالة على أنّه المُستحِقُّ لجميعِ الحمد، الحمدُ كُلّه له، وهذا يستلزم، يستلزم أنَّهُ الموصوفُ بجميعِ المحامدِ، فلا يستحِقُّ الحمدَ كُلّهُ والثناءَ كُلّه، إلّا الموصوفُ بجميعِ المحامِد.
والله تعالى موصوفٌ بكلِّ صفاتِ الكمال، فلهُ الأسماءُ الحسنى والصفات العُلَا، لهُ المثلُ الأعلى، وأمّا ما يُعْبدُ مِنْ دونِ الله مهما بلغَ في الفضلِ فإنّه مخلوقٌ مَرْبُوْبٌ مُدبَّرٌ، مَنْ يعبدُ الملائكة، الملائكة عِباد، الله سمّاهم عِباد، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء:26-27-28-29]
لو ادَّعى أحدٌ مِنَ الملائكةِ الإلهية مِنْ دونِ الله لعذَّبهُ الله؛ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]؛ فكيفَ بِمن يعبدُ البشر، يعبدُ مَنْ هو مخلوقٌ مثلُهُ مِنْ ماءٍ مَهينٍ، عاجز ناقص ضعيف، مُفتقِرٌ إلى أسبابِ المنافع، فكيفَ بِمنْ يعبدُ جماداً مِنْ حجر، أو شجر، أو يعبدُ أمواتاً، كلُّ هذا يدلُّ على غاية سُفهِ المشركين، فالكفّارُ سُفهاء أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] المنافقون والكفّار هم السّفهاء؛ لأنّهم آثروا الأدنى على الأعلى، آثروا الدنيا على الآخرة، وعظَّموا الحقير، عظَّموا الحقير، سوَّوْا العبد المخلوق المربوب بالملكِ الواحدِ القهَّار، وفي النّار يَقرّون لطواغيتهم يقولون: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ[الشعراء:98]