الرئيسية/شروحات الكتب/الطرق الحكمية في السياسة الشرعية/(24) فصل في القضاء بشهادة النساء متفردات قوله “وأما الرضاع فلا تقبل فيه شهادة النساء منفردات”
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(24) فصل في القضاء بشهادة النساء متفردات قوله “وأما الرضاع فلا تقبل فيه شهادة النساء منفردات”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الرّابع والعشرون

***    ***    ***    ***

 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ اغفرْ لنَا ولشيخنَا ولوالدينَا والـمُسلمينَ، قالَ ابنُ القيّمُ –رحمَه اللهُ تعالى-:
قَالُوا: وَأَمَّا الرَّضَاعُ: فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَتَى ثَبَتَتْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا زَوَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الرِّجَالِ عَلَيْهِ.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ فِي الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّهُمْ أَحَلُّوا الرَّضَاعَ مَحَلَّ سَائِرِ أُمُورِ النِّسَاءِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، كَالْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَنَحْوِهِمَا.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَخَذُوا بِشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ، أَوْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَيْسَتْ كَالْفُرُوجِ الَّتِي لَا حَظَّ لِلرِّجَالِ فِي مُشَاهَدَتِهَا، وَجَعَلُوهَا مِنْ ظَوَاهِرِ أُمُورِ النِّسَاءِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْوُجُوهِ.
وَاَلَّذِينَ أَجَازُوهَا بِالْمَرْأَتَيْنِ: ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الرَّضَاعَةَ -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ فِي التَّحْرِيمِ كَالْعَوْرَاتِ- فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِظُهُورِ الثَّدْيِ وَالنُّحُورِ. وَهَذِهِ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ الَّتِي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فَرْضَهَا السَّتْرَ عَلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، فَجَعَلُوا الْمَرْأَتَيْنِ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلَيْنِ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِي هَذَا: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ وُرُودِ ذَلِكَ، فَإِذَا شَهِدَتْ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ بِأَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْهُ وَزَوجَتهُ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ مِنْ اللَّهِ فِي اجْتِنَابِهَا،

– الشيخ: دليلُه حديثُ عقبة، سبحانَ الله، (كَيْفَ وَقَدْ قِيْلَ) لكن لا بُدَّ أنْ تكونَ ثقةً غيرَ مُتَّهَمَةً؛ لأنَّهُ أحيانًا قدْ تكونُ مُتهمةً تريدُ أنْ تفرِّقَ بينَ الزوجينِ فتدّعي ذلكَ. لا بدَّ أنْ تكونَ ثقةً صادقةً عدلةً.
 

– القارئ: فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ مِنْ اللَّهِ فِي اجْتِنَابِهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسْتَفْتِي فِي ذَلِكَ: (دَعْهَا عَنْك). وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِهِ.
إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- حَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالتَّفْرِيقِ حُكْمًا، مِثْلَ مَا سَنَّ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَا أَمْرَ فِيهِ بِالْقَتْلِ، كَاَلَّذِي تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَلَكِنَّهُ غَلَّظَ عَلَيْهِ فِي الْفُتْيَا.
فَنَحْنُ نَنْتَهِي إلَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ، فَإِذَا شَهِدَتْ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى فَكَانَتَا اثْنَتَيْنِ، فَهُنَاكَ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ: "إنَّهُ لَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الرَّضَاعِ" وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا عَنْهُ.
فَإِنَّهُ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الرَّجُلَيْنِ، أَوْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، لِمَا حُظِرَ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النَّظَرِ إلَى مَحَاسِنِ النِّسَاءِ.
وَعَلَى هَذَا يُوَجَّهُ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، إذْ لَمْ يُوَقِّتَا فَوْقَ ذَلِكَ وَقْتًا بِأَدْنَى مَا يَكُونُ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ إلَّا اثْنَتَانِ مِنْ النِّسَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، أَخْبَرَهُ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ، إلَّا عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا هُنَّ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حَمْلِهِنَّ وَحَيْضِهِنَّ".
وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْخِرَقِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَقَالَ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ فِي الْمُوضِحَةِ، إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى طَبِيبَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْطَارُ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ.
قَالَ الشَّيْخُ فِي "الْمُغْنِي": إذَا اخْتَلَفَا فِي الْجُرْحِ: هَلْ هُوَ مُوضِحَةٌ، أَمْ لَا؟ أَوْ فِي قَدْرِهِ، كَالْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ وَالسِّمْحَاقِ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ اخْتَلَفَا فِي دَاءٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْأَطِبَّاءُ، أَوْ دَاءِ الدَّابَّةِ.
فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ إذَا قُدِرَ عَلَى طَبِيبَيْنِ أَوْ بَيْطَارَيْنِ لَا يجْتَزِئُ

