بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس السابع والعشرون
*** *** *** ***
القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ
الشيخ: بأبي وأمي، صلّى الله عليه وسلّم
القارئ: وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين، قال الشيخُ عبد الرحمن بن سِعدي رحمهُ الله تعالى وأسكنهُ فسيحَ جِنانهِ
الشيخ: آمين آمين
القارئ: أصولٌ وقواعدُ في تفسيرِ القرآنِ الكريم: القاعدةُ الثانية والعشرون: في مَقاصدِ أمثلةِ القرآن.
ومثَّلَ الله الأعمالَ بالبساتين.
الشيخ: الله أكبر الله أكبر، مِنْ طُرق البيان في القرآن ضربُ الأمثال، وقدْ عظَّم الله ذلكَ فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]
قدْ تكلَّم العلماءُ عن هذه الأمثال في تفسيرِ القرآن عندَ المرورِ بِها، وأفردَها بعضُ أهلِ العلمِ في تفسيرٍ خاص، وبتعليقٍ خاص، وأعظمُ هذه الأمثال ما يتعلّقُ، ما يتعلّقُ بالتوحيد، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا [النحل:75]، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ[الزمر:29]، وقالَ سبحانهُ وتعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ[الروم:28] إلى آخره.
هل يكونُ العبد المملوك شريكاً لسيدهِ؟، هذا لا يرضاه أحد، ولا يصحُّ في العقلِ، ولا في العُرْفِ، فالذين عبدوا مع الله غيرهُ جعلوا المخلوق المَربُوبَ العبدَ شريكاً لخالقهِ وسيِّدهِ ومولاه، نعم، وهذا مُناقضٌ للعقلِ أعظمَ مُناقَضةٍ.
القارئ: أحسن الله إليك، فذكرَ العمل الكاملَ الخالصَ لهُ، الذي لمْ يُعرَض لهُ ما يُفْسِدهُ كبستانٍ في أحسنِ المواضعِ وأعلاها، تَنْتابهُ الرياح.
الشيخ: نحن قرأنا بعض الأمثلة
القارئ: نعم، هذا استكمالاً لما مضى
الشيخ: وإش اللي تقدم؟
القارئ: اعلمْ أنَّ القرآنَ الكريم احتوى على أعلى وأكمل وأنفع المواضيع
الشيخ: … نشوف الآيات اللي فيها الأمثال
القارئ: الآيات ما ذكر آيات ذكر معاني الآيات، قال: أحسن الله إليك
طالب: …
الشيخ: تمام تمام
القارئ: والشجرة الطيبة
الشيخ: والشجرة الطيّبة، صحيح، جيد بس للتذّكر، ترابط الأفكار.
القارئ: أحسن الله إليك، تَنْتابهُ الرياحُ النافعة، وقدْ ضَحَى وبرزَ للشمسِ، وفي خِلالهِ الأنهارُ الجاريةُ المُتدفِّقة، فإنْ لمْ تكنْ غزيرةً فإنّها كافيةٌ لهُ كالطَّلِّ الذي يَنْزلُ مِنَ السماءِ
الشيخ: نعم، فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ[البقرة:265]
القارئ: أحسن الله إليك، ومعَ ذلكَ فأرضُه أطيبُ الأراضي وأزكاها، فمعَ توفّر هذه الشروط لا تسألْ عمّا هو عليهِ مِنَ زَهاءِ الأشجارِ وطيبِ الظلالِ ووفورِ الثمارِ، فصاحبهُ في نعيمٍ ورغدٍ مُتواصِل، وهو آمنٌ عن انقطاعهِ وتَلَفِه، فإنْ كان هذا البستانُ لإنسانٍ قدْ كَبُرَ وضَعُفَ مِنَ العملِ، وعندهُ عائلةٌ ضِعاف لا مُساعدةَ مِنْهم ولا كفاءة، وقدْ اغتبطَ بهِ حيثُ كان مادَّتهُ ومادة عائلتهِ، ثمَّ إنّهُ جاءتهُ آفةٌ وإعصارٌ أحرقهُ، وأتلفهُ عنْ آخره، فكيف تكونُ حَسرةُ هذا المغرور؟ وكيفَ تكونُ مُصيبتهُ؟ وهذا هو الذي جاءَ بعدَ العملِ بِما يُبْطلُ عملهُ الصالح مِنَ الشِّركِ أو النفاق أو المعاصي المحُرِقة. فيا وَيحَهُ، بعدَ ما كانَ بُسْتانهُ زاكياً زاهياً أصبحَ تالفاً، قدْ أيسَ مِنْ عودهِ وبقيَ بحسرتهِ مع عائلتهِ فهذا من أحسنِ الأمثالِ وأنسبِها، فقدْ ذكرَ الله صِفةَ بُسْتان مَنْ ثبَّته الله على الإيمانِ والعمل، وبُسْتان مَنْ أبطلَ عملُهُ بِما يُنافيهِ ويُضادّه.
الشيخ: عملَهُ، أبطلَ عملَهُ
القارئ: نعم أحسن الله إليك، فقدْ ذكرَ الله صِفةَ بُسْتان مَنْ ثبَّته الله على الإيمانِ والعمل، وبُسْتان مَنْ أبطلَ عملَهُ بِما يُنافيهِ ويُضادُّهُ، ويُؤخذُ مِنْ ذلك أنَّ الذي لم يُوفَّق للإيمانِ ولا للعملِ أصلاً أنّهُ ليسَ لهُ بستانٌ أصلاً.
ووجهُ تَشْبيهِ الأعمالِ بالبساتين: أنَّ البساتينَ تَمدُّها المياهُ وطِيبُ المَحل وحُسْنُ الموقِع، فكذلكَ الأعمال يَمدُّها الوحيُ النازلُ لحياةِ القلوبِ الطيّبة. وقدْ جمعَ الله العاملَ جميعَ شروطِ قَبولِ العملِ مِنَ الاجتهادِ والإخلاصِ والمُتابعة.
الشيخ: نعم يا محمد
طالب: قد جمع العاملُ …
الشيخ: إي، العاملُ
القارئ: أحسن الله إليك، وقدْ جمعَ العاملُ جميعَ شروطِ قَبولِ العملِ مِنَ الاجتهادِ والإخلاصِ والمتابعة،
فأثمرَ عملُه كلُّ زوجٍ بهيج.
وقدْ مثّلَ الله عملَ الكافرِ بالسَّرابِ الذي يَحْسبُه الظمآنُ ماء، فيأتيهِ وقدْ اشتدَّ بهِ الظمأُ، وأنهكهُ الإعياءُ، فيجدُهُ سراباً.
ومثّلهُ بالرمادِ الذي أُحرِقَ، فجاءتهُ الرياحُ فذرتْهُ فلمْ تُبْقِ منهُ باقية، وهذا مناسبٌ لحالهِ وبُطلانِ عملهِ، فإنَّ كفرهُ ومعاصيهِ بمنزلةِ النّار المُحرِقة، وعملهُ بمنزلة الرّماد والسّراب الذي لا حقيقة لهُ، وهو كان يعتقدهُ نافعاً له، فإذا وصلهُ ولمْ يَجدهُ شيئاً.
الشيخ: لم يجدهُ
القارئ: فإذا وصلهُ لمْ يجدهُ شيئاً، تقطَّعتْ نَفْسهُ حسرات
الشيخ: نعم صار الجواب بعد..
القارئ: فإذا وصلهُ ولمْ يجدهُ شيئاً تقطَّعتْ نفسهُ حسرات، ووجدَ الله عندهُ فوفّاهُ حِسابهُ.
كما مثّلَ نفقاتِ المُخلصينَ بذلكَ البستانِ الزَّكي الزاهي.
ومثّل نفقات المرائينَ بحجرٍ أمْلسَ عليهِ شيءٌ مِنْ تُراب، فأصابهُ مطرٌ شديدٌ تركهُ صَلْداً لا شيءَ فيهِ؛ لأنَّ قلب المُرائي لا إيمانَ فيهِ ولا إخلاص، بلْ هو قاسٍ كالحجر، فنفقتهُ حيثُ لمْ تَصْدر عن إيمان، بلْ رياءٌ وسمعة لم تُؤثِّر في قلبهِ حياةً ولا زكاةً، كهذا المطرِ الذي لم يُؤثِّرْ في هذا الحجرِ الأملسِ شيئاً. وهذه الأمثالُ إذا طُبِّقتْ على مُمَثِّلاتها.
الشيخ: مُمَثَّلاتها
القارئ: مُمَثَّلاتها وضَحَّتْها وبيَّنتها
الشيخ: لا، إيه
القارئ: وضَّحَتْها وبيَّنتها وبيَّنتْ مَراتِبها مِنَ الخيرِ والشرِّ والكمالِ والنقصان.
