بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس الخامس عشر
*** *** *** ***
– القارئ: وصلى الله وسلَّمَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمهُ الله تعالى- في كتابهِ "أصولٌ في قواعد التفسير":
القاعدةُ الثانية عشرة: قال رحمهُ الله: ومن ذلك: الإخبارُ في بعضِ الآياتِ أنّهُ لا أنسابَ بينَ النّاسِ يومَ القيامة، وفي بعضها: أثبتَ لهم ذلك، فالمُثْبِتُ هو الأمرُ الواقعُ والنّسبُ الحاصل.
– الشيخ: فالمُثْبَتُ
– القارئ: فالمُثْبَتُ هو الأمرُ الواقعُ والنّسبُ الحاصلُ بينَ النّاس كقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:34-35] إلى آخرها، والمنفيُّ: هو الانتفاع بها، فإنَّ كثيراً منَ الكفّار يدَّعون أنَّ أنسابهم تنفعهم يومَ القيامةِ فأخبرَ تعالى أنّهُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]
– الشيخ: الله أكبر، لا تنفعُ الأنسابُ ولا الصّداقات، خاصةً قطعُ الصِّلات، ما هنالك إلّا العمل، اللهم إلّا نعم، المتّقون، إنهم، يشفعُ المؤمنون، يشفعونَ لبعضهم، يشفعُ الملائكة، تشفعُ الأنبياء، أما الكافرون والظالمون فلا ينتفعون بشيءٍ، فلا تنفعهم الشفاعة، لا تنفعهم شفاعةُ الشافعين الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:67-68]
بل الكفّار الأتباع والمتبوعون يلعنُ بعضهم بعضاً، ويصيرُ بعضهم لبعضٍ عدو، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[الزخرف:67]
– القارئ: أحسن الله إليك، فأخبر تعالى أنه يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88-89]، ونظيرُ ذلكَ: الإخبار في بعضِ الآيات: أنَّ النّسبَ نافعٌ يومَ القيامةِ، كما في إلحاقِ ذريّة المؤمنينَ بآبائهم في الدرجات، وإنْ لمْ يبلغوا منزلتهم، وأنَّ الله يجمعُ لأهلِ الجنات والدرجات العالية.
– الشيخ: نعم، وأنَّ الله..
– القارئ: وأنَّ الله يجمعُ لأهلِ الجنات والدرجات العالية، مَنْ صلحَ مِنْ آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم، فهذا لمّا اشتركوا في الإيمانِ وأصلِ الصّلاح زادهم مِنْ فضلهِ وكرمهِ.
– الشيخ: اللهم إنّا نسألك من فضلك، لا إله إلا الله، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ[الرعد:23] رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر:7-9] هذا دعاء الملائكة للمؤمنين.
– القارئ: أحسن الله إليك، مِنْ غيرِ أنْ ينقص مِنْ أجورِ السابقينَ لهم شيئاً. ومِنْ ذلك: الشفاعة فإنّهُ أثبتها في مواضع، ونفاها في مواضعَ مِنَ القرآن، وقيّدها في بعضِ المواضعِ بإذنهِ ولمنْ ارتضى مِنْ خَلْقهِ، فَتعيّنَ حملُ المطلقِ على المقيّد، وأنّه حيثُ نُفيت فهي الشفاعة التي بغيرِ إذنهِ، ولغيرِ مَنْ رضي الله قولهُ وعمله، وحيثُ أُثْبِتَت فهي الشّفاعة التي بإذنهِ لمنْ رضيهُ وأذنَ فيهِ.
ومِنْ ذلك: أنَّ الله أخبرَ في آياتٍ كثيرة أنّهُ لا يهدي القومَ الكافرينَ والفاسقين والظالمين ونحوها، وفي بعضها: أنّهُ يهديهم ويوفقهم، فتعيّنَ حَمْلُ المنفيّات على مَنْ حقّت عليهِ كلمةُ الله، لقولهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس: 96-97]، وحَمْلُ المثبتات على مَنْ لمْ تحق عليهم الكلمة. وهذا هو الحق الذي لا ريبَ فيهِ.
ومِنْ ذلكَ: الإخبارُ في بعضِ الآيات: أنّهُ العليُّ الأعلى، وأنّهُ فوقَ عبادهِ وعلى عَرْشهِ، وفي بعضها: أنّهُ مع العبادِ أينما كانوا، وأنّهُ معَ الصّابرين والصّادقين والمحسنين ونحوهم، فعُلوُّه تعالى أمرٌ ثابتٌ له، وهو مِنْ لوازمِ ذاتهِ.
