بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الخامس والعشرون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، وصلَّى اللهُ وسلمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، اللهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللسَّامعِين، قالَ ابنُ القيمِ -رحمه الله تعالى-:
فَصَلِّ فِي مَذَاهِب أَهْل الْمَدِينَة فِي الدَّعَاوَى
– الشيخ: عجيبٌ!، المدينةُ هم المالكية، مالك.
– القارئ: وَهُوَ مِنْ أَسَدِّ الْمَذَاهِبِ وَأَصَحِّهَا
– الشيخ: مذهبُ مالكٍ -رحمه الله- الذي يُقال له "إمامُ دار الهجرة" ودائمًا هوَ -رحمَه الله- يحتجُّ بعملِ المسلمينَ في المدينةِ، بالسلفِ الذين كانُوا قبلَه، فيُعرَفُ مذهبُ مالكٍ بمذهبِ "أهل المدينة".
– القارئ: وَهُوَ مِنْ أَسَدِّ الْمَذَاهِبِ وَأَصَحِّهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: دَعْوَى يَشْهَدُ لَهَا الْعُرْفُ بِأَنَّهَا مُشْبِهَةٌ، أَيْ تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ حَقًّا.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَا يَشْهَدُ الْعُرْفُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُشْبِهَةٍ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْضَ بِكَذِبِهَا.
– الشيخ: يُقْضى؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: كأن يقطع يمكن؟ يمكن: "يُقطَعْ"
– القارئ: الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: دَعْوَى يَقْضِي الْعُرْفُ بِكَذِبِهَا.
فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ
– الشيخ: لم أيش؟ اللي قبلها
– القارئ: لَمْ يَقْضِ بِكَذِبِهَا
– الشيخ: لم يقضِ العرفُ
– القارئ: نعم
– الشيخ: لم يَقضِ العرفُ، نعم، لم يَقضِ العرْفُ بكذبِها.
– القارئ: فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَمِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً بِيَدِ رَجُلٍ، أَوْ يَدَّعِيَ غَرِيبٌ وَدِيعَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، أَوْ يَدَّعِيَ مُسَافِرٌ: أَنَّهُ أَوْدَعَ أَحَدَ رُفْقَتِهِ، وَكَالْمُدَّعِي عَلَى صَانِعٍ مُنْتَصِبٍ لِلْعَمَلِ: أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ مَتَاعًا يَصْنَعُهُ، وَالْمُدَّعِي عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ أَوْ اشْتَرَى، وَكَالرَّجُلِ يَذْكُرُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَنَّ لَهُ دَيْنًا قِبَلَ رَجُلٍ، وَيُوصِي أَنْ يُتَقَاضَى مِنْهُ فَيُنْكِرُهُ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ. فَهَذِهِ الدَّعْوَى تُسْمَعُ مِنْ مُدَّعِيهَا، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطَابَقَتِهَا، أَوْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِحْلَافِهِ إلَى إثْبَاتِ خُلْطَةٍ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: فَمِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، لَيْسَ دَاخِلًا فِي الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ: أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ مَالًا يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، أَوْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ، لَا مَعْرِفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَلْبَتَّةَ: أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَجَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الدَّعْوَى تُسْمَعُ، وَلِمُدَّعِيهَا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطَابَقَتِهَا.
قَالُوا: وَلَا يَمْلِكُ اسْتِحْلَاف الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا إلَّا بِإِثْبَاتِ خُلْطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْخُلْطَةُ أَنْ يُسَالِفَهُ، أَوْ يُبَايِعَهُ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مِرَارًا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا تَكُونُ الْخُلْطَةُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ. قَالُوا: فيُنْظَرُ إلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي.
فَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ أَنْ يَدَّعَي بِمِثْلِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
– الشيخ: أنْ تُشبهُ؟
– القارئ: نعم، فَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ أَنْ يَدَّعَي بِمِثْلِهَا
– الشيخ: أن يُدَّعى يمكن؟
– القارئ: قَالُوا: يُنْظَرُ إلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي.
فَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ أَنْ يدّعي بِمِثْلِهَا
– الشيخ: أَنْ يُدَّعَى بِمِثْلِهَا
– القارئ: أَنْ يُدَّعَى -أحسن الله إليكم-.
أَنْ يُدَّعَى بِمِثْلِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أُحْلِفَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُشْبِهُ، وَيَنْفِيهَا الْعُرْفُ: لَمْ يَحْلِفْ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ المدعي خُلْطَةً.
قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ خُلْطَةً، وَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا، قَالَ سَحْنُونٌ: يُسْتَحْلَفُ الْمُتَّهَمُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خُلْطَةً، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُسْتَحْلَف.
