بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس التّاسع عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين
– الشيخ: آمين آمين، جزاك الله خيراً
– القارئ: قالَ الشيخُ عبد الرحمن بن سعدي في رسالتهِ "أصول وقواعد في التفسير":
القاعدة الخامسة عشرة: جعلَ الله الأسبابَ للمطالبِ العالية مُبشِّراتٍ لتطمينِ القلوبِ وزيادة الإيمان، وهذا في عِدّة مواضعَ مِنْ كتابهِ، فمِنْ ذلك.
– الشيخ: جعل الله، نعم أعد الجملة، جعل الله..
– القارئ: جعلَ الله الأسبابَ للمطالبِ العالية، مُبشِّراتٍ لتطمينِ القلوبِ وزيادة الإيمان. وهذا في مواضعَ مِنْ كتابهِ فمِنْ ذلكَ النصر..
– الشيخ: النصر
– القارئ: نعم أحسن الله إليك، قال في إنزالِ الملائكة: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال:10]، وقالَ في أسبابِ الرزقِ ونُزولِ المطر: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم:46]
وأعمُّ مِنْ ذلكَ كلّه قولهُ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس:62-63-64]، وهي كلُّ دليلٍ وعلامة تدلّهم على أنَّ الله قدْ أرادَ بهم الخير، وأنَهم مِنْ أوليائهِ وصفوتهِ، فيدخلُ فيهِ الثناءُ الحسن والرؤيا الصالحة، ويدخلُ فيهِ ما يُشاهدونهُ مِنَ اللطف والتوفيق، والتّيسير لليسرى، وتَجْنِيبهم العُسْرى. ومن ذلك بل ألطف أن جعل الشِّدَّاتِ مُبشِّراتٍ بالفرح..
– الشيخ: بالفرج
– القارئ: مُبشِّراتٍ بالفرج
– الشيخ: كأنه هذا
– القارئ: نعم أحسن الله إليك، والعُسر مؤذنٌ باليُسر، وإذا تأمّلتَ ما قصّهُ عنْ أنبيائهِ وأصفيائهِ، وكيفَ لمَّا اشتدَّتْ بهم الحال، وضاقتْ بهم الأرض بِما رَحُبَتْ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، رأيتَ مِنْ ذلكَ العجبَ العُجاب..
– الشيخ: إيش؟
– القارئ: رأيتَ مِنْ ذلكَ العجبَ العُجاب، وقال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6]، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وقال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أنَّ النصرَ معَ الصبر، وأنَّ الفرجَ مع الكرب، وأنَّ معَ العسرِ يسراً) وأمثلة ذلكَ كثيرة، والله أعلم.
– الشيخ: الله أكبر، الله اكبر، مضمونُ هذا الكلام أنَّ الله مِنْ حِكْمتهِ أنْ يجعلَ للخيرِ الذي يُريدهُ بعبادهِ مُقدِّمات تُبشِّرُ بهِ، كما في هذه الأمثلة، فإرسالُ الرياحِ يكون مُبشِّراتٍ تُبشِّرُ، ولهذا النّاس إذا رأوا هبَّةَ الريح الجنوبية وثارت استبشروا، استبشروا بالخيرِ القادم، وكذلكَ ما يُنْزلهُ الله وما أنزلهُ على نبيّهِ وأصحابهِ مِنَ الملائكة، جعلهم الله بُشرى للنصر الذي تحقَّقَ، النصر الذي حصلَ للمسلمين في بدر كانتْ لهُ مقدمة وهو إنزالُ الملائكة؛ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[آل عمران:126]
والملائكة تُبشِّرُ المؤمنينَ، تَنْزلُ عليهم وتُلقِي في قلوبهم حُسنَ الظنِّ بالله وقوّة الرجاء، فالشيطان يَعِدُ بالشرِّ والفقرِ والهزيمة، والملائكة يُلْقون في قلوبِ المؤمنينَ ما تطمئِنُّ بهِ قلوبهم، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]
– القارئ: أحسن الله إليك؛ القاعدة السادسة عشرة: حذفُ جوابِ الشَّرْطِ يدلُّ على تعظيمِ الأمرِ وشِدَّتهِ في مقاماتِ الوعيد.
وذلك كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة:12]، وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سبأ:51]، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [البقرة:165]، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]
فحذْفُ الجوابِ في هذه الآيات وشِبْهِها أولى مِنْ ذِكْره، ليدلَّ على عَظَمةِ ذلكَ المقام، وأنَّهُ لهولهِ وشِدتهِ وفظاعته لا يعبِّرُ عنهُ بلفظ، ولا يُدرك بالوصف، ومِن ذلك قوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:5]، أيْ لما أقمتم على ما أنتمْ عليهِ مِنَ التفريطِ والغفلة واللهو.
– الشيخ: يعني الجواب محذوف، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:5] يعني لما ألهاكم التكاثر، وليس جواب هذا لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، قدْ يسبق لفهمِ بعضِ النّاس أنَّ الجواب "لَتَرَوُنَّ"، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لا، ولهذا ينبغي عدم وصل الآية بما بعدها؛ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر:5-6] كلامٌ مُستَأنَفٌ.
– القارئ: القاعدة السابعة عشرة: بعضُ الأسماءِ الواردة في القرآن إذا أُفرِدَ دلَّ على المعنى العام المناسبِ لهُ، وإذا قُرِنَ معَ غيرهِ دلَّ على بعضِ المعنى، ودلَّ ما قُرِنَ معهُ على باقيهِ.
