بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح "بلوغ المرام مِن أدلّة الأحكام" (كتاب الطّلاق)
الدّرس الحادي والعشرون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ –رحمه الله تعالى- في "بلوغِ المرامِ" في تتمَّةِ بابِ النفقاتِ:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ -فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ- قَالَ: "يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا". أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: سُنَّةٌ? فَقَالَ: سُنَّةٌ. وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيَ.
وَعَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ: أَنْ يَأْخُذُوهُمْ بِأَنَّ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا. أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، والْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِ حَسَنٌ.
– الشيخ: على كلِّ حالٍ تقدَّمَت هذه المسألةُ، وأنَّ أكثرَ أهلِ العلمِ على ذلكَ، ولكن الكَثرةَ أو الجمهور ليسَ معياراً على الصوابِ، ولكن يدلُّ أنَّ المسألةَ مسألةٌ خلافيةٌ، ولكن ظاهرُ السُّنةِ وظاهرُ القرآنِ لا يُفرَّقُ بينهما إلا ضرورةً، وقلنا إنه إذا كانَ لا يستطيعُ لا يمنعُها مِن العملِ ولو بالسؤالِ، يعني نفرضُ أنَّها ما وجدَتْ ما تأكلُ نقول ما تطلع؟ لا، إنما هو مكلَّفٌ أن يُنْفِقَ بحَسَبِ استطاعتِه وقدرتِه لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] والأثرانِ مُحتمَلان، يعني ما هو معناه أنه ينفسخُ بطلاقٍ يفرَّقُ بينهما إذا رَفعَتْ أمرَها للحاكمِ ينظرُ ويجتهدُ في ذلكَ، قد يرى أنَّ الأمر يقتضي التفريقَ، وقد لا يرى ذلك.
وأثرُ عمر في الذين غابُوا عن أهليهِم عليهِم أنْ يبعثوا بالنفقةِ، نعم، عليهِم أنْ يبعثوا بالنفقةِ أو يُطلِّقُوا، فإنْ طلَّقوا بعثوا بالنفقةِ التي حبسُوهَا في المدَّةِ الماضيةِ، وللمرأةِ أنْ تَسْتَدينَ، لها أن تستدينَ على ذِمَّةِ زوجِها.
– القارئ: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عِنْدِي دِينَارٌ? قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ). قَالَ: عِنْدِي آخَرُ? قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ). قَالَ: عِنْدِي آخَرُ? قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ).
– الشيخ: زوجتك يعني.
– القارئ: قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: (أَنْفِقُهُ عَلَى خَادِمِكَ). قَالَ عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: (أَنْتَ أَعْلَمَ). أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ.
– الشيخ: على كلِّ حالٍ هذا يَستدلُّ به أهلُ العلمِ على ترتيبِ الحقوقِ في النفقة على هذا الوجهِ، فأهمُّ ما على الإنسان: نفسُه مقدَّمٌ على كلِّ أحدٍ، إذا كانَ عندَه رغيفٌ، ما يمكن ينقسم لسَدِّ الجَوْعَةِ، هو أولى بِه، أولى بِه مِن ولدِه، ولكن أحياناً يُؤثِرُ الأبُ أو الأمُّ تُؤْثِرُ ولدَها كقصةِ المرأة التي جاءَت إلى عائشة وأعطتْها تمرَاتٍ معها ابنتانِ فأعطتْ كلَّ واحدةٍ واحدةً، وبقيتْ واحدةٌ، فلما أرادتْ أنْ تأكلَها، نظرتْ إليها البنتُ فقسمتْها بينَ البنتينِ وآَثَرَتْهُمَا، آَثَرَتْهُمَا على نفسِها بالتمرةِ. الله المستعان.
قالَ: "عندي دينارٌ" قال: هو لنفسِكَ، قال: "عندي آخر" قال: لولدِك؟ في رواية: تقديمُ الزوجةِ على الولدِ، وهذه في حالةِ الضرورةِ، في حالةِ الـمُشاحَّةِ، في حالةِ العَجْزِ، ما فيه، دينارٌ واحدٌ يُعطيهِ للزوجةِ ولّا الولد؟ يعطيه الزوجة كما تقدم؛ لأنَّ العقدَ عقدُ معاوضةٍ ومنفعةٍ، والولدُ مِن جملةِ الأقاربِ، فإذا سدَّدَ هذه الأمورِ، الزايد يقول: أنتَ أبصرُ بِهِ، أعطِ مَنْ شئتَ.
