بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس التّاسع بعد المئة
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين، أما بعد؛ فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ تعالى- في كتابِه "الجوابُ الصحيحُ لمن بَدَّلَ دينَ المسيحِ" يقولُ -رحمه الله تعالى-:
فصلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُم: وَلَنَا هَذِهِ الشَّهَادَاتُ وَالدَّلَائِلُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ
– الشيخ: "هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ" يعني: المسلمين، يقولُ: لنا شَّهَادَاتٌ تَدلُّ على صحةِ ديننِا، يعني في القرآن آياتٌ تدلُّ على صحةِ دينِنا، ولا ريبَ أنَّ في القرآن شهاداتٌ تدلُّ على صحةِ الدِّينِ الذي جاءَ به المسيحُ والثناءِ على مِن اتبعُوهُ في ذلكَ، لا على الدينِ الـمُبَدَّلِ.
– القارئ: فَيُقَالُ: لَا يَصِحُّ اسْتِشْهَادُهُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ الَّذِي قَدْ جَاءَ بِهِ، قَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِم، وَأَنَّهُمْ كُفَّارٌ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، مُسْتَحِقُّونَ لِلْجِهَادِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ جِهَادَهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ.
– الشيخ: الله أكبر، هذه مسألةٌ عظيمةٌ، يجبُ جهادُ الكفار عموماً من المشركين، وكذلك أهلُ الكتابِ من اليهودِ والنصارى، يجبُ دعوتُهم إلى الإسلامِ فإنْ أجابُوا وإلا وَجَبَ قتالـُهم إلا أنْ يُعطوا الجزيةَ، بِنَصِّ القرآنِ، نصٌ صريحٌ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مَنْ هُمْ؟ اليهودُ والنَّصارى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] سبحان الله!
وأكثرُ جَهَلَةِ المسلمين ما يَرَونَ الجهادَ إلا دفاعًا، قتالُ مِن اعتدى علينا، ولهذا أكثرُ من يَغضبُ على اليهودِ الآن الموجودين في فلسطين إنما يَرَونَ قتالَهم وعداوتَهم؛ لأنَّهم احتلَّوا الأرض، لا لِكُفْرِهِمْ.
إذاً فَمِنْ لا يَسْتَحِلُّ قتالَ اليهودِ والنصارى إذا امتَنَعُوا عن الإسلام ولم يُعطُوا الجزية -لمْ يسلِموا ولمْ يُؤَدُّوا الجزيةَ- فإنَّهُ كافرٌ؛ لأنَّهُ جاحدٌ لنصٍّ صريحٍ في كتاب الله قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ إلى آخر الآية حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وقال في المشركين: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]
ولا يُسْتَثْنَى مِن هذا إلا مَن أعطى الجزيةَ أو صُولـِحَ مدةً كما صَالحَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- أهلَ مكة، صالَحَهُم على وَقْفِ القتالِ عَشْرَ سنينَ، فتجوزُ المصالحةُ مدةً معلومةً محدودةً، لكن لا تجوزُ مصالحتُهم أبدًا، يعني: دائماً، صلحًا دائماً إلا من عُقدِتْ له الذِّمَّة بأن يُقيمَ مع المسلمين وبين المسلمين بالشروطِ التي تُشترطُ عليه، فهذا اسمُهُ ذِمِّيٌّ يجبُ الوفاءُ به ما أوفى بالعهدِ، ما أوفى، فإنْ نقضَ العهدَ وَجَبَ قَتْلُهُ، إذا أَخَلَّ بشرطٍ من شروطِ عقدِ الذِّمَّةِ إذا أَخَلَّ بشرطٍ انتقضَ عهدُهُ.
– القارئ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ جِهَادَهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِكُفْرِهِم، فَإِنْ كَانَ هَذَا رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِكُفْرِهِمْ؛ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ.
فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا حَقًّا، لَا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ مِنَ الْكَذَّابِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
– الشيخ: والله يا إخوان الأمرُ عظيمٌ، في هذا العصرِ كثيرٌ من الجهلةِ من الـمُنتسبين للثقافةِ والعقليةِ مدّعين العقلية، كثيرٌ منهم يَأْنَفُ ويغضبُ ويَستنكرُ وصفَ النصارى بالكفرِ، كفارٌ نعم كفارٌ، كفارٌ نعم. وهذا خطرٌ عظيمٌ هذا خطرٌ عظيمٌ أن، ولهذا يَدعونَ إلى كلماتٍ فيها حيدة يقولونَ: "غيرُ المسلمين" يعني ما يستطيعون أنْ يقولوا: "الكفار"، "غير المسلمين". وإذا ذَكروا آرائَهم يُسمُّون مذهبَهُم الرأيُ الآخَر، الآخَر.
صحيح غيرُ المسلمين عبارةٌ صحيحةٌ "غير المسلمين"، لكن كونُه يختارُ غيرَ المسلمين على كلمةِ الكفارِ هذا هو مَكْمَنُ الخَلَلِ والجَهْلِ، سبحان الله! سبحان الله!
– القارئ: وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ مِنَ الْكَذَّابِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مُسْتَحِقٌّ لِعُقُوبَةِ الْكَذَّابِينَ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الشورى:24]
وَقَالَ -تَعَالَى-: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ*قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:101-102]
وَقَالَ -تَعَالَى-: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يونس:15-16]
فَمَتَى كَانَتْ كَلِمَةٌ مِنْ كَلِمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنَّ الْكَاذِبَ قَدْ يَصْدُقُ فِي أَكْثَرِ مَا يَقُولُهُ، لَكِنْ إِذَا كَذَبَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُهُ كَانَ كَاذِبًا، وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يُرْسِلُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَرْضَى أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ أَوْ عَجْزِهِ، فَكَيْفَ يُرْسِلُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ فَمَتَى كَذَّبُوا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِشْهَادُهُمْ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ صَدَّقُوا بِالْكِتَابِ كُلِّهِ لَزِمَهُمُ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتِّبَاعُ شَرِيعَتِهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِكُفْرِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَكُفْرِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:71-72]، وَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]
وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بَعْضُ مَا نُقِلَ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ إِيمَانِهِ بِالرَّسُولِ.
فَالْمُسْلِمُونَ إِذَا كَذَّبُوا بِبَعْضِ مَا نُقِلَ عَن مُوسَى وَالْمَسِيحِ –عليهما السلام- فهُوَ لِطَعْنِهِمْ فِي النَّاقِلِ، لَا فِي النَّبِيِّ الْمَنْقُولِ عَنْهُ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَيَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا جَاءَ بِالْقُرْآنِ، فَطَعْنُهُمْ فِي بَعْضِهِ طَعْنٌ فِي الرَّسُولِ نَفْسِهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا مَثَّلُوا بِهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ الَّتِي كُتِبَ وَفَاؤُهَا فِي ظَهْرِهَا، فَإِنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ الْمُسْقِطِ لَهُ
– الشيخ: "فَإِنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ"، في الورقة مكتوب سَنَد يستدلُّون به يقول، مكتوبٌ في ظهرِها: قد تمَّ قضاءُ ما في بطنِ الورقةِ، خلاص صارتِ، الورقةُ التي كُتِبَت وثيقة هي نفسُها فيها ما يَنقضُها، ولا يَنقضُها ولكن، كُتِبَ فيها وثيقةٌ أخرى تدلُّ على أن هذا الدَّينَ غيرُ باقٍ. قد قُضِيَ فَسَقَطَتْ المطالَبَةُ به.
– القارئ: وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا مَثَّلُوا بِهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ الَّتِي كُتِبَ وَفَاؤُهَا فِي ظَهْرِهَا، فَإِنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ الْمُسْقِطِ لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ حَقٌّ لَهُ يَدَّعِيهِ، بِخِلَافِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيَّ هَذَا الْكِتَابَ كُلَّهُ، وَأَرْسَلَنِي بِكَذَا وَكَذَا إِلَى كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَذَبَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ -تعالى- لَمْ يَكُنِ اللَّهُ تعالى أَرْسَلَهُ، فَإِنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ يُبَلِّغُ عَنْهُ مَا يَقُولُهُ، بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَإِرْسَالُ اللَّهِ لِلرَّسُولِ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
إِنْشَاءَ اللَّهِ لِلرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ حَكِيمٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، لَا يَجْعَلُهَا إِلَّا فِيمَنْ هُوَ مِنْ أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَصْدَقِهِم.