– الشيخ: أو بيطريين. يسمونه بيطري، اقرأ كما هي.
– القارئ: أو بيطاريين لَا يجْتَزئُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمْ تُقْبَلْ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ أَجْزَأَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْعُيُوبِ تَحْتَ الثِّيَابِ، تُقْبَلُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ، فَقَبُولُ قَوْلِ الرَّجُلِ فِي هَذَا أَوْلَى.
قَالَ صَاحِبُ "الْمُحَرَّرِ": وَيُقْبَلُ فِي مَعْرِفَةِ الْمُوضِحَةِ وَدَاءِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا طَبِيبٌ وَاحِدٌ وَبَيْطَارٌ وَاحِدٌ، إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ نَصَّ عَلَيْهِ.
فصلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فِي ذَلِكَ.
فَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلَامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ؟ فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ: بَعْتَني عَبْدًا بِهِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إنِّي بِعْته بِالْبَرَاءَةِ، فَقَضَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ..

– الشيخ: بالبراءةِ: يعني شَرَطَ البراءةِ من العيوبِ، وهذا إنَّما ينفعُ في العيوبِ إذا كانَ البائعُ يجهلُهَا ما درى عليها، فيشرطُ البراءةَ، فإذا شرطَ البراءةَ مِن العيوبِ المجهولةِ، فمِنْ أهلِ العلمِ مَن لا يَعتبرُ البراءةَ ولا يُسقِطُ حَقَّ المشتري في الرَدِّ، ومنهمْ مَنْ يَرى أنَّه يسقطُ. فإنَّ شرطَ البراءةِ مِنْ كلِّ عيبٍ مجهولٍ، بعضُهم يقولُ: نعمْ، يَبرأُ وبعضُهم يقولُ: لا يبرأُ.
وهذا يقولُ: إنه باعَهُ بالبَراءةِ، لكن إذا كانَ البائعُ يعلمُ ما فيهِ من العَيبِ: فلا. ما تنفعُ، يقولُ: ترى أنا غيرُ مسؤولٍ إنْ كانَ فيهِ عيبٌ. إذا كان يعلمُهُ فيجبُ أن يُبيِّنه.
 

– القارئ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إنِّي بِعْته بِالْبَرَاءَةِ، فَقَضَى عثمان بن عفان عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- بِالْيَمِينِ، أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْغُلَامَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بعد ذلك بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ".
– الشيخ: الحمد لله، ربح بخيره.
لعلَّه امتنعَ عن العيبِ [لعل قصد – الشيخ: امتنع عن اليمين] تَوَرُّعًا، وإلّا لا يظنُّ مِن ابنِ عمر أنَّه باعَهُ وهو يعلمُ أنَّ فيهِ هذا الدَّاء، لكنَّه لما قالَ له "احلفْ": تورَّعْ عن اليمينِ، وقال له: "خلص رُدَّهُ أرْجعْهُ إليّ".
 

– القارئ: وفي طريقٍ أخرى أنَّه لـمَّا أبى أنْ يحلفَ، حَكَمَ عليه عثمانُ بالنُّكولِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحكمُ عُثْمَانُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فِي الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ. فَرَدَّهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حِينَ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، ثُمَّ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ حُكْمِهِ وَرَآهُ له لَازِمًا.
فَهَلْ يُوجَدُ إمَامَانِ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبِمَعْنَى حَدِيثِهِ مِنْهُمَا –رضي الله عنهما-؟
فَذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ.
وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثُونَا عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ: "أَنَّ الْمِقْدَادَ اسْتَسْلَفَ مِنْ عُثْمَانَ سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا قَضَاهَا أَتَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهَا سَبْعَةٌ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: مَا كَانَتْ إلَّا أَرْبَعَةً، فَمَا يزَالَا حَتَّى ارْتَفَعَا إلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِيَحْلِفْ أَنَّهَا كَمَا يَقُولُ، وَلْيَأْخُذْهَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَنْصَفَكَ، احْلِفْ أَنَّهَا كَمَا تَقُولُ، وَخُذْهَا".
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَهَذَا عُمَرُ قَدْ حَكَمَ بِرَدِّ الْيَمِينِ، وَرَأَى ذَلِكَ الْمِقْدَادُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عُثْمَانُ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَمِلُوا بِرَدِّ الْيَمِينِ.
حَدَّثَنَا هُشيمٌ عن حُصين بن عبد الرحمن قال: كان شُريحٌ يقضي بِردِّ اليمين. وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ: أَنَّهُ كَانَ إذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ ..

– الشيخ: القاعدةُ أنَّ: اليمينَ على الـمـُدَّعى عليه إذا أنكرَ، فإذا نَكَلَ الـمُدَّعى عليه تُرَدُّ اليمينُ على الـمُدَّعي فَيُقْضَى له، ويُقْضَى على الذي نَكَلَ.
 

– القارئ: وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ: أَنَّهُ كَانَ إذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالْيَمِينِ، فَرَدَّهَا عَلَى الطَّالِبِ، فَلَمْ يَحْلِفْ: لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَسْتَحْلِفْ الْآخَرَ.
وَحَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ الْأَشْعَثِ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالْيَمِينِ، فَرَدَّهَا عَلَى الَّذِي يَدَّعِي، فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، وَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ مَا لَا تَحْلِفُ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَلَى أَنَّ رَدَّ الْيَمِينِ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَاَلَّذِي فِي الْكِتَابِ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106]
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [المائدة:107] ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108]
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْقَسَامَةِ بِالْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعِينَ، فَقَالَ:
(تَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ بِأَنْ يُقْسِمَ خَمْسُونَ: أَنَّ يَهُودًا قَتَلَتْهُ). فَقَالُوا: كَيْف نُقْسِمُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ نَحْضُرْهُ؟ قَالَ: (فَيَحْلِفُ لَكُمْ خَمْسُونَ مِنْ يَهُودٍ مَا قَتَلُوهُ)
قَالَ: فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْآخَرِينَ، بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بِهَا لِلْأَوَّلِينَ. فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي رَدِّ الْيَمِينِ. قُلْت: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَصَوَّبَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وَرَضِيَ عَنْهُ: وَلَيْسَ الْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ بِمُخْتَلِفٍ، بَلْ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ، وَهَذَا لَهُ مَوْضِعٌ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ أَمْكَنَ الْمُدَّعِيَ مَعْرِفَتُهُ وَالْعِلْمُ بِهِ فَرَدَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ، فَإِنَّهُ إنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَهَذَا كَحُكُومَةِ عُثْمَانَ وَالْمِقْدَادِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا-، فَإِنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ لِعُثْمَانَ: "احْلِفْ أَنَّ الَّذِي دَفَعْته إلَيَّ كَانَ سَبْعَةَ آلَافٍ وَخُذْهَا" فَإِنَّ الْمُدَّعِي هُنَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَالْعِلْمُ بِهِ، كَيْف وَقَدْ ادَّعَى بِهِ؟ فَإِذَا لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِمَعْرِفَتِهِ، فَإِنَّهُ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَمْ تُرَدَّ عَلَى الْمُدَّعِي، كَحُكُومَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَرِيمِهِ فِي الْغُلَامِ. فَإِنَّ عُثْمَانَ قَضَى عَلَيْهِ: "أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ بَاعَ الْغُلَامَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ" وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْبَائِعُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا اسْتَحْلَفَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِهِ دَاءٌ، فَلَمَّا امْتَنَعَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ قَضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ.
وَعَلَى هَذَا: إذا وَجَدَ بِخَطِّ أَبِيهِ فِي دَفْتَرِهِ: أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، فَادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ، فَنَكَلَ. وَسَأَلَهُ إحْلَافَ الْمُدَّعِي: أَنَّ أَبَاهُ أَعْطَانِي هَذَا، أَوْ أَقْرَضَنِي إيَّاهُ، لَمْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ.

– الشيخ: لِأَنَّ الـمُدَّعي قل: المُدعي، قل قل لشوف [لنرى].
– القارئ: فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، لِأَنَّ الْمُدَّعي عَلَيْهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ.
– الشيخ: لا. لا يعلمُ ذلكَ
– القارئ: هي بالألف المقصورة يا شيخ. الكلمة الأخيرة: "المُدَّعى عليه"
– الشيخ: قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ
– القارئ: أعيدها يا شيخنا؟
قال: وَعَلَى هَذَا: إذَا وَجَدَ بِخَطِّ أَبِيهِ فِي دَفْتَرِهِ: أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، فَادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ، فَنَكَلَ

– الشيخ: فَنَكَلَ المـُدَّعى عليه.
– القارئ: وَسَأَلَهُ إحْلَافَ الْمُدَّعِي: أَنَّ أَبَاهُ أَعْطَانِي هَذَا، أَوْ أَقْرَضَنِي إيَّاهُ، لَمْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ.
– الشيخ: يعني: يعلمُ ذلكَ دون المـُدعي. دون المـُدعي، هذا المعنى.
– القارئ: وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ: أَنَّ فُلَانًا أَحَالَنِي عَلَيْك بِمِائَةٍ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي: أَنَا لَا أَعْلَمُ أَنَّ فُلَانًا أَحَالَك، وَلَكِنْ احْلِفْ وَخُذْ، فَهَاهُنَا إنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا -رَحِمَهُ اللَّهُ- هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
– الشيخ: بارك الله فيك. نعم يا محمد
 
 
 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات