الرئيسية/شروحات الكتب/عقيدة السلف للصابوني/(2) قوله “ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه”

(2) قوله “ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه”

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث) للإمام الصّابوني
الدّرس الثّاني

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: بسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، قال الإمام أبو عثمانُ الصّابوني -رحمه الله- وغفرَ له ولشيخِنا وللحاضرين:
ويشهدُ أهلُ الحديث ويعتقدونَ أنَّ القرآنَ كلامُ الله وكتابُه..
– الشيخ:
أنَّ القرآن، خلَّك تُعرِب شوي..!
– القارئ: ويشهدُ أهلُ الحديثِ ويعتقدون أنَّ القرآنَ كلامُ الله وكتابه، ووحيُهُ وتنزيلُهُ غيرُ مخلوق، ومن قالَ بخلقِه واعتقدَه..
– الشيخ:
"غيرُ" عندك، صارت كلامَ الله … أنَّ القرآنَ كلامَ الله وكتابَهُ
– القارئ: ويشهدُ أهلُ الحديثِ ويعتقدون أنَّ القرآنَ كلامَ الله وكتابَهُ، ووحيَه وتنزيلَه غيرُ مخلوقٍ..
– الشيخ:
غيرُ: هذه هي الخبر، خبرُ "أنَّ"
– القارئ: ومَن قالَ بخلقهِ واعتقدَه فهو كافرٌ عندهم، والقرآنُ الذي هو كلامُ الله ووحيُهُ هو الذي نزلَ به جبريلُ على الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- قرآنًا عربيًا لقومٍ يعلمون، بشيرًا ونذيرًا، كما قال عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء:192-195]
وهو الذي بلَّغَه الرسولُ -صلّى الله عليه وسلّم- أمّته، كما أُمر به في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ [المائدة:67] فكان الذي بلَّغَهم بأمرِ الله تعالى كلامه -عزّ وجلّ- وفيه قالَ -صلى الله عليه وسلم-:
(أتمنعوني أن أُبلِّغَ كلامَ ربّي)
وهو الذي تحفظُه الصّدورُ، وتتلوه الألسنةُ ويُكتَبُ في المصاحفِ، كيفما تصرَّفَ، بقراءةِ قارئٍ ولفظِ لافظٍ، وحفظِ حافظٍ، وحيث تُلِيَ، وفي أيّ موضع قُرئ وكُتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواحِ صبيانِهم وغيرها. كلُّه كلامُ اللهِ -عزّ وجلّ- غيرُ مخلوقٍ، فمَن زَعَمَ أنّه مخلوقٌ فهو كافرٌ بالله العظيم.
سمعتُ الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعتُ أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعتُ الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، فمَن قالَ: "إنَّ القرآنَ مخلوقٌ" فهو كافرٌ بالله العظيم، لا تُقبَلُ شهادته، ولا يُعادُ إن مرِضَ، ولا يُصلَّى عليه إن ماتَ، ولا يُدفن في مقابرِ المسلمين، ويُستتاب فإن تابَ وإلَّا ضُربت عنقه.

فأمّا اللفظُ بالقرآن فإنَّ الشّيخَ أبا بكر الإسماعيلي الجرجاني ذكرَ في رسالته التي صنَّفَها لأهل جيلان: "من زعمَ أنّ لفظَهُ بالقرآن مخلوقٌ يريدُ به القرآنَ فقد قالَ بخلقِ القرآنَ".
وذكرَ ابن مهديّ الطّبري في كتابِ "الاعتقاد" الذي صنَّفَه لأهلِ هذه البلاد، أنَّ مذهب أهل السّنّةِ والجماعةِ القولُ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله -سبحانه- ووحيه وتنزيله، وأمره ونهيه غيرُ مخلوقٍ، ومَن قالَ "مخلوق" فهو كافرٌ بالله العظيم، وأنَّ القرآنَ في صدورِنا محفوظٌ، بألسنتنا مقروءٌ، في مصاحفنا مكتوبٌ، وهو الكلام الذي تكلمَ اللهُ به -عزّ وجلّ-. ومَن قال: "إنّ القرآنَ بلفظي مخلوقٌ، أو لفظي به مخلوقٌ فهو جاهلٌ ضالٌّ كافرٌ باللهِ العظيم".
وإنّما ذكرتُ هذا الفصلَ بعينه مِن كتاب "ابن مهدي" لاستحساني ذلكَ منه، فإنه اتَّبعَ السّلف من أصحابِ الحديثِ فيما ذكرَه، مع تبحُّره في علمِ الكلام، وتصانيفِه الكبيرةِ فيه وتقدُّمَهُ وتبرُّزهُ عند أهله.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: قرأتُ بخطِّ أبى عمرو المُستملي، سمعتُ أبا عثمان سعيد بن أشكاب يقولُ: سألتُ إسحاق بن إبراهيم عن اللفظِ بالقرآنِ فقال: "لا ينبغي أن يُناظَر في هذا، القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوق".

