بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث) للإمام الصّابوني
الدّرس الثّالث
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلام على أشرف الأنبياءِ والمرسلين، قال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرّحمن الصّابوني:
ويعتقدُ أهلُ الحديث ويشهدونَ أنَّ اللهَ سبحانَه فوقَ سبع سمواته، على عرشِه مستوٍ كما نطقَ به كتابُه في قولِه -عز وجل- في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]
وقوله في سورة يونس: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس:3]
وقوله في سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2]
وقوله في سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59]
وقوله في سورة السجدة: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4]
وقوله في سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]
وأخبرَ اللهُ -سبحانه- عن فرعون اللعين أنّه قالَ لهامان: ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:37]
وإنّما قالَ ذلك لأنّه سمع موسى -عليه السّلام- يذكر أنّ ربّه في السّماء، ألا ترى إلى قوله: وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:37] يعني في قولِه: "إنَّ في السّماء إلهًا" وعلماءُ الأمةِ وأعيانُ الأئمةِ من السّلفِ -رحمهم الله- لم يختلفوا أنَّ الله تعالى على عرشِه، وعرشُه فوقَ سمواتِه، يُثبتون مِن ذلك ما أثبتَهُ اللهُ تعالى، ويؤمنونَ به ويُصدقُون الربَّ -جلَّ جلالُه- في خبرِه، ويُطلقونَ ما أطلقَه اللهُ -سبحانه وتعالى- من استوائِه على عرشِه، ويُمِرُّونَهُ على ظاهرِه ويَكِلُونَ علمَه إلى الله، ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7] كما أخبرَ اللهُ تعالى عن الرّاسخينَ في العلم أنّهم يقولون ذلك، ورضيَ منهم، فأثنى عليهم به.
أخبرنا أبو الحسن عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المُزكَّى، قال: حدثنا محمد بن داود بن سليمان الزاهد، قال: أخبرني علي بن محمد بن عبيد أبو الحسن الحافظُ من أصلِه العتيق، قال: حدثنا أبو يحيى بن كبيسة الوراق، قال: حدثنا محمد بن الأشرس الورَّاق "أبو كنانة"، قال: حدثنا أبو المغيرة الحنفي قال: حدثنا قُرَّة بن خالد عن الحسن عن أبيه عن أم سلمة في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] قالت: "الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقولٍ، والإقرارُ به إيمانٌ، والجحودُ به كفرٌ".
وحدثنا أبو الحسن بن أبي إسحق المُزكَّى بن مُزكَّى، قال: حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشّافعي، قال: حدثنا شاذان، قال: حدثنا ابن مخلد بن يزيد القُهِسْتاني، قال: حدثنا جعفر بن ميمون، قال: سُئِلَ مالكُ بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف استوى؟ قال: الاستواءُ غير مجهولٍ، والكيفُ غير معقولٍ والإيمانُ به واجبٌ والسؤالُ عنه بدعةٌ، وما أراكَ إلا ضالًّا وأُمر به أنْ يُخرَج من مجلسِه.
أخبرنا أبو محمد المخلدي العدل، قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن مسلم الاسفراييني، قال: حدثنا أبو الحسين علي بن الحسن، قال: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا مهدي بن جعفر بن ميمونٍ الرملي عن جعفرَ بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس يعني فسأله عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف استوى؟ قال: فما رأيته وجدَ مِن شيء كوجْدِهِ من مقالته، وعلاه الرُّحَضَاءُ، وأطرقَ القوم، فجعلوا ينظرون الأمر به فيه، ثم سُرِّيَ عن مالك فقال: "الكيفُ غيرُ معلومٍ، والاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ، وإني لأخافُ أن تكونَ ضالًّا، ثم أمرَ به فأُخرِجَ".
وأخبرنيه به جدي أبو حامد أحمد بن إسماعيل عن جدِّ والدي الشّهيد، وهو: "أبو عبد الله محمد بن عدي بن حمدويه الصّابوني"، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي عون النّسوي، قال: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا مهدي بن جعفر الرّملي، قال: حدثنا جعفر بن عبد الله، قال: جاءَ رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف استوى؟ قال فما رأينا مالكًا وجدَ من شيءٍ كوجدِه من مقالته، وذكر بنحوِهِ.
وسُئِل أبو العلي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء، وقيل له: كيف استوى على عرشه؟ فقال: إنَّا لا نعرف مِن أنباء الغيب إلا مقدار ما كُشفَ لنا، وقد أَعلمنا جلَّ ذكره أنّه استوى على عرشه، ولم يُخبرنا كيف استوى.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال أنبأنا أبو بكر محمد بن داود الزاهد، قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحمن السّامي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال: سمعتُ علي بن الحسن بن شقيق يقول: سمعتُ عبد الله بن المبارك يقول: "نعرفُ ربّنا فوقَ سبعِ سمواته على العرش استوى بائنًا منه خلقه، ولا نقولُ كما قالت الجهميةُ: إنّه ها هنا" وأشارَ إلى الأرضِ.
وسمعْتُ الحاكم أبا عبد الله الحافظ في كتابه "التاريخ" الذي جمعه لأهل نيسابور، وفي كتابه "معرفة الحديث" اللذين جمعَهما ولم يُسبَق إلى مثلِهما يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعتُ أبا بكرٍ محمد بن إسحاق بن خزيمة يقولُ: "مَن لم يقلْ بأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- على عرشِه، قد استوى فوق سبعِ سمواته، فهو كافرٌ بربِّه، حلالُ الدّمِ، يُستتابُ فإن تابَ وإلَّا ضُربت عنقُه، وأُلقيَ على بعض المزابلِ حتى لا يتأذَّى المسلمون ولا المُعاهَدون بنتنِ رائحةِ جيفَته، وكان مالُهُ فيئًا لا يرثُه أحدٌ من المسلمين، إذ المسلمُ لا يرثُ الكافرَ، كما قال النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (لا يرثُ المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ)
وإمامُنا أبو عبد الله محمدُ بن إدريس الشّافعي -رضي الله عنه- احتجَّ في كتابِه المبسوطُ في مسألةِ إعتاق الرقبةِ المؤمنةِ في الكفارةِ، وأنَّ غيرَ المؤمنةِ لا يصحُّ التكفيرُ بها بخبرِ معاويةَ بن الحكمِ وأنّه أراد أن يُعتِقَ الجاريةَ السّوداءَ لكفَّارةٍ، وسأل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن إعتاقِه إيَّاها فامتحنَها رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقال -صلّى الله عليه وسلّم- لها: (مَن أنا؟) فأشارَت إليه وإلى السّماءِ يعني: أنَّك رسولُ اللهِ الذي في السّماءِ. فقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (أعتِقْها فإنَّها مؤمنةٌ) فحكمَ رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- بإسلامِها وإيمانِها لمَّا أقرَّتْ بأنَّ ربَّها في السّماءِ وعرفتْ ربَّها بصفة العلوِّ والفوقيّةِ.
وإنّما احتجَّ الشافعيُّ -رحمة الله عليه- على المُخالفين في قولهم بجوازِ إعتاقِ الرقبةِ الكافرةِ في الكفَّارة بهذا الخبرِ لاعتقادِه أنَّه سبحانه فوقَ خلقِه وفوقَ سبعِ سمواته على عرشِه كما مُعتقَدُ المسلمين مِن أهلِ السّنّة والجماعة سلفِهم وخلفِهم، إذ كان -رحمه الله- لا يروي خبرًا صحيحًا ثم لا يقولُ به.
وقد أخبرنا الحاكم أبو عبد الله -رحمه الله- قال: أنبأنا الإمام أبو الوليد..
– الشيخ: إلى هنا.
أقولُ: هذا موضوعٌ عُنِيَ به أهلُ السّنّة، موضوعُ إثباتِ علوِّ الله على خلقِه واستوائِه على عرشِه، عُنُوا به كثيرًا بذكْرِ أدلَّته من الكتابِ، والسّنّةِ، والمعقولِ، ولم تتضافرِ الأدلةُ على شيءٍ من صفاتِه -سبحانه وتعالى- كما تضافرَت على علوِّه –تعالى- مِن حيث التنوعِ ومِن حيث الكثرةِ. الآياتُ والأحاديثُ والآثارُ، ولهذا ألَّفوا في ذلكَ مؤلفات خاصة وأطنبوا في هذا، كلّ ذلك مِن أجلِ الردِّ على الجهميّة ومَن وافقَهم مِن المُعتزلة والأشاعرة، فإنّهم جميعًا يُطبِقُونَ على نفيِ علوِّ الله على خلقه.
ومحلُّ النّزاع هو علوُّه بذاتِه بنفسه أنّه فوقَ العرش فوقَ سمواتِه على عرشِه، وإلا فعلوُّ القدر وعلوُّ القهر، هذا يُقرون به ليس هو بمحلِّ نزاع، لأنّهم يُقرُّون بأنَّ الله قاهرٌ لعباده وأنّه أكملُ مِن كلِّ شيءٍ لكن مع قولِهم أنّه أكملُ مِن كلّ شيء، وأنَّه كاملٌ مِن كلّ وجهٍ، لا يُثبتون له شيئًا مِن صفاتِ الكمالِ بل يقولونَ أنَّه واحدٌ مِن جميعِ الوجوه لا تقومُ به أيُّ صفةٍ، يعني مثل الجهميّةِ والمعتزلة، أمَّا الأشاعرة فمذهبُهم فيه اضطرابٌ وتذبذبٌ وتلفيقٌ، يُثبتون بعضًا وينفون بعضًا وفي الكلامِ كذلك مذهبُهم فيه تلفيقٌ، والإمام الصّابوني على هذا الطريق، يعني عقدَ هذا الفصل ليُقرِّرَ به عقيدة أصحاب الحديث الذين هم أهلِ السّنّة والجماعة، فذِكْرُ الآياتِ الدّالةِ على استوائِه على عرشِه في سبعةِ مواضعٍ، وبعضُ أدلة العُلوِّ وهي كثيرةٌ في القرآنِ وفي السّنّة ثم ذكرَ بعضَ الآثارِ عن السّلفِ.
وأيضًا ما يدلُّ على الفرْقِ بين إثباتِ الاستواءِ بمعناه المعقولِ وبين البحثِ عن الكيفيّةِ ولذلك أوردَ الأثرَ عن أم سلمةَ وعن الإمامِ مالك وغيرِهم "الاستواءُ معلومٌ" هذا منهجٌ وقاعدةٌ في كلِّ الصفاتِ: "المعنى معلومٌ والكيفُ مجهولٌ".
قلْ مثلَ هذا في الاستواءِ، والنزولِ، والغضبِ، والمحبّة، والضّحكِ، والفرحِ، كلّها، مقولةُ مالك هذه صارَت قاعدةً، وصارت منهجًا لأهلِ السّنّة، فرحمَ اللهُ الجميع.