ولهذه القاعدة أمثلةٌ كثيرة:
منها: الإيمان، أُفردَ وحدهُ في آياتٍ كثيرة، وقُرِنَ معَ العملِ الصّالح في آياتٍ كثيرة.
فالآياتُ التي أُفرِدَ فيها يدخلُ فيهِ جميعُ عقائدِ الدين وشرائعهِ الظاهرة والباطنة، ولهذا يُرتِّبُ الله عليهِ حُصولَ الثوابِ، والنّجاةِ مِنَ العقابِ، ولولا دخولُ المذكوراتِ ما حصلتْ آثارهُ.
وهو عندَ السلفِ: قولُ القلبِ واللسانِ وعملُ القلبِ واللسانُ والجوارح.
والآيات التي قُرِنَ الإيمانُ فيها للعملِ الصّالح: كقولهِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277]، يُفسَّر الإيمانُ فيها بِما في القلوبِ مِنَ المعارفِ والتّصديقِ، والاعتقادِ والإنابة، والعملِ الصالح بجميعِ الشرائعِ القولية والفعلية.
وكذلكَ لفظُ "البرِّ والتّقوى" فحيثُ أُفرِدَ البِرُّ دخلَ فيهِ امتثالُ الأوامرِ واجتنابُ النواهي، وكذلكَ إذا أُفرِدت التقوى. ولهذا يُرتِّبُ الله على البرِّ وعلى التقوى عندَ الإطلاق: الثوابَ المطلق والنّجاة المطلقة، كما يُرتِّبه على الإيمان.
وتارةً يُفسِّر أعمالَ البرِّ بِما يتناول أفعالَ الخيرِ وتركِ المعاصي، وكذلكَ في بعضِ الآيات تفسيرُ خِصالِ التقوى، كما في قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:133-134]، إلى آخرِ ما ذكرهُ مِنَ الأوصافِ التي تتمُّ بِها التقوى.
وإذا جُمِعَ بينَ البِرِّ والتقوى مثلُ قولهِ تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، كان [البر] اسماً جامعاً لكلِّ ما يُحِبّهُ الله ويرضاهُ مِنَ الأقوالِ والأفعالِ الظاهرة والباطنة، وكانت [التقوى] اسماً جامعاً يتناولُ تركَ جميعِ المحرمات، وكذلكَ لفظُ [الإثم] و [العدوان] إذا قُرنت، فُسِّرَ الإثمُ بالمعاصي التي بينَ العبدِ وبينَ ربّهِ، والعدوان بالتجرُّئ على النّاس في دِمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وإذا أُفرِدَ [الإثمُ] دخلَ فيهِ كلُّ المعاصي التي تُؤثِّمُ صاحبها، سواءٌ كانتْ بينهُ وبينَ ربّهِ أو بينهُ وبينَ الخلقِ، وكذلك إذا أُفْرِدَ [العدوان].
وكذلك لفظُ [العبادة والتوكّل] ولفظُ [العبادةِ والاستعانة]، إذا أُفرِدتْ العبادة في القرآنِ تناولتْ جميعَ ما يُحبّهُ الله ويرضاهُ ظاهراً وباطناً، ومِنْ أَوَّلِ ما يدخلُ فيها: التوكل والاستعانة.
وإذا جُمع بينها وبينَ التوكل والاستعانة نحو: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، فُسِّرتِ العبادة بجميعِ المأموراتِ الباطنة والظاهرة، وفُسِّرَ التوكّل باعتمادِ القلبِ على الله في حُصُولها وحصولِ جميعِ المنافعِ ودفعِ المَضارِّ، معَ الثقة التّامة بالله في حُصولها.
وكذلكَ [الفقير والمسكين] إذا أُفردَ أحدهما دخلَ فيهِ الآخر كما في أكثرِ الآيات، وإذا جُمع بينهما كما في آية الصدقات وهي قولهُ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] فُسِّرَ الفقيرُ بمنْ اشتدَّت بهِ حاجتهُ وكانَ لا يجدُ شيئاً، أو يجدُ شيئاً لا يقعُ منهُ موقعاً، وفُسِّرَ [المسكين] بِمَنْ حاجتهُ دونَ ذلك.
– الشيخ: بمن بمن؟!
– القارئ: أحسن الله إليك، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فُسِّرَ الفقيرُ بِمَنْ اشتدَّت بهِ حاجتهُ وكانَ لا يجدُ شيئاً، أو يجدُ شيئاً لا يقعُ منهُ موقعاً، وفُسِّرَ [المسكين] بِمَنْ حاجتهُ دونَ ذلك
– الشيخ: نعم
– القارئ: ومِنْ ذلك الألفاظُ الدّالة على تلاوةِ الكتاب والتمسُّكِ بهِ وهو اتّباعهُ، يشملُ ذلك: القيامُ بالدينِ كُلّه، فإذا قُرِنت معهُ الصلاة كما في قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، وقوله: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ[الأعراف:170]، كان ذِكْرُ الصلاة تعظيماً لها وتأكيداً لشأنها، وحثَّاً عليها، وإلّا فهي داخلةٌ بالاسم العام وهو التلاوة والتمسُّك بهِ وما أشبهَ ذلكَ منَ الأسماءِ.
القاعدة الثامنة عشرة.
– الشيخ: إلى هنا
– القارئ: أحسن الله إليك.