بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس الثاني والستون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين، قال الشيخ عبد الرّحمن بن ناصر السّعدي رحمهُ الله تَعالى، وأسكنهُ فسيحَ جنانهِ، في رسالتهِ "أصولٌ وقَواعدُ في تَفْسيرِ القرآن":
القاعدة الخامسة والستون: قدْ أرشدَ القرآنُ إلى مَنْعِ الأمرِ المُباح إذا كانَ يُفْضي إلى مُحرَّمٍ أو تَركِ واجِب.
وهذه القاعدةُ ورَدتْ في القرآنِ في مَواضِعَ مُتَعدّدة، وهي مِن قاعدةِ: الوسائِل لها أحكامُ المقاصِد، فَمِنْها: قولهُ تَعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]
وقولهُ تَعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31]
وقولهُ تَعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]
وقولهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، وقَدْ وردَ بَعضُ آياتٍ تَدلُّ على هذا الأصلِ الكَبير.
فالأمورُ المُباحة هي بِحَسبِ ما يُتوسّلُ بِها إليهِ، فإنْ تُوسِّلَ بها إلى فِعل واجبٍ أو مَسْنونٍ كانتْ مأموراً بِها، وإنْ تُوسِّلَ بها إلى مُحرَّمٍ أو تَركِ واجبٍ، كانتْ مُحرَّمةً مَنهيَّاً عَنها، (وَإنّما الأعمَالُ بِالنّيات)، الابْتِدَائيةُ والغائيّةُ، والله الموفق.
– الشيخ: هذه هي قاعدةٌ عَظيمة "للوسائلِ حُكم الغايات" يعني الطّرقُ المُفْضية إلى خَيرٍ محمودة ومأمورٌ بِها، والوسائِل التي تَفْضي إلى الشرِّ هذه مَذْمومةٌ ومَنْهيٌّ عَنها.
ومِن شَواهِدها في القرآنِ مَشهور عِندَ أهلِ الأصول، فهذه القاعِدة تُسمَّى عِندَ الأصوليين "سدُّ الذّرائِع"، قاعدةُ سدِّ الذّرائع، الذّريعة هي الوَسيلة، هي الطريقُ المُوصِل إلى غاية، وسدِّ الذّرائع.
قاعدةُ "سدِّ الذّرائع" يَعْني مَنع الوسائِل المُفضية إلى المَفاسِد، المفاسد، فَيقولونَ هذ حَرامٌ؛ لأنّهُ وسيلةٌ إلى كذا، إلى حرام، مِن شَواهِده: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام:108] هذا أمرٌ مِنَ الله للمؤمنين، أو نَهيٌ مِنَ الله للمؤمِنين أنْ يَسبُّوا آلهةَ المُشْركين، لا تَسبّوا آلهةَ المُشْركين، يُفْضي ذلكَ إلى أنْ يَسبُّوا الله.
فَسبُّ آلهةِ المُشْركين الأصلُ أنّهُ جائِز، لكنْ إذا كانَ يُفْضي إلى أنْ يَسُبَّ المشركونَ إلهَ المؤمنين، أنْ يَسُبُّوا الله، فإنّهُ يُنْهى عنهُ لِما يُفضي إليهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، وهذا الكلامُ غَير أنْ نَقولَ أنّها ليستْ آلهة؛ لأنَّ قَولَنا ليستْ آلهة، أو نَقول لا إله إلّا الله، يَعني كُلّ مَعبودٍ سِوى الله باطِل، هذا ما يَدْخل في السبِّ المَنهي عَنهُ وإلّا أفْضَى الأمرُ إلى السُّكوتِ عَن بيانِ التّوحيد وضدِّه الشّرك، لا.
لكنْ السبَّ الذي فيهِ مثل: قبَّحهُ الله، قبَّحَ الله إلهك، إنّهُ مَعْبودٌ باطِل، قبَّحَهُ الله، إنّهُ لا خَيرَ فيهِ، يَعْني الكلمات التي تُثيرُ المُشرك تُثيرهُ؛ لأنَّ المُشرك يَغْضَب لِمَعْبودهِ؛ لأنّهُ يُحبّهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] يَغْضبُ للمَعْبود، فإذا أنتَ سَببتَ مَعْبوده، ثارَ فيُقابِلُكَ بِسبِّ إلهك، فَيَسبُّ الله عدواً بِغيرِ عِلم.
ومِن شَواهِد هذه القَاعِدة كما ذكرَ الشيخ، قَولهُ تَعالى للمؤمِنات: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ [النور:31] المرأةُ إذا كانَ عَليها خَلاخِل، الخلاخِل في رِجلَيها تَكونُ مَسْتورة، الأصل أنّها مَسْتورة بالثياب، لكنْ قدْ تَضْربُ الأرضَ بِرجليها فَيكونُ للخِلخالِ طَنينًا أو تَضْرِبُ إحدى رِجليها بالأخرى، وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ واللّام هذه للعاقِبة أو للتَعليل، فإنْ كانتْ للتَعْليل فإنّهُ يُحْرَمُ على المؤمنةِ أنْ تَضْرِب بِرجلِها لِيَسمعَ ويكون هذا إثماً وحراماً، تَكونُ قاصِدةً للشَّرِّ، تَضْربُ بِرجلها ليَعلم ما تُخْفيهِ مِنَ الزّينة، يُحْتَمل أنّهُ للعاقِبة، وأنّهُ نَهي عَن ذلكَ؛ لأنّهُ يُفْضي ولو لمْ تَقْصُده.