ودُنوّه ومعيّته لعبادهِ؛ لأنّهُ أقربُ إلى كلِّ أحدٍ مِنْ حبلِ الوريد، فهو على عَرْشهِ عَليٌّ على خلقهِ، ومع ذلكَ فهو معهم في كلِّ أحوالهم، ولا منافاة بين الأمرين؛ لأنَّ الله تعالى ليسَ كمثلهِ شيء في جميعِ نُعوتهِ، وما يُتوهّم بخلافِ ذلكَ فإنّه في حق المخلوقين.
وأمّا تخصيصُ المعيّة بالمحسنين ونحوهم، فهي معيّة أخصُّ مِنَ المعيّة العامة، فإنّها تتضمّن محبتهم وتوفيقهم، وكلاءتهم، وإعانتهم في كلِّ أحوالهم، فحيثُ وقعتْ في سياقِ المدح والثناء فهي مِنْ هذا النوع، وحيثُ وقعتْ في سياقِ التحذير والترغيب والترهيب فهي مِنَ النوعِ الأول.
– الشيخ: المعيّة العامة مُقْتضاها العلم، وجاءت في سياقِ العلم أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]
فبُدِأت بالعلم وخُتِمَت بالعلم، ولهذا قال الأئمة معنى " مَعَهُمْ" يعني معهم بعلمه، يعني هو فوقَ عرشهِ وهو معَ العباد لا يخفى عليهِ مِنْ أمرهم خافٍ، فهو يسمعُ كلامهم، ويرى مكانهم وإذا تناجى اثنان، وإذا تناجى ثلاثة، فالله رابعهم يسمعُ كلامهم، ويرى مكانهم، ويعلمُ ما يُسرّون، وهذا لا ينافي أنّهُ تعالى فوقَ العرشِ كما شاءَ سُبْحانهُ.
– القارئ: أحسن الله إليك، ومِنْ ذلك: النهي في كثيرٍ مِنَ الآيات عنْ موالاة الكافرين، وعنْ مودَّتهم والاتّصال بِهم، وفي بعضها الأمرُ بالإحسانِ إلى مَنْ لهُ حقٌّ على الإنسان منهم، ومُصاحبتهُ بالمعروف..
– الشيخ: كالوالدين
– القارئ: كالوالدين ونحوهم.
فهذه الآياتُ العامَّاتُ مِنَ الطرفين، قدْ وضَّحها الله غاية التوضيحِ في قوله: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9]
النّهي واقعٌ على التولّي والمحبّة لأجلِ الدين، والأمرُ بالإحسانِ والبرِ، والبِرُّ واقعٌ على الإحسانِ لأجلِ القرابة، أو لأجلِ الإنسانية على وجهٍ لا يُخِلُّ بدينِ الإنسان.
ومِنْ ذلكَ: أنّهُ أخبرَ في بعضِ الآيات أنَّ الله خلقَ الأرضَ، ثمَّ استوى إلى السماءِ فسوَّاهُنَّ سبعَ سماوات، وفي بعضها أنّهُ لمّا أخبرَ عن خلقِ السماواتِ أخبرَ أنَّ الأرضَ بعدَ ذلك دحاها.
فهذه الآية تُفسرُ المراد، وأنَّ خلْقَ الأرض مُتقدِّمٌ على خلْقِ السماوات، ثمَّ لمّا خلقَ الله السماوات بعدَ ذلك دَحَا الأرض، فأودعَ فيها جميع مصالحها المُحتاجِ إليها، ومِنْ ذلكَ.
– الشيخ: إلى هنا
– القارئ: أحسن الله إليك.
– الشيخ: هذا الكلام مقصودٌ مِنْهُ بيانُ ما يُتوهَّمُ فيهِ التعارض، هناك كلامُ الله لا تعارضَ فيهِ ولا تناقضَ ولا اختلاف؛ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء:82]
فالقرآنُ لا اختلافَ فيهِ، ولكنْ ما يُتوهَّم فيهِ التعارض ليسَ هو تعارضٌ بالحقيقة، بلْ يُمكنُ الجمعُ بينَ هذه الآيات، ممّا يُحقِّقُ يعني التوافق ويرفعُ التعارض.