بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث) للإمام الصّابوني
الدّرس السّابع
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، قال الإمامُ أبو عثمان الصّابوني -رحمه الله تعالى-:
أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو محمد الصّيدلاني قال حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد قال: حدثنا أحمد بن صالح المصري قال: حدثنا ابنُ وهبٍ قال: أنبأنا مخرمة بن بُكير عن أبيه، وأخبرنا الحاكم قال: حدثنا محمد بن يعقوب الأصم -واللفظ له- قال: حدثنا إبراهيم بن منقذ قال: حدثنا ابن وهب عن مخرمة بن بُكير عن أبيه قال: سمعتُ محمد بن المنكدر يزعمُ أنّه سمع أم سلمة زوج النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- تقولُ: "نعم اليوم يوم ينزلُ الله تعالى فيه إلى السّماءِ الدنيا، قالوا: وأيُّ يوم؟ قالت: يومُ عرفة".
وروت عائشةُ -رضي الله عنها- عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ينزلُ اللهُ تعالى في النّصفِ مِن شعبان إلى السّماءِ الدّنيا ليلًا إلى آخرِ النّهار مِن الغد، فيُعتِقُ مِن النّارِ بعددِ شعرِ معزِ كلب ويكتبُ الحاج، ويُنزِلُ أرزاقَ السّنة، ولا يتركُ أحدًا إلا غفرَ له، إلّا مُشركًا أو قاطعَ رحمٍ أو عاقَّا أو مُشاحِنًا)
وأخبرنا أبو طاهر..
– الشيخ: أمّا حديثُ النّزولِ يوم عرفة فهذا مُختصٌّ بأهل الموقف، وأنَّهُ -تعالى- يدنو مِن عبادِه عشيةَ عرفة فيُباهي بأهلِ الموقف الملائكةَ يقولُ: (أشهدُكم أني غفرتُ لهم)
أمّا أحاديثُ النّزولِ ليلةَ النصف مِن شعبان فهي ضعيفةٌ عند أهل العلمِ وفي مضمونِها أنَّ الله يُقدِّرُ الأقدار والآجالَ التي في السنة، والحقُّ أن ذلك يكونُ في ليلة القدر، التقديرُ الحولي لحوادث وما يجري في الحولِ إنما يكونُ في ليلةِ القدر ليلةَ تقدير الأقدارِ، أما أحاديثُ ليلة النصفِ من شعبان ضعيفةٌ عندَ أهل العلم. اقرأ شيئًا من تحقيق المُحقِّقِ عندك على حديث: "النزول ليلةَ النصف" الذي قرأتُه.
– القارئ: قال: أولُ حديث أخرجَه التّرمذي عن عائشة -رضي الله عنها- من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا الحجَّاجُ بن أرطأة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- ثم ذكرَ الحديث وذكرَ بعض الروايات.
وقال الترمذي: حديثُ "عائشةَ" لا نعرفُه إلا من هذا الوجهِ من حديث الحجاجِ سمعت محمدًا يُضعِّفُ هذا الحديثَ، ثم قال: يحيى بن..
– الشيخ: محمد من هو؟ البخاري
– القارئ: ثم قال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج بن أرطأة لم يسمعْ من يحيى بن أبي كثير، وأوردَ السُّيوطيُّ هذا الحديثَ في الجامعِ الصغير ورمزَ أنه حسنٌ.
– الشيخ: إي، ما نعوِّل على.. انتهى؟
– القارئ: لا، ذكرَ رواياتٍ أخرى قال: وآخرُ حديثٍ أخرجَه ابن ماجة بلفظ: (إنَّ الله ليطَّلعُ في ليلة النّصف مِن شعبان فيغفر لجميع خلقه إلّا لمشرك أو مشاحن) قال: وبألفاظٍ قريبةٍ مما سبقَ أوردَها الهيثميُّ في مجمعِ الزوائدِ وقال: رواه البزارُ عن أبي بكرٍ الصديق وفيه "عبد الملك بن عبد الملك" ذكرَه ابن أبي حاتمٍ في "الجرحِ والتعديلِ" ولم يُضعفه، وبقيةُ رجاله ثقاتٌ. وعن أبي هريرةَ وفيه "هشامُ بن عبد الرحمن" ولم أعرفه وبقيةُ رجاله ثقاتٌ.
وعن عوف بن مالك، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وثَّقَهُ أحمدُ بن صالح وضعفه جمهورُ الأئمة، وابنُ لهيعةَ لينٌ، وبقيةُ رجاله ثقاتٌ، ورواه الطبراني في "الكبير والأوسط" ورجالُهما ثقاتٌ من حديثِ "معاذٍ بن جبل" وأوردَ الهيثميُّ روايةً عن الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو وقال: وفيه "ابن لهيعةَ" وهو لين الحديث وبقيةُ رجاله وُثِّقُوا، ويقول أحمد شاكر عند رواية الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو: إسنادُه صحيح. هذا أبرز ما ذكره.
– الشيخ: أحسنت، بعده
– القارئ: أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة أنبأ جدي الإمام قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن هشام الدستوائي، وقال الإمام حدثني الزعفراني قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال: حدثنا هشامُ الدستوائي، وحدثنا الزعفراني قال: حدثنا يزيد -يعني: ابن هارون- قال: أنبأنا الدستوائي، وحدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون بالإسكندرية قال: حدثنا الوليد عن الأوزاعي جميعًا عن يحيى بن أبي كثير، عن عطاءِ بن يسار قال: حدثنا رفاعة بن عُرابة الجهني. وقال الإمام: وحدثنا أبو هاشم زياد بن أيوب قال: حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير قال: حدثني هلالُ بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار قال: حدثني رفاعة بن عرابة الجهني قال: صدرْنا مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من مكة، فجعلوا يستأذنون النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فجعلَ يأذنُ لهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما بالُ شِقِّ الشّجرةِ الذي يلي رسولَ الله أبغضَ إليكم من الآخر!) فلا ترى من القومِ إلا باكيًا، قال: يقول أبو بكر الصّديق: إنّ الذي يستأذنُك بعدَها لسفيهٌ، فقام النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- فحمدَ الله وأثنى عليه، وكان إذا حلف قال: (والذي نفسي بيده أشهدُ عندَ الله ما منكم مِن أحدٍ يؤمنُ بالله واليوم الآخر ثم يُسدِّدُ إلا سلكَ به في الجنّة، ولقد وعدَني ربّي أن يُدخل مِن أمّتي الجنّةَ سبعين ألفًا بغيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، وإني لأرجو أن لا تدخلوها حتى تتبوَّؤوا ومَن صلحَ مِن أزواجكم وذرياتِكم مساكنكم في الجنةِ) ثم قال -صلّى الله عليه وسلم-: (إذا مضى شطْرُ الليلِ -أو قال: ثلثاه- ينزلُ الله إلى السّماءِ الدّنيا، ثم يقول: لا أسألُ عن عبادي غيري مَن ذا الذي يسألُني فأعطيَهُ؟ مَن ذا الذي يدعوني فأُجيبَه؟ مَن ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له؟ حتى ينفجرَ الصبحُ) هذا لفظُ حديثِ الوليد.
قال شيخ الإسلام: قلت: فلمَّا صحَّ خبرُ النزول عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ به أهلُ السنةِ، وقبلوا الخبرَ..
– الشيخ: قال شيخ الإسلام. إيش قالَ عليها المُحقق؟
– القارئ: قال: المقصودُ به المؤلف وهي من النُسَّاخ للتوضيح..
– الشيخ: تمام. يعني ليس هو الذي يُلقِّبُ نفسَه شيخ الإسلام!