– القارئ: وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رضي الله عنهم- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَبَرُّ? قَالَ: (أُمَّكَ). قُلْتُ: ثُمَّ مِنْ? قَالَ: (أُمَّكَ). قُلْتُ: ثُمَّ مِنْ? قَالَ: (أُمَّكَ). قُلْتُ: ثُمَّ مِنْ? قَالَ: (أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحُسَّنَهُ.
– الشيخ: اللهُ أكبرُ، يَدُلُّ هذا الحديثُ على أنَّ أحقَّ الناسِ بالبِرِّ: الأمُّ، أحقُّ الناسِ بِبِرِّكَ وعفوكِ وإحسانِكَ ورحمتِك: أمُّكَ.
"مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟" في الحديث الآخر الصحيح قَالَ: (أُمُّكَ) قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ( أُمُّكَ) إلى آخرِ الحديثِ، فذكرَ الأمَّ ثلاثَ مراتٍ، وَرَبَّعَ بالأبِ، فحقُّ الوالدين كليهِما عظيمٌ، والله وصَّى بالوالدين، وخَصَّ الأمَّ، خَصَّ الأمَّ وَنَوَّهَ بسببِ التخصيصِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15] وكَمْ، وكَمْ، وكَمْ، يدلُّ على عِظَمِ حَقِّ الوالدين، حَقُّ الوالدينِ عظيمٌ! وفصَّلَ اللهُ شيئاً مما يجبُ لهما ويحرمُ في حقِّهما إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24] وهذا أمرٌ عظيمٌ فَرَّطَ فيه الأكثرونَ فمُستقِلٌّ ومُستكثِرٌ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقرنَ اللهُ الإحسانَ إلى الوالدين وحقَّ الوالدينِ بحقِّهِ بأعظمِ الحقوقِ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36] وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]
وَقَرَنَ عقوقَ الوالدينِ بالشِّركِ في السُّنةِ بحديثٍ صحيحٍ، فينبغي التواصي، ينبغي القيامُ بهذا الواجبِ، والمجاهدة -مجاهدةُ النفسِ في ذلكَ- والتواصي بذلكَ.
– القارئ: بابُ الحضانةِ
– الشيخ: حسبك يا أخي، في أحد.. محمد تفضل
– القارئ: أحسنَ الله إليك، حديثُ أبي هريرة: أنفقْهُ على نفسِكَ إلى آخره، الصنعاني ذكرَ قال: وفيهِ حَثٌّ على إنفاقِ الإنسانِ ما عندَهُ وأنَّهُ لا يَدَّخِرُ، أنه ما قالَ لَه: ادَّخِرْهُ.
– الشيخ: لا، في أنَّه ما يَدَّخِرُ، بمعنى أنه يُعطي الواجبَ، ما يَدَّخِرُ مع تركِ الواجبِ، ما هو ما بيَدَّخِرُ مطلقاً، ما هو بصحيح، كلامه هذا لا يستقيمُ مطلقاً. هلْ يجوزُ أنَّ الإنسانَ يدخرُ وعليهِ واجباتٌ؟! يجوز يدخر المالَ ويُهلِكَ نفسَه ما يأكل ولا يشرب يروح يتكفَّف الناس؟! يَدَّخِرُ ويتركُ واجباتِه والإنفاقَ على مَن تجبُ عليه له النفقةُ كالزوجةِ والولدِ والوالدِ والقريبِ؟ لا، أمَّا أنْ يَدَّخرَ الفضلَ: فإنه يجوزُ، وإخراجُهُ أفضلُ، والفضلُ الزائدُ إخراجُه أفضلُ، وادخارُه جائزٌ.
– القارئ: أحسنَ الله إليك، في حالة الـمُشاحَّة ووجودِ الوالدةِ تُقدِّمُ على الزوجةِ وعلى الولدِ؟
– الشيخ: الوالدةُ لها تعلُّقات ثانية، الوالدة يصير لها عيال ثانين، ولا يصير لها مِنَّة، ولّا مِنَّة، لكن الولد ما لَه حَد ما عندهُ أحد ما في إلا أبوهُ، لكن إن شاء الله، والأمُّ إذا صارَ في مُشاحَّةٍ فالأغلبُ أنها تقولُ لكَ: أعطِ ولدَكَ.
– القارئ: لكنها في الحكم تُقدِّمُ؟
– الشيخ: ما هو بظاهرٍ، الظاهرُ عندَ أهلِ العلمِ: لا. عندك فيها شيء؟
– القارئ: لا.