وَتَثْبُتُ الْخُلْطَةُ عِنْدَهُمْ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَا وَبِالشَّاهِدَيْنِ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.
قَالُوا: وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فَمِثَالُهَا: أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ حَائِزًا لِدَارٍ، مُتَصَرِّفًا فِيهَا السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ بِالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَالْإِجَارَةٍ وَالْعِمَارَةِ، وَيَنْسُبُهَا إلَى نَفْسِهِ، وَيُضِيفُهَا إلَى مِلْكِهِ، وَإِنْسَانٌ حَاضِرٌ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُ فِيهَا طَوالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّهُ لَهُ فِيهَا حَقًّا
– الشيخ: "طَوال" عندَك؟ ما ضُبِطَت طِوال؟
– القارئ: أحسنَ الله إليكم، مكتوبٌ: الطويلة.. مُتَصَرِّفًا فِيهَا السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ
– الشيخ: …
– القارئ: بالبناءِ
– الشيخ: وين طِوال اللي قُلتَها؟ جاءَت "طِوال"؟
– طالب: وَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُ فِيهَا طِوال
– القارئ: أي. نعم. طيب، وَإِنْسَانٌ حَاضِرٌ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُ فِيهَا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ
– الشيخ: طُولَ؟
– القارئ: أي، نعم
– الشيخ: تمام. طولَ هذهِ المُدةِ.
– القارئ: وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّهُ لَهُ فِيهَا حَقًّا، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ من خوفِ سُلْطَانٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالْحُقُوقِ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَصَرِّفِ فِي الدَّارِ قَرَابَةَ، وَلَا شَرِكَةَ فِي مِيرَاثٍ، أَوْ مَا أشبهَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَسَامَحُ فِيهِ الْقَرَابَاتُ وَالصِّهْرُ بَيْنَهُمْ، بَلْ كَانَ عريًّا عنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. ثُمًّ جَاءَ بَعْدَ طُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ.
فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ بَيِّنَتِهِ وَتَبْقَى الدَّارُ بِيَدِ حَائِزِهَا، لِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى يُكَذِّبُهَا الْعُرْفُ وَتَنْفِيهَا الْعَادَةُ فَإِنَّهَا مَرْفُوضَةٌ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف: 199]، وَقَدْ أَوْجَبَتْ الشَّرِيعَةُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّعَاوَى، كَالنَّقْدِ وَالْحُمُولَةِ وَالسَّيْرِ، وَفِي الْأَبْنِيَةِ وَمَعَاقِدِ الْقُمُطِ، وَوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى الْحَائِطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ: أَنْ تَأْتِيَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ تَدَّعِي عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ يَكْسُهَا فِي شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ، وَلَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا شَيْئًا البتَّة.
فَهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ لِتَكْذِيبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَالزَّوْجُ مُوسِرا.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُزَنِيِّ
– الشيخ: اللهُ المُستعان، يعني على كلِّ حالٍ أقول: تصويرٌ لصورٍ ظاهرةٍ، يعني يريد اجتماعَ هذه الصفاتِ المذكورةِ، لا شكَّ أنَّها دليلٌ على كذبِ الدعوى.
– القارئ: قال:
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُزَنِيِّ:
مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَحْلِفُ لِلْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، دُونَ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا عِلْمٌ بِمُخَالَطَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مُعَامَلَةٍ.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ: أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى تَلِيقُ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَا يَتَنَاكَرُهَا النَّاسُ، وَلَا يَنْفِيهَا عُرْفٌ. قَالَ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْيَمِينِ يَصْعُبُ، وَيَثْقُلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، سِيَّمَا عَلَى أَهْلِ الدِّينِ وَذَوِي المراتب وَالْأَقْدَارِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى مَمَرِّ الْأَعْصَارِ، لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُمْ افْتَدَوْا أَيْمَانَهُمْ، مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا –رضي الله عنهما-، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِمُرُوءَتِهِمْ، وَلِئَلَّا يسْبِقَ الظَّلَمَةُ إلَيْهِمْ إذَا حَلَفُوا، فَمَنْ يُعَادِي الْحَالِفَ، وَيُحِبُّ الطَّعْنَ عَلَيْهِ، يَجِدُ طَرِيقًا إلَى ذَلِكَ، لِعِظَمِ شَأْنِ الْيَمِينِ وَعِظَمِ خَطَرِهَا، وَلِذَا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ، كَرُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَلَوْ مُكِّنَ كُلُّ مُدَّعٍ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى امْتِهَانِ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ وَذَوِي الْأَقْدَارِ وَالْأَخْطَارِ وَالدِّيَانَاتِ لِمَنْ يُرِيدُ التَّشَفِّيَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ أَقْرَبَ وَلَا أَخَفَّ كُلْفَةٍ مِنْ أَنْ يُقَدِّمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُعَادِيهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِيَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْهَضُ بِهِ، أَوْ لَا يَعْتَرِفُ، لِيَتَشَفَّى مِنْهُ بِتَبَذُّلِهِ وَإِحْلَافِهِ، وَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِصُورَةِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا، لَعَلَّهُ أن يَفْتَدِي يَمِينَهُ مِنْهُ، لِئَلَّا يَنْقُصَ قَدْرُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودٌ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ.
قَالَ: وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَحَضَرْنَاهُ، وَأَصَابَنَا بَعْضُهُ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: حِرَاسَةً لِمُرُوآتِ النَّاسِ، وَحِفْظًا لَهَا مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِمْ، وَالْأَذَى الْمُتَطَرِّقِ إلَيْهِمْ.
فَإِذَا قَوِيَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِمُخَالَطَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ ضَعُفَتْ التُّهْمَةُ، وَقَوِيَ فِي النَّفْسِ أَنَّ مَقْصُودَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأُحْلِفَ لَهُ، وَلِهَذَا لَمْ نعتبر ذَلِكَ الْغَرِيبين، لِأَنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكَادُ تَلْحَقُ الْمُرُوءَةَ فِيهَا مَا يَلْحَقُهَا فِي الْوَطَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ أَلَّا يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ أَيْضًا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ امْتِهَانًا لَهُ وَابْتِذَالًا. قِيلَ لَهُ: حُضُورُهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ، لَا عَارَ فِيهِ، وَلَا نَقْصَ يَلْحَقُ مِنْ حُضُورِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْضُرُونَهُ ابْتِدَاءً فِي حَوَائِجَ لَهُمْ وَمُهِمَّاتٍ، وَإِنَّمَا الْعَارُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْيَمِينِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ يُمَكِّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إحْضَارِهِ، لَعَلَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ حَقِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْيَمِينُ الصَّادِقَةُ لَا عَارَ فِيهَا، وَقَدْ حَلَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ.
وَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ افْتَدَى يَمِينَهُ "مَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ إذَا كُنْت صَادِقًا؟".
قِيلَ: مُكَابَرَةُ الْعَادَاتِ لَا مَعْنَى لَهَا، وَأَقْرَبُ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُمْ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ افْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ أَيْمَانَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِصَرْفِ الظَّلَمَةِ عَنْهُمْ، وَأَلَّا تَتَطَرَّقَ إلَيْهِمْ تُهْمَةٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ إنَّمَا هُوَ لِتَقْوِيَةِ نَفْسِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ إذَا حَلَفَ صَادِقًا فَهُوَ مُصِيبٌ فِي الشَّرْعِ، لِيُضْعِفَ بِذَلِكَ نُفُوسَ مَنْ يُرِيدُ الْإِعْنَاتَ، وَيَطْمَعُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِادِّعَاءِ الْمُحَالِ، لِيَفْتَدُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ.
وَأَيْضًا: فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ لَا عَارَ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: فَصَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَارًا عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ عَارًا فِي الْعَادَةِ، وهم يعلِّمون منعَ إنكاحِ الابنِ أمَّه بأنَّ عليه عارًا في ذلكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُبَاحَ لَا عَارَ فِيهِ عِنْدَ اللَّهِ، هَذَا إذَا عُلِمَ كَوْنُ الْيَمِينِ صِدْقًا، وَكَلَامُنَا فِي يَمِينٍ مُطْلَقَةٍ لَا يُعْلَمُ بَاطِنُهَا.
قَالَ: وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْعُرْفِ وَاجِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ يَنْفِيهَا الْعُرْفُ، فَإِنَّ الظَّنَّ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ بِالْبُطْلَانِ، كَبَقَّالٍ يَدَّعِي عَلَى خَلِيفَةٍ أَوْ أَمِيرٍ مَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ شِرَاؤُهُ، أَوْ تَطَرُّقُ تِلْكَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ.
قُلْت: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَيُقَوِّيهِ: قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ -وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْهُ-: "إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَرَأَى قَلْبَ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاخْتَارَهُ لِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَهُ، فَرَأَى قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَتِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ".
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ -بَلْ وَغَيْرَهُمْ- يَرَوْنَ مِنْ الْقَبِيحِ: أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَى الْبَقَّالِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْأَمِيرِ: أَنَّهُ بَاعَهُ بِمِائَةِ ألف دِينَارٍ أو نحوها وَلَمْ يُوَفِّهِ إيَّاهَا، أَوْ أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ نَحْوَهَا، أَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ الشَّوْهَاءَ، وَدَخَلَ بِهَا، وَلَمْ يُعْطِهَا مَهْرَهَا.
أَوْ تَدَّعِي امْرَأَةٌ مَكَثَتْ مَعَ الزَّوْجِ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَلَا كَسَاهَا خَيْطًا، وَهُوَ
– الشيخ: هذهِ في الغالبِ افتراضاتٌ، أقولُ: أشياءٌ مُفترضة، أقولُ: لا تحصلُ بهذه الصورةِ، لكنَّ هذه مُناقشاتٌ مذهبيَّةٌ، لا إله إلا الله، لا تكاد بعضها […..] بقَّالٌ يدَّعي على خليفةٍ! هذه ما يكادُ، فرضُ هذه افتراضات لتقرير المذهبِ والرأيِ القاعدةِ، والله أعلم.
– القارئ: أَوْ تَدَّعِي امْرَأَةٌ مَكَثَتْ مَعَ الزَّوْجِ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَلَا كَسَاهَا خَيْطًا، وَهُوَ يُشَاهَدُ دَاخِلًا وَخَارِجًا إلَيْهَا بِأَنْوَاعِ الطَّعَامِ وَالْفَوَاكِهِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهَا وَيُحَلَّفُ لَهَا
– الشيخ: لا، هذه تكاد لا.، أقول: هذه نقولٌ لا تكادُ تقعُ الدعوى نفسها، تدَّعي عليه، ستين سنةً وهو داخلٌ وطالعٌ وهي مُقيمةٌ عندَه وتعيشُ معه تدَّعي أنَّه لم يُنفِقْ عليها يومًا من الدهر! فرضٌ يقولون: هذه فرضيَّاتٌ.
– القارئ: أَوْ تُسْمَعُ دَعْوَى الذَّاعِرِ الْهَارِبِ وَبِيَدِهِ عِمَامَةٌ لَهَا ذُؤَابَةٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ، وَخَلْفَهُ عَالِمٌ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ، فَيَدَّعِي الذَّاعِرُ أَنَّ الْعِمَامَةَ لَهُ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَيُحْكَمُ
– الشيخ: فرضيَّةٌ.
– القارئ: وَيُحْكَمُ لَهُ بِهَا بِحُكْمِ الْيَدِ.
أَوْ يَدَّعِي رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالْفُجُورِ وَأَذَى النَّاسِ عَلَى رَجُلٍ مَشْهُورٍ بِالدِّيَانَةِ وَالصَّلَاحِ: أَنَّهُ نَقَبَ بَيْتَهُ وَسَرَقَ مَتَاعَهُ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيُسْتَحْلَفُ لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ.
أو يدّعي رجلٌ على رجلٍ مشهورٍ بالخيرِ والدِّينِ أنَّه تعرَّضَ لزوجتِه أو ولدِه أو لقريبِه بكلامٍ قبيحٍ أو فعلٍ، فلا تُسمَعُ دعوَاه ويُعزَّرُ المُدَّعي بذلِكَ.
أَوْ يَدَّعِي رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالشِّحَاذَةِ وَسُؤَالِ النَّاسِ، أكمل يا شيخ؟
– الشيخ: مُتواصل ٌكأنه؟
– القارئ: بقي أربعة خمسة أسطر يا شيخ وينتهي.. أقول: خمسةُ أسطرٍ ويأتي فصلٌ جديد
– الشيخ: طيب كمِّلْ
– القارئ: قالَ:
أَوْ يَدَّعِي رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالشِّحَاذَةِ وَسُؤَالِ النَّاسِ: أَنَّهُ أَقْرَضَ تَاجِرًا مِنْ أَكْبَرِ التُّجَّارِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، أَوْ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ، أَوْ أَنَّ ثِيَابَ التَّاجِرِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ مِلْكُ الشَّحَّاذِ شَلَحَها إيَّاهَ، أَوْ غَصَبَهَا مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الدَّعَاوَى الَّتِي شَهِدَ النَّاسُ بِفِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ: أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، فَهَذِهِ لَا تُسْمَعُ، وَلَا يَحْلِفُ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيُعَزَّرُ الْمُدَّعِي تَعْزِيرَ أَمْثَالِهِ.
وَهَذَا الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [الأنعام: 115] فَالشَّرِيعَةُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا تُصَدِّقُ كَاذِبًا، وَلَا تَنْصُرُ ظَالِمًا. والله أعلم.
– الشيخ: جزاكَ الله خيرًا، نعم يا محمد.