تُنْهى المؤمنةُ عَن أنْ تَضْرب بِرجلِها؛ لأنَّ ذلكَ يُفْضي إلى عِلم السّامِع بِما عَليها مِنَ الحُلي، مِنَ الخِلخال، فإذا لمْ تَقْصُده فإنّها لا تَأثم؛ لأنّها لمْ تَقْصُده، لكنْ عليها أنْ تَحْتَرِز، عَليها أنْ تَحْتَرِز، وهكذا المسألة الثالثة، الآية الثالثة: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ [الأحزاب:32] خُضوعُ المرأةِ في خِطابِ الرَجُل بالصّوت الرَّخيمِ، والصّوت الرَّخي، يَطْمَعُ مَن في قَلْبهِ مَرضٌ وهو شَهْوة الزّنا، بل على المُسْلِمة إذا خاطَبت رَجلاً أنْ تُكلِّمَهُ بالكلام الوَسط، لا عَنفَ ولا خُضوع، خَضوع وتغنُّجٌ كما يَقولون، لا، تُخاطِب خِطاب عادي، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]
– القارئ: أحسن الله إليك
القاعدة السادسة والستون..
– الشيخ: لا إله إلّا الله، هذه القاعدة، اعْني قاعدة سَدِّ الذّرائِع قاعدةٌ عَظيمة، يَعني شَواهِدها في السُنّة كذلك، شَواهِدُها النّهيُ عَن خَلوةُ الرَجُل بالمرأة الأجنبية هذا مِن قَبيل سدِّ الذرائع، بل وتَحْريمُ النّظرِ للمرأة الأجنبية هو مِن قَبيل سَدِّ الذّرائع.
وهذه قاعدةٌ مَعْقولة، مَعْقولة يَعْني يَقْتَضيها العَقل، كما أنَّ الشّرع جاءَ بِها، قاعدةٌ مُعْتَبَرة في الطبِّ مِن أصولِ الطب، الحُمية؛ لأنّها وَسيلة إلى حِفْظِ القوّة، وإلى مَنْع وقوع المَرض، ويَنْبَغي التّدبّر لها، والعمل بِموجِبها، لا إله إلّا الله.
– القارئ: أحسن الله إليك.
القاعدة السادسة والستون:
مِن قَواعِد القرآن أنّهُ يَسْتَدِلُّ بالأقوالِ والأفعالِ على ما صَدرتْ عَنهُ مِنَ الأخلاقِ والصّفاتِ.
وهذه قاعدةٌ جَليلة فإنَّ أكثرَ الناسِ يَقْصرُ نَظرُه على نَفس اللفظ..
– الشيخ: يَقْصُرُ نظرَهُ
– القارئ: يَقْصُرُ نَظرَهُ على نَفْسِ اللفظِ الدّالِّ على ذلكَ القولِ أو الفِعلِ، مِن دونِ أنْ يُفكِّرَ في أصلهِ وقاعدتهِ التي أوجبتْ صُدورَ ذلكَ الفِعلِ والقَولِ، والفَطِنُ اللبيب..
– الشيخ: يعني ما ينظر للدوافع
– القارئ: وَالفَطِنُ اللبيب يَنْظُر إلى الأمرينِ ويَعْرِفُ أنَّ هذا لِهذا، وهذا مُلازِمٌ لهذا.
وقَدْ تَقدّمَ ما يُقارِبُ هذا المَعنى الجَليل، ولكن لشدّة الحاجةِ إليهِ أورَدْنَاهُ على أسلوبٍ آخر، فَمِن ذلكَ أنَّ قولهُ عَن عباد الرّحمن أنّهم: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]، وذلكَ صادِرٌ عَن وَقارِهم وسَكينَتِهم وخُشوعِهم، وعَن حِلْمِهم الواسِع وخُلُقِهم الكامِل، وتَنْزيهَهم لأنْفُسهم عَن مُقابَلةِ الجاهلين، ومِثلُ قَولهِ: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:17]، يَدلُّ معَ ذلكَ على حُسْنِ إدارةِ المُلْك وكَمالِ السّياسة وحُسْنِ النظام.
وقولهُ تَعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، يَدلُّ على حُسنِ الخُلُقِ.
– الشيخ: إيش يقول؟
– القارئ: وقولهُ تَعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، يَدلُّ على حُسنِ الخُلُق، ونَزاهةِ النّفس عَن الأخلاقِ الرّذيلة وعلى سَعةِ عُقولِهم وقوّة حِلْمِهم واحْتِمالِهم، ومِثْلُ الإِخبارِ عَن أهلِ الجاهليّة في تَقتيلِ أولادِهم خَشيةَ الفَقر، أو مِنَ الإمْلاقِ، يَدلُّ على شِدّة هَلَعِهِمْ وسوءِ ظَنِّهم بِربّهم، وعَدمِ ثِقَتِهم بِكفايَتهِ.
وكذلكَ قولهُ عَن أعداءِ رسولهِ صلّى الله عليه وسلّم: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57] يَدلُّ على سوءِ ظَنِّهم بالله وأنَّ الله لا يَنْصرُ دينهِ ولا يُتِمُّ كَلِمَته، وأمْثِلةُ هذا الأصلِ كَثيرةٌ واضحةٌ لكلِّ صَاحِبِ فِكرةٍ حَسنة.
القاعدة السابعة والستون..
– الشيخ: إلى هنا يا شيخ
– القارئ: أحسن الله إليك– طالب: النسخة اللي عندي … يقول: في هذا المَوضِع مِنَ النّسخة الأخرى كَتَبَ الشيخ رحمهُ الله قاعدةً أخرى مُغايرة لما أثبتَهُ هنا، ولِتمامِ الفائدة نَنْقُلها هُنا، فهو يقول: ونَقلوها، قاعِدةٌ ثانية، غير ما أُثبِتَ في الأصل..
– الشيخ: طيب تقرؤها إن شاء الله.