بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث) للإمام الصّابوني
الدّرس الثّالث عشر
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، قال الإمامُ أبو عثمان اسماعيل الصابوني رحمه الله وغفر له ولشيخنا وللحاضرين ولجميعِ المسلمين:
ويشهدُ أهلُ السّنّةِ ويعتقدونَ أنَّ الخيرَ والشّرَ والنّفعَ والضُّرَ بقضاء الله وقدره، لا مردَّ لها، ولا محيصَ ولا محيدَ عنها، ولا يُصيب المرء إلا ما كتبَه له ربُّه، ولو جهدَ الخلقُ أن ينفعوا المرء بما لم يكتبْه الله لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرُّوه بما لم يقضِه الله لم يقدرُوا عليه. على ما وردَ به الخبرُ عن عبد الله بن عباس عن الني -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله -عز وجل-: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الأنعام:18] الآية.
ومن مذهبِ أهلِ السنة وطريقتِهم مع قولهم بأنَّ الخيرَ والشر من الله، وبقضائِه، أنه لا يُضاف إلى الله تعالى ما يُتوهم منه نقصٌ على الانفراد، فلا يُقال: "يا خالقَ القردةَ والخنازيرَ والخنافسَ والجُعلان"
– الشيخ: أعوذُ بالله
– القارئ: وإن كان لا مخلوقٌ إلا والربُّ خالقُه، وفي ذلك وردَ قولُ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في دعاء الاستفتاح: " تباركتَ وتعاليْتَ، والشرُّ ليس إليك" ومعناه واللهُ أعلم: والشرُّ ليس مما يضافُ إليك إفرادًا وقصدًا، حتى يُقال لك في المناداة: يا خالقَ الشرِّ ويا مُقدِّرَ الشر، وإن كان هو الخالقُ والمُقدِّرُ لهما جميعًا"
– الشيخ: هذا تخريجُ المؤلفِ، وتأويلُه للحديثِ.. ولكن القولُ الآخرُ هو الأظهرُ: أنَّ الشرَّ لا يُضاف إلى الله اسمًا ولا صفةً ولا فعلًا، فكلّ أسمائه حسنى وكلّ صفاتِه صفاتُ كمال، كلُّ أفعاله جاريةٌ وفق الحكمةِ، والعدل، والرحمة، وأمَّا الشرُّ فلا يكون إلا في المخلوقات، وخلْقُهُ لكل شيء هو مُوجَبُ الحكمة، فله الحكمة البالغةُ في خلْقِهِ وأمره وشرعه وقدره -سبحانه وتعالى-
وما ذكرَهُ المؤلف صحيحٌ أنه يعني هذا أسلوب تنقُّصٍ، ليس أسلوبَ مدحٍ، المدحُ في أن يُقال إنه خالقُ كلِّ شيء، أما التخصيص، حتى هذا في عرف العقلاء، يعني ليس كل ما هو ثابتٌ للممدوح يُضاف إليه. هل يُمدح إنسان يُقال له: يا مَن خرجت مِن السّبيلين؟ مدح. صحيح ولا مو صحيح؟ هو خارج من السّبيلين، مِن أمه وأبيه، مِن فرجين، هذا قبيحٌ في عُرْفِ العقلاء، فمِن القبيحِ أن يُقال ياربِّ كذا وكذا كما ذكرَ المؤلف، مِن عباراتِ الجهلةِ، يقولون: "أمرُ اللهِ شقَّ القُربَة" إيش هالكلام؟! نعم كلُّ شيءٍ بأمره، ولا يكونُ شيء في هذا الوجودِ إلا بأمره ومشيئته، لكن لا تذكرِ الأشياء الحقيرة وتنسبها لله، هو خالقُ السموات والأرض تقول: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى) كما جاء في الحديثِ هذا في التبجيلِ والتعظيم، أما أن تضيف ربوبيته لما هو حقيرٌ من هذه المخلوقات فهذا تنقُّصٌ فضلًا عن أن يكون مدحًا، وإن كان هو في حقيقته صحيح، هو ربّ كلّ شيء.
– القارئ: لذلك أضافَ الخضرُ -عليه السّلام- إرادةَ العيبِ إلى نفسه، فقال فيما أخبرَ الله عنه في قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] ولما ذكرَ الخيرَ والبِرَّ والرحمةَ أضافَ إرادَتها إلى اللهِ -عز وجل- فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [الكهف:82] ولذلك قال مُخبِرًا عن إبراهيم -عليه السّلام- أنه قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] فأضافَ المرضَ إلى نفسِه، والشفاءَ إلى ربِّه، وإن كان الجميعُ منه. ومن مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعة أنَّ اللهَ -عز وجل- مُريد لجميعِ أعمالِ العباد..
– الشيخ: يقولُ أهلُ العلم يعني حسب ما جاء في النصوص أنَّ الشَّرَّ لا يُضاف إلى الله إلا بصيغة العموم، أو بالفعلِ المبني للمفعول، يستشهدون لمثل هذا بقولِ الجن: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] ففي الشر بَنَوا فعلَ الإرادة للمفعول: لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] وفي صيغة العموم: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] يدخل فيها الخير والشر: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أو بإضافة الشرِّ إلى ما خلق قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2]
– القارئ: أحسنَ الله إليك، ومن مذهبِ "أهلِ السنةِ والجماعةِ" أنَّ اللهَ -عز وجل- مُريدٌ لجميع أعمالِ العباد خيرِها وشرِّها، ولم يؤمن أحدٌ إلا بمشيئتِه، ولو شاءَ لجعلَ الناسَ أمةً واحدةً، ولو شاءَ أن لا يُعصى ما خلقَ إبليس. فكفرُ الكافرين وإيمانُ المؤمنين بقضائِه -سبحانه وتعالى- وقَدَرِهِ، وإرادته ومشيئته، أرادَ كلَّ ذلك وشاءَه وقضاه، ويرضى الإيمانَ والطاعة، ويسخطَ الكفرَ والمعصيةَ، قال الله -عزَّ وجل-: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَايَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]
ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث..
– الشيخ: إلى هنا يا أخي بس
الله المستعان، يعني بيانَ مذهب أهل السّنّة، ومن مذهبِهم الإيمانُ بالقدرِ خيره وشره، يدخل في ذلك الإيمانُ بأن أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله، وأنَّ كل ما يكون من أفعالِ العباد واقعٌ بمشيئته -سبحانه وتعالى- إيمانُ وطاعةُ المؤمنين، وكفرُ ومعاصي الكافرين، كلها بقدره ومشيئته، فيجب الإيمانُ بالشرعِ والقدر جميعًا، الإيمان بالقدرِ بما يتضمنه من الأصول من إثباتِ علمه وكتابته وعمومِ مشيئته وعموم خلقه، والإيمانُ بالشرع وأنَّ الله أمرَ عباده بطاعته، ونهَاهُمْ عن معصيته، لابدَّ مِن الإيمان بهذا وهذا، ولا يُعارَضُ أحدهما بالآخر، لا يُعارَض الشَّرع بالقدر، ولابدَّ مع ذلك من الإيمان بحكمته، فله الحكمةُ البالغة في شرعِه وقدره، وبهذا يُعصَمُ العبد مما زلًّ به الضالون، ففِرَقُ الضلالِ منهم من أنكر الشرعَ، ومنهم من أنكرَ القدرَ، ومنهم من طعنَ في حكمته -سبحانه وتعالى-