وَيَتَضَمَّنُ إِخْبَارَ اللَّهِ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ عَلَيْهِ، فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ مِمَّا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِهِ، فَكَمَا صَدَّقَهُ بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ أَرْسَلَنِي، فَقَدْ صَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ: إِنَّهُ أَرْسَلَنِي بِهِ، إِذِ التَّصْدِيقُ بِكَوْنِهِ أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِصِدْقِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْإِرْسَالِ.
وَاللَّهُ -تَعَالَى- عَلِيمٌ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ لِمَنْ أَرْسَلَهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَبْعَثُ مَنْ يَظُنُّهُ يَصْدُقُ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ، فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ، وَالرِّسَالَةُ صَادِرَةٌ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمَنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ لَمْ يُبَلِّغْ عَنْهُ مَا يَقُولُهُ، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَكُونُ رَسُولَهُ.
وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ، لَا يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، فَإِنَّ هَذَا مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ، فَكَانَ تَمْثِيلُ هَذَا بِالْوَثِيقَةِ تَمْثِيلًا بَاطِلًا، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لِلْإِسْقَاطِ لَمْ يَدَّعِ كَلَامًا مُتَنَاقِضًا، بَلْ قَالَ: أَقْرَرْتُ بِهَذَا الدَّيْنِ، ثُمَّ وَفَّيْتُكَ إِيَّاهُ، وَأَنْتَ تُقِرُّ بِوَفَائِهِ، وَإِقْرَارُكَ مَكْتُوبٌ فِي ظَهْرِهَا، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَحْتَجَّ بِإِقْرَارِي بِالدَّيْنِ دُونَ إِقْرَارِكَ بِالْوَفَاءِ..
– الشيخ: دونَ إقرارِي، يقولُ: فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَحْتَجَّ بِإِقْرَارِي بِالدَّيْنِ وهو المكتوبُ في أصلِ الورقةِ، دُونَ إِقْرَارِي بِالْوَفَاءِ وهو المكتوبُ في ظهرِ الورقةِ. ليش [لماذا] تحتج بوجه مِن الورقةِ وتتركُ المكتوبَ في ظهرِ الورقةِ.
– القارئ: بَلْ إِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ مَا فِي الْوَثِيقَةِ مِنْ إِقْرَارِي وَإِقْرَارِكَ وَإِمَّا أَنْ تُبْطِلَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ.
وَهَذَا كَلَامٌ عَدْلٌ كَالشَّرِيكَيْنِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ، مِثْلَ شَرِيكَيِ الْعِنَانِ، إِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: إِنْ حَصَلَ رِبْحٌ فَهُوَ لِي وَلَكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ فَلَا لِي وَلَا لَكَ.
وَكَذَلِكَ الْبَائِعُ وَالْمُؤَاجِرُ الَّذِي يَقُولُ: إِنْ كَانَ بَيْنَنَا مُعَاوَضَةٌ فَعَلَيْكَ تَسْلِيمُ مَا بَذَلْتُهُ، وَعَلَيَّ تَسْلِيمُ مَا بَذَلْتُهُ، لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا إِلَّا بِهَذَا، فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامٌ عَادِلٌ وَإِنْصَافٌ، بِخِلَافِ الشَّخْصِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَالْكِتَابِ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ، فَإِنَّ هَذَا إِنْ كَانَ رَسُولًا صَادِقًا فَجَمِيعُ مَا بَلَّغَهُ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ -تعالى- أَرْسَلَهُ، فَجَمِيعُ مَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ وَعُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ كَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَطُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ، وَالْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ، وَبَابَا الرُّومِيِّ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِكَذِبِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُم، فَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِم كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، وَمَتَى عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْتَجَّ بِجِنْسِ الَّذِي عُلِمَ أَنَّهُ كَذَبَ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ عِنَدِيٌّ: إِنَّ مُوسَى أَو دَاوُدَ أَوِ الْمَسِيحَ -عليهم السلام- كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فِي بَعْضِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُرْسِلْهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ، لَكِنْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُم، فَإِذَا أَرَادَ مَعَ هَذَا أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا يَنْقُلُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ عَنِ اللَّهِ كَانَ مُتَنَاقِضًا، وَكَانَ احْتِجَاجُهُ بَاطِلًا غَيْرَ مَقْبُولٍ.
بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَشُكُّ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، هَلْ كَذَبُوا فِيهِ أَمْ لَا؟ كَانَ كَذَلِكَ شَكًّا فِي أَنَّ اللَّهَ -تعالى- أَرْسَلَهُم، فَإِنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ -تعالى- لَا يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ لَا خَطَأً وَلَا عَمْدًا، وَمَعَ شَكِّهِ فِي ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يَنْقُلُونَهُ عَنِ اللَّهِ لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الَّذِي نَقَلُوهُ عَنِ اللَّهِ -تعالى-، وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ رَسُولِ الْوَاحِدِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرْسَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ صَدَقَ فِي بَعْضِ مَا بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ، وَكَذَبَ فِي الْبَعْضِ. وَيَجُوزُ عَلَى الْآدَمِيِّ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِ، أَوْ عَدَمِ حِكْمَتِهِ فِي إِرْسَالِهِ.
وَأَمَّا الرَّبُّ -تَعَالَى-: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ نَبِيًّا يَكْذِبُ عَلَيْهِ لَا عَمْدًا، وَلَا خَطَأً، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ الَّذِي قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ تَارَةً يَصْدُقُ وَتَارَةً يَكْذِبُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِبَعْضِ أَخْبَارِهِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهَا صِدْقُهُ لِدَلَالَاتٍ تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَذَبَ كِذْبَةً وَاحِدَةً امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ -تعالى- أَرْسَلَهُ، فَصَارَ جَمِيعُ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ هُوَ كَاذِبٌ فِي أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِهِ، فَكَذِبُهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي جَمِيعِ مَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا حَكَاهُ وَرَوَاهُ عَنِ اللَّهِ -تعالى- قَدْ كَذَبَ فِيهِ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ
– الشيخ: ليسَ كلُّ كلامِ حقٍّ تَصِحُّ نسبتُهُ إلى اللهِ أو إلى الرسول، ولهذا أهلُ العلمِ وأهلُ الحديثِ يقولونَ: إنَّ هذا لم يثبتْ عن النَّبي، ما ثبتَ، ولو كان كلاماً حقاً.
حتى قالوا: إنَّ الحديثَ الموضوعَ قد يكونُ حكمةً، معناها صحيحٌ، معقولة يَدُلُّ عليها العقلُ، ويَدُلُّ عليه الشرعُ، لكنه موضوعٌ باعتبار أنه مكذوبٌ على الرسول، لم يقلْه الرسول، فالطَّعنُ في ثبوتِهِ لا في معناه، معناه يمكن له أدلةٌ عقليةٌ وشرعيةٌ تدلُّ على صدقِهِ وعلى أنه صحيحٌ.
– القارئ: وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ لَكِنَّ تَبْلِيغَهُ عَنِ اللَّهِ وَنَقْلَهُ وَرِوَايَتَهُ وَحِكَايَتَهُ عَنِ اللَّهِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ -تعالى-.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْسَخُ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ، مِمَّا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ التَّبْلِيغِ، بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ*لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ*وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج:52-55]
وَإِنْ قَالُوا: خَبَرُهُ يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَانَ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا أَيْضًا إِنْ كَانَ حَقًّا،
– الشيخ: يظهر أن في كلام. قف على هذا.