بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث) للإمام الصّابوني
الدّرس الثّامن
*** *** *** ***
القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، قال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصّابوني:
وقرأت لـ أبي عبد الله بن أبي حفص البخاري، وكان شيخ بخارى في عصره بلا مُدافعة، وأبو حفصٍ كان مِن كبار أصحاب محمّد بن الحسن الشّيباني، قال أبو عبد الله -أعني ابن أبي حفصٍ: هذا عبد الله بن عثمان، وهو عبدانُ شيخُ مروَ- يقول: سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول: قال حماد بن أبي حنيفة: قلنا لهؤلاء: أرأيتم قولَ الله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:21] وقوله عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] فهل يجيءُ ربنا كما قالَ، وهل يجيءُ الملَكُ صفًا صفًا، قالوا: أمَّا الملائكةُ فيجيئون صفًا صفًا، وأمّا الرّبُّ تعالى فإنّا لا ندري ما عنى بذلك، ولا ندري كيف جَيئَتُهُ. وقلنا لهم: إنّا لم نُكلِّفكم أن تعلموا كيف جَيئَتُهُ، ولكن نُكلِّفكُم أن تؤمنوا بمجيئِه، أرأيتُم مَن أنكرَ أن الملَكَ لا يجيء صفًا صفًا، ما هو عندكم؟ قالوا: كافرٌ مُكذِّبٌ، قلنا: فكذلك مَن أنكرَ أنَّ الله سبحانه لا يجيءُ فهو كافرٌ مُكذِّبٌ.
قال أبو عبد الله بن أبي حفص البخاري أيضًا في "كتابه": ذكر إبراهيم بن..
الشيخ: لا إله إلا الله، وهذا من أحسنِ الكلام وأحسنِ الاحتجاج، آيةٌ واحدة تثبتون بعض ما دلَّتْ عليه وتنفُون في جملةٍ واحدةٍ وجاء ربك والملك [الفجر:21] فيقول: نعم الملائكة يجيئون وأمّا الرّبّ فلا ندري كيفَ يجيءُ، يعني كأنهم يقولون: لا ندري ما هذا المجيءُ. فعندهم الأصلُ الذي يعتقدونه أنَّ الله لا يقومُ به فعلٌ اختياريٌّ لا مجيءٌ ولا نزولٌ ولا استواءٌ ولا شيءٌ، كل فعلٍ يكونُ بالمشيئةِ هذا لا يكونُ من الرب ولا يقومُ بالربِّ.
القارئ: قال أبو عبد الله بن أبي حفص البخاري أيضًا في" كتابه": ذَكَرَ إبراهيم بن الأشعث قال: سمعتُ الفضيل بن عياض يقول: "إذا قال لك الجهميُّ: أنا لا أؤمنُ بربٍّ يزولُ عن مكانه. فقل أنتَ: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاء"
الشيخ: وهذا كذلك من الأجوبة الحكيمة على إيجازها، الجهميُّ يقول: أنا لا أؤمن بربٍّ يزول عن مكانه. يُعارض بذلك أخبار النزول والمجيء كأنه يقول: أنَّ نزولَه تعالى يقتضي أنه يزول عن مكانه فيقول: "أنا لا أؤمنُ بربٍّ يزول عن مكانه" فالفضيلُ بن عياض يقول: قل لمن قال ذلك: "أنا أؤمن بربٍّ يفعلُ ما يشاء"
وكأنَّ هذه الجملة تتضمن أنَّ قولَ الجهميِّ أنه تعالى لا ينزلُ ولا يجيء، أن هذا حكمٌ عليه بأنه لا يفعلُ ما يشاء، هذا حَجْرٌ وتعجيز يتضمن الحَجْرَ على الله، والتعجيزُ له أنه لا يقوى ولا يقدرُ على أن ينزلَ، ولا يقدرُ على أن يجيء، ولا ولا ولا، فقلْ: أنا أؤمن بربٍّ يفعلُ ما يشاء. فهو جوابٌ سديدٌ، رشيد.
القارئ: وروى يزيد بن هارون في مجلسه حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله في الرؤية وقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنّكم تنظرونَ إلى ربّكم كما تنظرونَ إلى القمرِ ليلة البدر) فقال له رجلٌ في مجلسه: يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحَرَدَ، وقال: "ما أشبهك بصَبِيغ وأحوجَك إلى مثلما فُعِل به، ويلك! ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يُجاوز هذا القولَ الذي جاءَ به الحديث، أو يتكلّم فيه بشيءٍ مِن تلقاء نفسه إلا مَن سَفِهَ نفسه واستخفَّ بدينه؟ إذا سمعتم الحديثَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاتَّبعوه ولا تبتدعوا فيه؛ فإنَّكم إن اتبعتُموه ولم تمارُوا فيه سلمْتُم، وإن لم تفعلُوا هلكتم". وقصةُ صبيغٍ الذي قالَ يزيد بن هارون..
الشيخ: اللهُ المستعان، الحديثُ من أصرحِ الأدلةِ على معناه، إنّكم سترون ربّكم كما ترون الشمس -يعني بمثالٍ- مثال ترون ربّكم كما ترونَ الشّمس صحوًا وكما ترونَ القمر، سبحان الله، رؤية بصرية واضحة جليَّة لا يلحقهم فيها ضيمٌ ولا ضررٌ يرونه من فوقهم كما ترون الشمس، فشبَّهَ الرؤية بالرؤية، رؤية المؤمنين ربهم كرؤيتهم للشمس والقمر ولم يُشبِّه المرئي بالمرئي.
القارئ: أحسنَ الله إليك، وقصةُ صبيغٍ الذي قال يزيدُ بن هارون للسائل: "ما أشبهك بـ صَبيغ، وأحوجك إلى مثل ما فُعِلَ به" هي ما رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: "أن صبيغًا التميمي أتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أميرَ المؤمنين أخبرني عن قوله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1] قال: هي الرياح،ُ ولولا أنِّي سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقولهُ ما قلتَه، قال: فأخبرني عن: فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:2] قال: هي السحابُ، ولولا أنِّي سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُه ما قلتُه، قال: فأخبرني عن: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:4] قالَ: الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُه ما قلتُه، قال: فأخبرني عن قوله: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:3] قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُه ما قلته، قال: ثم أَمَرَ به فضُرِبَ مائة سوط، ثم جعلَه في بيتٍ حتى إذا برئَ دعا به، ثم ضربَه مائة سوطٍ أخرى، ثم حملَه على قَتَبٍ، وكتبَ إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن حرَّمَ عليه مُجَالَسَةَ الناس، فلم يزلْ كذلك حتى أتى أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- فحلف بالأيمانِ المُغلَّظة ما يجدُ في نفسه مما كان يجدُهُ شيئًا، فكتبَ إلى عمر يُخبره، فكتب إليه: ما إخاله إلا قد صدقَ، خلِّ بينه وبين مُجالَسَةِ الناس.
وروى حمَّاد بن زيد..
الشيخ: إش قال المحقق على القصةِ تخريجًا أو..؟
القارئ: إي نعم قال: ذكرَ هذه القصةَ ابنُ عساكر في تاريخه نقلًا عن الحافظِ أبي بكر البزار والدارقطني قال أيضًا: "ونقلَها ابنُ حجر في كتابِ "الإصابة" عن كتابِ الدارقطني.
الشيخ: نعم، انتهى؟
القارئ: وقال ابن حجر: أول شيءٍ قالَ من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب وفي آخرها غريب تفردَ به "ابنُ أبي سبرة" قال ابن حجر: وهو ضعيف. والراوي عنه أي: "سعيد بن سلامة العطار" أضعفَ منه، ولكن أخرجه الأنباري من وجهٍ آخر عن يزيدَ بن حفصة، عن السائبِ بن يزيد، عن عمرَ بسندٍ صحيح وفيه: "فلم يزلْ صبيغٌ وضيعًا في قومه بعد أن كان سيدًا فيهم" وأخرجَه الإسماعيلي في جمْعه حديث يحيى بن سعيد من هذا الوجهِ، وأخرجه أبو زرعة الدمشقي من وجهٍ آخر من رواية سليمان التميمي، عن أبي عثمان النهدي، وأخرجه الدارقطنيُّ في "الأفراد المُطوَّلة" انتهى كلام ابن حجر.
وذكرها ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه نقلًا عن روايةِ الحافظِ أبي بكرٍ البزارَ بسندِه إلى سعيدٍ بن المسيب فذكرَ القصة بنصِّها تقريبًا، ثم قال أبو بكر البزار: فأبو بكرٍ بن أبي سبرة لينٌ وسعيد بن سلام ليس من أصحابِ الحديثِ وقال ابن كثير: فهذا الحديثُ ضعيفٌ رَفْعُهُ وأقربُ ما فيه أنه موقوفٌ على عمر فإنَّ قصةَ صَبيغٍ بن عَسَل..
الشيخ: عِسْل، يقولون "عِسْل"
القارئ: أحسن الله إليك، ابنُ عِسْلٍ مشهورة مع عمر وإنما ضربَه لأنه ظهرَ له من أمرِه فيما يسألُ تعنُّتًا وعنادًا، واللهُ أعلم. انتهى الكلام.
الشيخ: على كلِّ حالٍ يعني هذه القصة ولو قيل فيها ما قيل يقولون: تُغنِي شهرتُها عن إسنادِها ثم إنَّ الأمر ما يترتَّبُ عليه شيء يعني فهكذا القصصُ المشهورةُ في التاريخ إذا لم يكن هناك ما يدلُّ على بطلانٍ وفسادٍ فإنّه تُذكَرُ ويُستشهَدُ بها.
والمقصودُ من هذا أنَّ الواجبَ الإمساكُ عن التكلفِ في الأسئلة كالسؤال عن ما لا علمَ للناس به، فالسؤال الذي سُئله مالك .. أو حتى ما يصحُّ السؤال عنه إذا كان السائل مُتعنِّتًا ومُتنطِّعًا فإنه يستحقُّ، فعلى هذه القصة أنَّ عمر فهِمَ من الرجل أنه لا يسأل سؤال استرشادٍ ومعرفةٍ لمرادِ الله من كلامه، فلهذا أنكرَ عليه وأدَّبه، وهذا هو الواجب على وليِّ الأمرِ أن يُؤدِّبَ من ظهرَ منه انحرافٌ وفسادُ فكرٍ وظهرَ منه الاعتراضُ على أحكامِ اللهِ، وعلى كتابِ الله.
القارئ: وروى حمادُ بن زيد، عن قطن بن كعبٍ قال: سمعت رجلًا من بني عجلٍ يُقال له: فلان – خالد بن زرعة – يُحدث عن أبيه، قال: رأيت صبيغ بن عِسْل بالبصرة كأنّه بعيرٌ أجربٌ، يجيء إلى الحِلَقِ، فكلما جلس إلى قوم لا يعرفونَهُ ناداهم أهلُ الحلقة الأخرى: "عزمةَ أميرِ المؤمنين".
وروى حماد بن زيد أيضًا عن يزيد بن حازم، عن سليمانَ بن يسار: أن رجلًا من بني تميم يُقال له "صبيغ" قدم المدينة فكانت عنده كتبٌ، فجعلَ يسألُ عن مُتشابه القرآن، فبلغَ ذلك عمر فبعثَ إليه وقد أعدَّ له عراجينَ النخلِ، فلما دخلَ عليه جلسَ، فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، وقال: وأنا عبدُ الله عمر، ثم أهوى إليه فجعلَ يضربُه بتلك العراجين، فما زال يضربُه حتى شجَّهُ، فجعلَ الدمُ يسيلُ على وجهه، فقال: حسْبُكَ يا أميرَ المؤمنين، فقد والله ذهبَ الذي كنتُ أجدُ في رأسي.
أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى السلمي قال: أنبأنا محمد بن محمود الفقيه المروزي قال: حدثنا محمد بن عمير الرازي قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن أيوب العلاف التجيبي بمصر قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: حدثنا أشهبُ بن عبد العزيز قال: سمعت مالكَ بن أنس يقول: "إيّاكم والبدع" قيل: يا أبا عبدِ الله وما البِدعُ؟ قال: "أهلُ البدعِ الذين يتكلمون في أسماءِ الله وصفاته"..
الشيخ: لعلك تقف، هذا بداية موضوع.