وذكر محمد بن جرير الطبري -رحمه الله- في كتابِ "الاعتقادِ" الذي صنفَه في هذهِ المسألةِ، وقالَ: "أما القولُ في ألفاظِ العبادِ بالقرآنِ فلا أثرَ فيه نعلمُه عن صحابيٍّ، ولا تابعيٍّ إلا عمَّن في قوله الغناء والشِّفاءُ، وفي اتّباعِه الرشدُ والهدى، ومن يقوم قولُه مقامَ الأئمةِ الأولى أبي عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- فإنَّ أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعتُ أبا عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول: "اللفظِيَّةُ جهميّةٌ"، قال الله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ [التوبة:6] ممن يسمعُ؟ قال: ثم سمعتُ جماعةً مِن أصحابنا لا أحفظُ أسماءَهم يذكرونَ عنه -رضي الله عنه- أنّه كان يقولُ: "مَن قالَ لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جهميٌّ، ومَن قال غير مخلوقٍ فهو مُبتدعٌ".
قال محمد بن جرير: ولا قولَ في ذلك عندنا يجوزُ أن نُقوِّلَه غيرَ قوله، إذ لم يكن لنا فيه إمامٌ نأتمُّ به سواه، وفيه الكفايةُ والمَقْنَعُ، وهو الإمامُ المُتَّبَعُ رحمةُ اللهِ عليه ورضوانه. هذه ألفاظُ محمد بن جرير التي نقلتها نفسَها إلى ما ها هنا من كتابِ "الاعتقاد" الذي صنَّفهُ.
قلت: وهو- أعني محمد بن جرير- قد نفى عن نفسِه بهذا الفصلِ الذي ذكرَه في كتابِه كلّ ما نُسِبَ إليه، وقُذف به من عُدولٍ عن سبيل السّنّة، أو ميلٍ إلى شيءٍ مِن البدعة، والذي حكاه عن أحمدَ -رضي الله عنه- وأرضَاه أنَّ اللفظيةَ جهميةٌ فصحيحٌ عنه، وإنّما قال ذلك لأنَّ جهمًا وأصحابه صرَّحوا بخلقِ القرآن، والذين قالُوا باللفظ تدرّجُوا به إلى القولِ بخلقِ القرآن، وخافُوا أهلَ السّنّة في ذلك الزّمان مِن التّصريح بخلقِ القرآنِ، فذكروا هذا اللفظَ وأرادوا به أنَّ القرآنَ بلفظِنا مخلوقٌ، فلذلكَ سمَّاهم أحمدُ -رحمه الله- جهميةً. وحُكي عنه أيضًا أنّه قال: اللفظية شرٌّ مِن الجهميّة.
وأمَّا ما حكاه محمدُ بن جرير عن أحمد -رحمَه الله- أنَّ مَن قالَ: "لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مُبتدعٌ"، فإنَّما أرادَ أنَّ السلفَ مِن أهل السّنّةِ لم يتكلموا في باب اللفظِ ولم يَحُوجهمُ الحالُ إليه، وإنّما حدثَ الكلامُ في اللفظِ مِن أهل التعمُّق وذوي الحُمقِ الذين أتوا بالمُحدَثَات، وعتوا عما نُهُوا عنه من الضّلالاتِ وذميم المقالاتِ، وخاضوا فيما لم يخُضْ فيه السّلفُ من علماء الإسلام، فقال الإمامُ هذا القول في نفسه بدعةٌ، ومِن حقِّ المُتسنِّنِ أن يدعَه، ولا يتفوَّهَ به ولا بمثلِه مِن البدعِ المُبتدعة، ويقتصرُ على ما قالَه السّلفُ مِن الأئمةِ المُتَّبعة أنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ولا يزيدُ عليه إلا تكفيرُ من يقولُ بخلقِه.
أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو بكر محمّد بن عبد الله الجراحي بمروَ، قال: حدثنا يحيى بن ساسويه، قال: حدثنا عبد الكريم السّكري، قال وهبُ بن زمعة: أخبرني علي الباشاني، قال: سمعْتُ عبد الله بن المبارك يقول: "مَن كفرَ بحرفٍ مِن القرآنِ فقد كفرَ بالقرآن، ومَن قال: لا أؤمنُ بهذه اللام فقد كفرَ".
ويعتقدُ أصحابُ الحديثِ ويشهدونَ أنَّ اللهَ -سبحانَه- فوقَ سبعِ سمواتٍ..
 
– الشيخ:
إلى هنا. الله أكبر، هذه القضيةُ لعلَّها أعظمُ القضايا التي صارَ فيها الافتراقُ والجدالُ، والقيلُ والقالُ من المُبتدعين ومن أهلِ السّنّةِ؛ قضيّة القرآن والكلام فيه مخلوقٌ أو غير مخلوقٍ، والأمرُ واضحٌ، لكن إذا حدثَت البدعةُ وأُثيرت الشُّبهات حصلَ الإشكالُ وحصلت البلبلةُ وحصلَ الاضطرابُ، ولم يزلْ هذا الأمرُ منذ حدثت بدعةُ الجهميّة وبدعةُ المعتزلة، وقولُهم بخلق القرآن.
وهي قضيةٌ يتكلّم فيها الناسُ على حسبِ مشاربِهم ومذاهبهم، والحقُّ -ولله الحمدُ- هو ما مضى أصحابُ رسولِ الله -صلّى الله عليه وسلّم- ومَن سارَ على منهاجهم وهو الصِّراطُ المُستقيمُ، القرآنُ كلامُ الله، واللهُ -سبحانه وتعالى- يتكلمُ وهذا كلامُه نزلَ به رسولٌ مِن الملائكة على رسولٍ مِن البشر بلَّغَهُ، ولهذا أضافهُ الله إلى جبريل وإلى محمدٍ إضافةَ تبليغ، أمّا مَن تكلَّمَ به فهو الله، هو كلامُ الله حقيقةً، تكلَّمَ به حقيقةً لأنَّ الله يتكلم.
لكنَّ الذين قالوا "إنه مخلوقٌ" هذا القولُ الباطلُ أصله باطلٌ مبنيٌّ على أنَّ الله لا يتكلّمُ إذا كان الله لا يتكلّم فهذا الكلامُ ليس كلامه حقيقةً، هذا هو أصلُ الشرِّ، فالقولُ بخلقِ القرآنِ هذا فرع عن بدعةِ التّعطيلِ، فرعٌ عن قول الجهميّةِ والمعتزلةِ أنَّ الله لا يتكلّمُ، لا يقومُ به كلامٌ، وكذلك الأشاعرةُ شابهوهم، لأنّهم يقولونَ إنَّ كلامَ الله معنىً نفسيًا، معنىً نفسيًا فقط، ليس بحرفٍ ولا صوتٍ ولا يُسمعُ منه ولا تتعلقُ به المشيئةُ، فقولُهم قريبٌ من قولِ الجهميّةِ، فهذا القرآنُ الذي نتلوه ونسمعُه ونكتبه عند الجهميةِ أنَّه ليس بكتابِ الله حقيقةً، بل عند الجهميّةِ أنه مخلوقٌ.
لكن بعضَ المذاهب يصير فيه بعضُ التّشويش والتذبذب؛ الأشاعرةُ يقولون إثباتُ الكلامِ هو مِن الصّفاتِ السّبع التي يُثبتونها، ولكن عندَ التّحقيقِ أنّهم ما يُثبتون أنَّ هذا القرآنَ هو كلامُ الله لكن يُثبتون لله كلامًا، كلامٌ نفسيٌّ فقط، كلامٌ نفسيّ، والأمرُ الحمدُ لله واضحٌ وبيِّنٌ، فالقرآن كلامُ الله حروفه ومعانيه وكما نطقَ الكتابُ بذلك حتى يسمع كلام الله، والآيات في هذا كثيرةٌ والحمدُ لله ربِّ العالمين.
والله يتكلّمُ ويفعلُ ما يشاء، فهو فعَّالٌ لِمَا يريد يتكلّم إذا شاءَ بِمَا شاءَ ولم يزلْ كذلك، لم يزل، لم يزل في القِدَمِ الذي لا بدايةَ له، لم يزلْ يتكلّم بِمَا شاءَ إذا شاء كيف شاء، فكلامُه -سبحانه- قديمُ النّوع، لكن هذا لا هذا يمنع أن نقولَ أنَّ القرآن قديمٌ، القرآن لا، القرآنُ هو مِن كلامِ الله لكن يُقال أنّ كلام الله قديمٌ، قديمُ النّوع، أمّا القرآنُ فهو تكلّم به -سبحانه وتعالى- بمشيئته.
ومسألةُ اللفظِ هذه مِن مُراوغاتِ الجهميّةِ صاروا يُطلقون، يقول أحدهم: "لفظي بالقرآن مخلوقٌ"، ولهذا جاءَ عن الإمامِ أحمد أنهم شرٌّ مِن الجهميّة الصُّرَحاء كما قال في "الواقفة" الذين توقَّفُوا، يقولُ: "أنا لا أقول القرآنُ مخلوقٌ ولا غير مخلوق" ما تقولُ؟ الشّكُّ في أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ هو يساوي القول بأنَّ القرآن مخلوقٌ، لأنَّ الشَّكَّ في الحق كالتّكذيب بالحقِّ، الشَّكُّ في الحق كالتكذيبِ بالحق.
فلا تأتِ بالألفاظ المُوهِمة التي فيها إشكالٌ فيها اشتباهٌ، واللفظُ لفظٌ فيه إجمالٌ وفيه اشتراكٌ، وتكلَّمَ فيه النّاس كثيرًا وألَّفُوا فيه، وفيه مُناقشات، ولكنَّ التّحقيق: إنَّ تلفُّظ الإنسان بالقرآن الذي هو فِعْلُ حركة لسانه وصوتِه هذا مخلوق؛ الصّوتُ صوتُ القاري والكلامُ كلامُ الباري.
 
 
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة