بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس التّاسع والثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرينَ والمُسْتَمعين، قال الشيخ عبد الرّحمن بن ناصر السّعدي -رحمهُ الله تعالى- وأسكنهُ فَسيحَ جنانهِ في رسالتهِ: أصولٌ وقواعدُ في تَفْسيرِ القرآن.
القاعدة الرابعة والثلاثون: دلَّ القرآنُ في عِدّةِ آياتٍ أنَّ مَن تَركَ ما يَنْفَعهُ معَ الإمكانِ ابتُليَ بالاشْتِغالِ بِمَا يَضرّهُ، وحُرِمَ الأمرَ الأول.
– الشيخ: نسأل الله العافية، أعد، أعد
– القارئ: أحسن الله إليك، دلَّ القرآنُ في عِدّةِ آياتٍ أنَّ مَن تَركَ ما يَنْفَعهُ معَ الإمكانِ ابْتُليَ بالاشْتِغالِ بِما يَضرّهُ، وحُرِمَ الأمرَ الأول.
– الشيخ: نسأل الله العافية، يُقالُ في الحِكمة "نَفْسُكُ إنْ لَمْ تَشْغَلْها بالحقِّ شَغَلتكَ بالباطلِ"، هذا المعنى كما قالَ الشيخ، تَضَمّنتهُ آيات، سَيَذْكُرها الشيخ مِنْها: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ [البقرة:101-102]، نَبَذوا كِتابَ الله، فاسْتَعاضوا عَنْهُ باتّباعِ الشياطينِ واتّباعِ السحر.
ومِن شَواهدهِ قَولهُ تَعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37]، وقالَ سُبْحانهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]
– القارئ: أحسن الله إليك، وذلكَ أنّهُ وَردتْ في عِدّةِ آياتٍ: أنَّ المُشْرِكينَ لمّا زَهدوا في عبادةِ الرّحمنِ ابْتُلوا بِعبادةِ الأوثانِ، ولمّا اسْتَكبَروا عَنِ الانقيادِ للرّسلِ، بِزَعْمِهم: أنَّهمْ بَشرٌ، ابْتُلوا بالانقيادِ لكلِّ مارجِ العقلِ والدّين، ولمّا عُرِضَ عَليهم الإيمانُ أوّلَ مَرّة فَعَرَفوهُ، ثمَّ تَرَكوهُ، قَلَبَ الله قلوبَهم، وطَبعَ عَليها وخَتمَ، فلا يَؤْمِنونَ حتّى يَروا العذابَ الأليم.
ولمَّا بيَّنَ لهم الصّراط المُسْتقيم، وزاغوا عَنهُ اختياراً ورضىً بطريقِ الغيِّ على طريقِ الهُدى، عُوقِبوا بأنْ أزاغَ الله قُلوبَهم، وجَعَلهمْ حائرينَ في طَريقِهم، ولمّا أهانوا آياتِ الله ورُسُلهِ أهانَهم الله بالعذابِ المُهين.
ولمّا اسْتَكْبروا عَنِ الانقيادِ للحقِّ أذلَّهُم في الدنيا والآخرة.
ولمّا مَنَعوا مساجدَ الله أنْ يُذْكرَ فيها اسمهُ، وأَخرَبوها ما كانَ لهمْ بعدَ ذلكَ أنْ يَدْخُلوها إلّا خائِفين.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77]
والآياتُ في هذا المعنى كَثيرة جداً، يُخْبرُ فيها أنَّ العبدَ كانَ قَبلَ ذلكَ بِصَدَدِ أنْ يَهْتَدي الطريقَ المُسْتَقيم ثمَّ إذا تَرَكها بَعدَ أنْ عَرَفها، وزَهدَ فيها بعدَ أنْ سَلَكها، أنْ يُعاقَبَ ويَصيرُ الاهتداءُ غيرَ مُمْكنٍ في حَقّهِ، جزاءً على فِعْلهِ، كَقولهِ عَن اليهود: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:101-102]. فإنّهم تَركوا أجلّ الكتبِ وأنْفَعَها وأصدَقَها، فابْتُلوا باتِّباعِ أرْذَلِها وأكْذَبِها وأضرِّها، والمُحاربونَ لله ورَسولهِ تَركوا إنفاقَ أمْوَالهم في طاعةِ الرّحمن، وأنْفَقوها في طاعةِ الشّيطان.
القاعدة الخامسة والثلاثون:
في القرآنِ عِدّةُ آياتٍ فيها الحثُّ عَلى أعلى المَصْلَحتينِ وتَقْديمِ أهونَ المَفسَدَتينْ، ومَنْعِ ما كانتْ مَفْسَدتهُ أرْجحَ مِن مَصْلَحتهِ، وهذه قاعدةٌ جَليلة. نبَّهَ الله عَليها في آياتٍ كثيرة.
فَمِنَ الأول.
– الشيخ: هذه قاعدةٌ عَقْلية وهي شَرعية، فإنَّ العقلَ يَقْتَضي احْتِمال أدنى المَفسَدتينِ لدفعِ أعلاهُما، وتَفْويتِ أدنى المَصْلَحتينِ لِتَحْصيلِ أكْبَرِهما، كذلك هذا هو مُوجِبُ الفِطرةِ والعقل، وقدْ دلَّ عليهِ الشرعُ، هو جاريٍ في كلِّ العلوم، فالطبُّ يُقطَعُ العضو حمايةً لباقي الجسم، إذا كان المَرضُ يَسْري، فيُؤثِرُ الطبيب والمريضُ قطعَ العضو المتآكلِ، قَطعَ العضو المريض الجريح لِيَسْلَمَ باقيهِ، فهذا مِن ارتكابِ أدنى المَفْسَدتينِ لدفعِ أعلاهُما.
– القارئ: أحسن الله إليك، وهذه قاعدةٌ جَليلة، نبَّهَ الله عليها في آياتٍ كثيرة.
فَمِنَ الأوّلِ المفاضلةُ بينَ الأعمالِ وتَقْديمِ الأعلى مِنْها، كقولهِ تَعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [الحديد:10] وكقولهِ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:19]، وكقولهِ: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95]
ومن الثاني: قوله تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217]، بيَّن تعالى أنَّ ما نَقَمهُ الكفّارُ على المسلمين مِن قِتالٍ في الشهرِ الحرام، أنَّهُ وإنْ كانتْ مَفْسدة، فما أنتمْ عليهِ مِنَ الصدِّ عَن سبيلِ الله والكفرِ بالله وبالمسجدِ الحرام، وإخراجِ أهلهِ مِنهُ أكبرُ عِندَ الله مِنَ القتل.
وكقولهِ: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ [الفتح:25]، فكفَّهم الله عَن القتالِ في المَسجدِ الحرامِ معَ وجودِ المُقتضِي مِنَ الكفّارِ خوفَ المَفْسدةِ المُترتّبة على ذلكَ: مِن إصابةِ المؤمنينَ والمؤمنات مِن معرَّةِ الجيشِ ومضرَّتهِ.
وكذلكَ جميعُ ما جَرى في الحُديبيّة مِن هذا الباب: مِن التزامِ تلكَ الشروطِ التي ظاهِرُها ضَررٌ على المسلمين، ولكنْ صارتْ هي عَينُ المَصلحةِ لهم.
ومِن هذا: أمرهُ بكفِّ الأيدي قَبلَ أنْ يُهاجرَ الرّسولُ إلى المدينة؛ لأنَّ الأمرَ بالقتالِ في ذلكَ الوقتِ أعظمُ ضرراً مِنَ الصبرِ والإخلادِ إلى السكينة.
ولعلَّ مِن هذا مَفْهومُ قولهِ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، يعني فإنْ ضرَّتْ فترْكُ التذكيرِ المُوجِبِ للضررِ الكثيرِ هو المُتعيِّنْ.
– الشيخ: التذكيرُ أحياناً يَتَرتّبُ على إنكارِ المُنكرِ … إذا ترتَّبَ على إنكارِ المُنكرِ زيادةُ المُنكر، أو حُدوثِ مُنكَرٍ آخر، فإنّهُ يُنهى عنه، يَسْتَدلُّ العلماءُ على هذا بِمسائلَ مِنْها مَسْألةٌ صَغيرة، لكنْ لها دَلالتُها.
لمّا بالَ الأعرابيُ في المسجدِ ثارَ عليهِ الصّحابةٌ تَعْظيماً للمسجدِ، كيف؟، فقالَ عليه الصلاة والسلام: (دَعوهُ لَا تُزْرِمُوا عَلَيه بَولهُ) فتركَهُ حتى فرَغَ الأعرابيُ مِن بولهِ، فأمرَ النبي صلّى الله عليه وسلّم بِذَنوبٍ أو سَجْلٍ مِن ماءٍ فأُهريق عليهِ، انتهى.
فزالت المَفسدةُ وسَلِموا مِن وقوعِ فَسادٍ أكثر، لأنّهم لو تَرَكهم الرّسول لَربّما ضَربوهُ أو طَردوهُ، فراحَ يُلطِّخُ نَفسهُ بالبول، ويُلوِّثُ مواضِع كثيرة في المسجدِ، فالإنسانُ إذا خُوِّفَ وخاف، ثار وهو يَبول فإنَّ بَولهُ سيكونُ على ثيابهِ وبَدنهِ والأرضِ التي يَسيرُ عليها، فهذا الحديثُ استدلَّ بهِ أهلُ العلمِ على هذه القاعدةِ في شأنِ الأمرِ بالمعروفِ والنَهيُ عَن المُنكر.
فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عَن المنكرِ مِن أفضلِ الأعمالِ لكنّهُ، إذا كانَ يؤدّي إلى فَسادٍ عَريض فإنّهُ يُنهى عَنهُ.
– القارئ: أحسن الله إليك، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، يعني فإنْ ضرَّتْ فترْكُ التذكيرِ المُوجِبِ للضررِ الكثيرِ هو المُتعيِّنُ، والآياتُ في هذا النوعِ كثيرةٌ جِداً.
ومِن الثالثِ: قَولهُ تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَر منْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] وهذا كالتعليلِ العام، أنَّ كلَّ ما كانتْ مَضرَّتهُ وإِثمهُ أكبرُ مِن نَفْعهِ، فإنَّ الله مِن حِكْمَتهِ لابدَّ أنْ يِمْنعَ مِنهُ عِبادهُ ويُحرِّمهُ عليهم.
وهذا الأصلُ العظيم كما أنّهُ ثابتٌ شرعاً فإنّهُ هو المعقولُ بينَ النّاس المَفطورينَ على اسْتِحْسانهِ، والعملِ بهِ في الأمورِ الدينيّة والدنيوية، والله أعلم.
– الشيخ: أحسنت.