ومثّل الله حالَ المنافقين بحالِ مَنْ هو في ظُلمة، فاستوقدَ ناراً مِنْ غيرهِ، ثمَّ لمّا أضاءتْ ما حولهُ، وتبيَّنَ لهُ الطريق، ذهبَ نورُهم وانطفأَ ضوؤهم، فبقوا في ظُلمةٍ عظيمة، أعظمَ مِنَ الظلمة التي كانَ عليها أولاً، وهكذا المنافقُ استنارَ بنورِ الإيمانِ، فلمّا تبيّنَ لهُ الهدى غَلبتْ عليهِ الشِّقوة، واستولَتْ عليهِ الحَيرة، فذهبَ عنهُ نوره أحوجَ ما هو إليه، وبقيَ في ظُلمة مُتحيِّراً، فهمْ لا يَرْجعون؛ لأنَّ سنَّة الله في عبادهِ أنَّ مَنْ أبانَ لهُ الهدى، واتَّضحَ لهُ الحق ثمَّ رَجِعَ عنهُ أنّهُ لا يُوفِّقُهُ بعدَ ذلك للهداية؛ لأنّهُ رأى الحقَّ فتركهُ، وعَرفَ الضلالَ فاتَّبعهُ.
وهذا المثلُ يَنْطبِقُ على المنافقينَ الذين تبصَّروا وعرفوا، ثمَّ غَلبتْ عليهم الأغراضُ الضارة فتركوا الإيمانَ. ومثّلَ الله الحياة الدنيا وزهرتَها.
الشيخ: إي، إلى هنا، الله المستعان، الشيخ..
القارئ: دقيقة أحسن الله إليك
الشيخ: تفضل تفضل
القارئ: ومثّلَ الله الحياة الدنيا وزهرتِها
الشيخ: وزهرتَها
القارئ: وزهرتَها والاغترار بِها بحالةِ زَهْرة الربيع، تُعجِبُ الناظرين، وتغرُّ الجاهلين، ويظنونَ بَقاءها، ولا يُؤَمِّنون زوالَها، فَلَهَوا بِها عمّا خُلقوا له، فأصبحتْ عنهم زائلة وأضحَوا لنعيمِها مُفارقين في أسرعِ وقتٍ، كهذا الربيع إذا أصبحَ بعدَ الاخضرارِ هشيماً، وبعدَ الحياة يبساً رميماً.
وهذا الوصف قد شاهده الخلق واعترفَ به البَرُّ والفاجرُ، ولكنَّ سُكْرَ الشهوات، وضعْفَ داعي الإيمان اقتضى إيثارُ العاجلِ على الآجل.
الشيخ: انتهى؟
القارئ: انتهى، أحسن الله إليك
الشيخ: إش بعده قاعدة؟
القارئ: نعم، القاعدة الثالثة والعشرون: إرشاداتُ القرآنِ على نوعين
الشيخ: الله، الشيخ، هذا كان نماذج من الأمثلة يعني بعضها، ولم يقصدْ، يعني ذكر ما في القرآن من الأمثال، فالقرآن فيهِ، في سورة البقرة في أوّلها مثلان للمُنافقين، وفي آخِرها ثلاثةُ أمثالٍ لحال المُنفِقِين لحال المُنْفِقِين، مَنْ أنفقَ ثمَّ أبطلَ نفقتهُ بالمنِّ والأذى، ومثّل مَنْ أنفقَ رياء ًومَنْ أنفقَ ابتغاءَ مرضاة الله عنْ ثباتٍ وطمأنينةٍ وثقةٍ، ثلاثةُ أمثالٍ جاءتْ:
كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا[البقرة:264]، لا يُبْقي لهُ شيء، هذا المُرائي عملُهُ ذاهبٌ لا يعودُ عليه مِنْهُ شيء.
ومثَّل المُنفِقَ المُخلصَ الصَّادِقَ، مَثّل نفقتهُ: جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ[البقرة:265] إلى آخر الآية.
ومثَّل المُنفِقَ الذي أبطلَ، أنفق يعني وأخلص في نفقتهِ لكنّهُ أبطلَ ذلك بالمنِّ والأذى، مثّلهُ بصاحبِ الجنّة التي قدْ أينعتْ ثِمارُها وجَرتْ أنهارُها ثمَّ أرسلَ الله عليها إعصاراً فاحترقتْ أحوجْ ما يكونُ إليها: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ[البقرة:266] فما أعظمَ حسرتهُ بعدَ أنْ، يعني بدأ فيها كثيراً، فلمّا كانَ في أحوجِ ما يكون مِنْ كِبَرِ السِّنِّ وضعف الأولاد أصابتها، أصابها ما أصابها، فذهبت جنَّتُهُ وأصبحَ مُفلِساً خاسراً، هذا مثَلُ مَنْ عَمِلَ أعمالاً صالحة ثمَّ أبطَلَها بأيِّ سببٍ مِنْ أسبابِ البطلان، والله المُستعان.