الرئيسية/شروحات الكتب/القواعد الحسان لتفسير القرآن/(29) القاعدة الرّابعة والعشرون: قوله “القرآن يرشد إلى التوسط والاعتدال”

(29) القاعدة الرّابعة والعشرون: قوله “القرآن يرشد إلى التوسط والاعتدال”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس التّاسع والعشرون

***     ***     ***     ***

 

– القارئ: الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم وباركَ على نبيّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أمّا بعد: فقالَ المصنّفُ العلاّمة عبد الرّحمن السّعدي -رحمهُ الله تعالى- في كتابهِ "القواعد الحسان": القاعدةُ الرّابعة والعشرون:
القرآنُ يُرشدُ إلى التوسّط والاعتدال، ويذمُّ التقصيرَ والغلو ومُجاوَزةَ الحدِّ في كلِّ الأمور.
– الشيخ:
الله أكبر، هذه مِن قواعدِ الدين "الوسطيَّة"، التوسّط بينَ الإفراطِ والتبليغ والغلو والجفاء، ليسَ التوسّطُ في الإسلام هو التوسُّطُ بينَ الحقِّ والباطل، بحيث يأخذُ مِن هذا الشيء بطرف ومِن هذا بطرف، لا، بل التوسُّطُ يَتضمّنُ رفضَ الباطلِ كلِّه، رفضَ الباطلِ كُلّهِ، ليسَ مِنَ التوسُّطِ، يعني ليسَ التوسُّطُ هو التوسُّطُ بينَ الحقِّ والباطِل، بل التوسُّط هو توسّطٌ بينَ باطِلَين، والذي يدعو إليهِ أهلُ الأهواءِ في هذا الزمان وقَبله، التوسُّطُ والوسطيّة هو توسُّطٌ بينَ الحقِّ والباطل، يأخذونَ ممّا يَهوونَهُ بطرفٍ، ومِنَ الآخرِ بِطَرف، فَيَزعمونَ أنَّ هذا توسُّط، بل التوسُّط هو تَركُ الغلو، وتركُ الجفاءِ، وتركُ الإفراطِ ومُجاوزةُ الحدِّ، وتركُ التفريطِ وهو التقصير، وهذا يُعتبرُ في كلِّ زمان.
وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَم يُسرِفُوا وَلَم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا 
[الفرقان:67] قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ لَا تَغلُوا فِي دِينِكُم غَيرَ الحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهوَاءَ قَومٍ قَد ضَلُّوا مِن قَبلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا [المائدة:77] ثمَّ قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ [المائدة:78]

– القارئ: أحسن الله إليكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ [النحل: 90] وقال: قُل أَمَرَ رَبِّي بِالقِسطِ [الأعراف: 29] والآياتُ الآمرةُ بالعدلِ والإحسانِ والنّاهيةُ عَن ضِدِّهما كثيرة.
والعدلُ في كلِّ الأمورِ: لُزومُ الحدِّ فيها وألا يغلو ويَتَجاوز الحد، كما لا يُقصّرُ ويَدعُ بعضَ الحقِّ؛ ففي عبادةِ الله أمرَ بالعدلِ وهو التمسك بِما عليه النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ونهى عَن مُجاوزةُ ذلك، وتعدي الحدود وذمَّ المقصرينَ في آياتٍ كثيرة.

– الشيخ: ومثل هذا قال تعالى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم وَلَا تَعتَدُوا [المائدة:87]، فتحريمُ ما أحلَّ الله هو غلوٌّ، والإقدامُ على ما حرَّمهُ الله هو تَعدّي، تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعتَدُوهَا [البقرة:229] تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقرَبُوهَا [البقرة:187]، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلا تَعتَدُوا [البقرة:190]، لا تعتدوا ولا تتركوا الجهاد، قاتلوا وليكن قِتالُكم في سبيلِ الله مَضبوطاً بشرعِ الله.

– القارئ: فالعبادةُ التي أمرَ الله بِها ما جمعت الإخلاصَ للمعبودِ والمُتابعة للرسول، فإذا خَلت مِنَ الأمرينِ أو أحدُهما فهي لاغية. وفي حقِّ الأنبياءِ والرُّسل صلّى الله عليهم وسلّم أمرَ بالاعتدالِ وهو الإيمانُ بِهم، ومَحبَّتُهم المُقدَّمة على مَحبّة الخلق، وتوقيرُهم واتِّباعهم، ومعرفةُ أقدارِهم ومراتِبَهم التي أكرمَهُم الله بها.
ونهى في آياتٍ كثيرةٍ عن الغلو فيهم وأن يُرفعوا فوقَ مَنزِلَتهم التي أنزلهم الله، ويُجعلَ لهم مِن حقوقِ الله التي لا يُشاركهُ فيها مُشارك، كما نهى عن التقصيرِ في حَقِّهم بتكذِيبهم أو تركَ مَحبَّتهم وتوقيرهم أو عدم اتّباعهم.
وذمَّ الغالينَ فيهم كالنّصارى ونَحوهم في عيسى، كما ذمَّ الجافينَ لهم كاليهودِ حينَ قالوا في عيسى ما قالوا، وذمَّ مَن فرّقَ بينهم فآمنَ ببعضِهم دونَ بعض، وأخبرَ أنَّ هذا كفرٌ بِجَميعِهم، وكذلكَ الأمرُ في حقِّ العلماءِ والأولياء.

– الشيخ: أهلُ السنّة وسطٌ في كلِّ الشؤون، في مسائلِ الاعتقاد التي افتَرقت فيها الأمّة، أهلُ السنّة وسطٌ بينَ الطوائف، في بابِ الأسماءِ والصفات بينَ المعطِّلة الجّهمية وبينَ المشبِّهة، وفي وعيدِ الله بينَ الوعيدية مِنَ الخوارجِ والمعتزلة، وبينَ المرجئة، وفي أصحابِ الرسول بينَ الرافضة والخوارج الناصبة النواصب، وأهلُ الإسلامِ وسطٌ في المسيحِ عليهِ السّلام بينَ اليهودِ والنّصارى، اليهود الذين كذّبوهُ وأرادوا قَتلهُ، والنّصارى الذين غَلَوا فيهِ وزَعَموا أنّهُ ابنُ الله، فالمسلمونَ يُؤمِنونَ بأنّهُ عبدُ الله، لا ابنَ الله، عبدُ الله لا ابنَ الله، وأنّهُ رسولُ الله، ليسَ بساحرٍ ولا كذَّاب خلافاً لليهود.

– القارئ: وكذلكَ الأمرُ في حقِّ العلماءِ والأولياء، فتجبُ مَحَبتُهم ومَعرِفَةُ أقدَارِهم، ولا يحلُّ الغلو فيهم، وإعطاؤهم شيئاً مِن حقِّ رسولهِ الخاص، ولا يحلُّ مُجافاتِهم ولا عداوتهم، فَمَن عادى للهِ وليّاً فقد بارزهُ بالحربِ، وأمرَ بالتوسُّطِ في النفقاتِ والصدقات، ونهى عَن الإمساكِ والتقصيرِ والبُخلِ، كما نهى عن الإسرافِ والتبذير.
وأمرَ بالقوّة والشّجاعةِ بالأقوالِ والأفعال، ونهى عن الجُبنِ، وذمَّ الجبناءَ وأهلَ الخَوَرِ وضُعفاءِ النُّفوس، كما ذمَّ المُتهوِّرينَ الذين يُلقُون بِأنفُسِهم وأيديِهم إلى التَّهلُكة، وأمرَ وحثَّ على الصبرِ في آياتٍ كثيرة، ونهى عَن..

– الشيخ: وأمر؟
– القارئ: وأمرَ وحثَّ على الصبر..
– الشيخ:
الصبر؟
– القارئ: أي نعم، في آياتٍ كثيرة، ونهى عن الجزعِ والهلعِ والتسَخُّطِ، كما نهى عن التجبّر والقسوة وأمرَ بأداءِ الحقوقِ لكلِّ مَن لهُ حقٌّ عليك: مِنَ الوالدينِ وذَوي القُربى والجارِ والإخوانِ والولاةِ والحُكَّام والأُجراءِ والطلبةِ وغيرهم مِن كلِّ ذي حقٍّ، هو فَرعُ حقِّ الله سبحانهُ وتعالى، تَفهمهُ وتَعرِفهُ وتؤدّيهِ بالمعروفِ والإحسانِ إليهم قولاً وفعلاً، وذمَّ مَن قصّرَ في حَقِّهم أو أساءَ إليهم قولاً وفعلاً، كما ذمَّ مَن غلا فيهم وفي غيرهم، حتى قدَّمَ رِضاهم على رضا الله وطاعَتِهم على طاعةِ الله.
وأمَرَنا بالاقتصادِ بالأكلِ والشربِ واللباسِ والحركةِ والمشي والصوت، ونهى عَن التّجاوز والإسراف في كلِّ ذلك، كما حذّر أشدَّ التحذيرِ مِنَ الترفِ ونهى عَن التقصير الضارِّ، الضارِّ بالرّوحِ والجسمِ، وبالجملة فإنَّ الله العليمَ الحكيم أمرَ بالوسطِ في كلِّ شيءٍ بينَ تفريطٍ أو إفراط وقال:
وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا
 [البقرة:143]
– الشيخ: انتهى؟
– القارئ: أي نعم انتهى يا شيخ.
– الشيخ:
حسبُك، رحمهُ الله، هذه الوسطية هي مِن مَحَاسِن، مَحَاسِن هذا الدين المنيع بعثَ بهِ خيرَ المرسلين صلواتُ الله وسلامهُ عليه {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم}[المائدة:3] هذا مِنَ الكمالِ، مَنَ كمالِ هذا الدين اشتِمَالهُ على هذه الوسطية، اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلَامَ دِينًا [المائدة:3]
ففي عِبادةِ الله مَن فرَّط في الواجباتِ فهذا قد جَفَا وفرّط، ومَن غلا حتى تركَ بعضَ المباحاتِ، وحرَّمَ على نَفسهِ كالذين يعني، جَهلاً واجتِهاداً مِنهُم تَقَالُّوا عَمَلَ النبي عليهِ الصلاة والسلام، فقالوا: إنّا لَسنا كالنّبي، قالَ بَعضُهم أنا كذا، أنا أصومُ ولا أُفطِر، والآخرُ يقول: أقومُ ولا أفتُر ولا أنام، والآخر يقول: لا آكلُ اللحمَ، والآخرُ يقول: لا أتزوّجُ النّساءَ، فهؤلاء غَلَوا، فأنكرَ النبي عليه الصلاة والسلام عليهم وقال: (مَن رَغِبَ عَن سُنّتي فَليسَ مِنِّي).
فيُقابلُ هؤلاء المُفرِّطونَ الذين يَتَجاوزنَ الحلال إلى الحرامِ، ويَترُكونَ الفرائضَ والواجبات التي فَرَضها الله على عبادهِ، والصّراط المستقيم هو بَينَهُما، اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة:6]، الصّراط: هو الطريقُ المُستَقيم الذي لا اعوِجاجَ فيهِ، فيجبُ لُزومَ الصّراط المستقيم في كلِّ شيء، الصّراطُ المستقيم: هو الطريقُ الوسط الذي لا اعوِجاجَ فيهِ ولا انحراف، فالسّيرُ فيهِ، فالسّائرُ فيهِ آمِن، السّائرُ على الصّراطِ هو آمِنٌ، فَمَن انحرفَ عن الصّراط تعرّضَ للأخطارِ.

 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :القرآن وعلومه