– القارئ: أحسن الله إليك، يا شيخ، قلت: فلمَّا صحَّ خبرُ النزولِ عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أقرَّ به أهل السّنّة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزولَ على ما قالَه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ولم يعتقدوا تشبيهًا له بنزولِ خلقه، ولم يبحثُوا عن كيفيته؛ إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحقَّقُوا واعتقدُوا أنَّ صفاتَ الله -سبحانَه- لا تُشبه صفاتَ الخلق؛ كما أنَّ ذاتَه لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المُشبِّهة والمُعطِّلة علوًا كبيرًا، ولعنهم لعنًا كبيرًا.
وقرأت لأبي عبد الله بن أبي حفص البخاري، وكانَ شيخ بخارى في عصره بلا مُدافعة، وأبو حفص هذا من كبار أصحاب محمد بن الحسن الشيباني، قال أبو عبد الله يعني ابن أبي حفص: عبد الله بن عثمان، وهو عبدان شيخ "مروَ" يقول: سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول: قال حمادُ بن أبي حنيفة: قلنا لهؤلاء: أرأيتُم قولَ الله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:21] وقوله عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] فهل يجيءُ ربنا كما قالَ، وهل يجيءُ الملَكُ صفًا صفًا؟ قالوا: أمَّا الملائكةُ..
– الشيخ: كأنه خرجَ إلى الكلام في المجيءِ، وعلى كلّ حالٍ مسألةُ النّزول -يعني النزولَ الإلهي في آخر الليل- قد تواترَت بها السنةُ عن النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- وجرى أهلُ العلم على أنّهم يذكرون في البابِ وفي المسألةِ الأدلّة الصحيحةَ، والأحاديثَ الصحيحة، وما يعضُدها ويشهدُ لها ويُؤيدها، فما ذكرَه من الأحاديثِ الصحيحة أو الحسنةِ أو الضعيفة ِكلها تدلُّ على إثباتِ النزول بالجملة، وهذا هو محلُّ النزاع، النزاعُ بين أهل السنةِ والمُعطلة، النزاعُ بينهم في أمرِ النزول، هل الله ينزل؟ أهل السّنّة يؤمنون بأنّه ينزلُ ويفعلُ ما يشاءُ -سبحانه وتعالى- وما صحَّ من ذلك وجبَ الإيمان به.
وأما المُعطلة فإنهم ينفون قيام الصفاتَ الفعليّة به من الاستواءِ والنزول والمجيء وكلُّها عندهم مُمتنعة، فكلُّ أمر تتعلَّقُ به المشيئةُ فإنهم ينفونه عن الله انطلاقًا -من بدعتهم- من قولهم: "أنه تعالى مُنزَّهٌ عن حلولِ الحوادث" عندهم أنه ما يكون بمشيئته حادثٌ، ولهذا قالوا مثل هذا في الكلام، قالوا: إنَّ كلامَ الله.. يعني الجهمية والمعتزلة نفَوا قيام الفعلِ عنه تعالى مُطلقًا، ومَن تذبذبَ في رأيه وحكمه قالوا: "إنَّ كلامَ الله معنىً نفسي واحد لا تتعلقُ به المشيئة" يعني معنىً نفسيًا قديمًا.
– القارئ: فيجيئون صفًا صفًا، وأمّا الربُّ -تعالى- فإنَّا لا ندري ما عنى بذلك، ولا ندري كيف جيئَتُه.
وقلنا لهم: إنا لم نُكلِّفْكُم أن تعلموا كيفَ جيئته، ولكنَّا نُكلفكم أن تؤمنوا بمجيئِه، أرأيتم مَن أنكرَ أن المَلَكَ لا يجيء صفًا صفًا، ما هو عندكم؟ قالوا: كافرٌ مُكذِّبٌ، قلنا: فكذلك من أنكرَ أنَّ اللهَ -سبحانه- لا يجيءُ فهو كافرٌ مُكذِّبٌ.
قال أبو عبد الله بن أبي حفص البخاري أيضًا في "كتابه": ذكرَ إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا قال لك الجهميُّ: "أنا لا أؤمنُ بربٍّ يزولُ عن مكانه -وفي نسخة: ينزل لكن لعلّها "يزول"- فقل أنتَ: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاءُ"