الرئيسية/شروحات الكتب/الطرق الحكمية في السياسة الشرعية/(26) فصل هل السياسة بالضرب والحبس للمتهمين في الدعاوى وغيرها من الشرع
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(26) فصل هل السياسة بالضرب والحبس للمتهمين في الدعاوى وغيرها من الشرع

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس السّادس والعشرون

***    ***    ***    ***

 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمه الله تعالى- في "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية":
فصل؛ وَرَأَيْتُ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي ذَلِكَ جَوَابًا وَسُؤَالًا: هَلْ السِّيَاسَةُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ لِلْمُتَّهَمِينَ فِي الدَّعَاوَى وَغَيْرِهَا مِنْ الشَّرْعِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ الشَّرْعِ فَمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ؟ وَمَا قَدْرُ الضَّرْبِ وَمُدَّةُ الْحَبْسِ؟
فَأَجَابَ: الدَّعَاوَى الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ – سَوَاءٌ سُمُّوا قُضَاةً، أَوْ وُلَاةً، أَوْ وُلَاةَ الْأَحْدَاثِ، همُ الذينَ يُعلِّمون أحداثَ الفيءِ الفروسيةَ والرَّميَ، وقيل: هم الذين يُنصَّبون في الأطرافِ لتوليةِ القضاءِ وسُعاةِ الصَّدقاتِ وعزلِهم، وتجهيزِ الجيوشِ إلى الثغورِ، وحفظُ البلادِ من الفسادِ ونحوِها عن الأحداثِ. انتهى.
قال: أَوْ وُلَاةَ الْمَظَالِمِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَعَلَى كُلِّ مِنْ وَلِيَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، أَوْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ: أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ: فَيَحْكُمَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ الله –تَعَالَى-: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
وَقَالَ –تَعَالَى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]
وَقَالَ -تَعَالَى-: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48]
فَالدَّعَاوَى قِسْمَانِ: دَعْوَى تُهْمَةٍ، وَدَعْوَى غَيْرِ تُهْمَةٍ. فَدَعْوَى التُّهْمَةِ: أَنْ يَدَّعَى فِعْلَ مُحَرَّمٍ عَلَى الْمَطْلُوبِ، يُوجِبُ عُقُوبَتُهُ، مِثْلَ قَتْلٍ، أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُدْوَانِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ.
وَغَيْرُ التُّهْمَةِ: أَنْ يَدَّعِيَ عَقْدًا: مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَكُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ حَدًّا مَحْضًا، كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا، وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا مَحْضًا لِآدَمِيٍّ، كَالْأَمْوَالِ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلْأَمْرَيْنِ: كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.
فَهَذَا الْقِسْمُ: إنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى – عَلَيْهِ – حُجَّةً شَرْعِيَّةً، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ.
لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ)، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ –رضي الله عنهما- قاَل: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».
فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ أَنَّ أَحَدًا: لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ. وَنَصٌّ فِي أَنَّ الدَّعْوَى الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْإِعْطَاءِ: فِيهَا الْيَمِينُ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وليسَ فيها أنَّ الدَّعاوى المُوجبة للعقوباتِ لا تُوجِبُ اليمينَ إلَّا على المُدَّعى عليه.
بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" فِي "قِصَّةِ الْقَسَامَةِ": أَنَّهُ قَالَ لِمُدَّعِي الدَّمِ:
(تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ)، فَقَالُوا: "كَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟" قَالَ: (فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا).
وَثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ".
وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" وَهُوَ الَّذِي رَوَى أَنَّهُ: "قَضَى بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ".
وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بَلْ هَذَا فِي دَعْوَى، وَهَذَا فِي دَعْوَى.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ:
(الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ). فَهَذَا قَدْ رُوِيَ، وَلَكِنْ لَيْسَ إسْنَادُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ مِثْلَ غَيْرِهِ، وَلَا رَوَاهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا قَالَ بِعُمُومِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، إلَّا طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْيَمِينَ دَائِمًا فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ، حَتَّى فِي الْقِسَامَةِ
– الشيخ: القَسَامةِ
– القارئ: حَتَّى فِي الْقسَامَةِ يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَقْضُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَا يَرُدُّونَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ النُّكُولِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا سَائِرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ -مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ، مِثْلَ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ-: فَتَارَةً يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ، وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ: تَارَةً بِالتَّضْعِيفِ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ عَامٌّ، وَأَحَادِيثُهُمْ خَاصَّةً، وَتَارَةً بِأَنَّ أَحَادِيثَهُمْ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ، فَالْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّهُ طَلَبَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ مِنْ الْمُنْكِرِ" فِي حُكُومَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ دَعَاوَى التُّهَمِ، مِثْلَ مَا خُرِّجَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ حُكُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
(شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، فَقُلْتُ: إذًا يَحْلِفَ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: (بَيِّنَتُكَ إنَّهَا بِئْرُكَ، وَإِلَّا فَيَمِينُهُ)."
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الَّذِي مِنْ حَضْرَمَوْتَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ؛ هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (فَلَكَ يَمِينُهُ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: (لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ)، فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ لِيَحْلِفَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَا إنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا الْيَمِينَ، مَعَ ذِكْرِ الْمُدَّعِي لِفُجُورهِ، وَقَالَ:
(لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إلَّا ذَلِك)، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ خَصْمُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ يَهُودِيًّا، هَكَذَا جَاءَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينَ.
وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ أَنَّ الْأَنْصَارَ: قَالُوا: "كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟".
وَهَذَا الْقَسَمُ لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا: أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، إذْ لَمْ يَأْتِ الْمُدَّعِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي هِيَ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ: تَارَةً تَكُونُ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ذَكَرَيْنِ، وَتَارَةً تَكُونُ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَتَارَةً أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، وَتَارَةً ثَلَاثَةٌ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ فِي دَعْوَى إفْلَاسِ مَنْ عُلِمَ لَهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: (لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).
فَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ: وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِعْسَارَ مِنْ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي تَقْوَى فِيهَا التُّهْمَةُ بِإِخْفَاءِ الْمَالِ، فَرُوعِيَ فِيهَا الزِّيَادَةُ فِي الْبَيِّنَةِ، وَجُعِلَتْ بَيْنَ مَرْتَبَةِ أَعْلَى الْبَيِّنَاتِ وَمَرْتَبَةِ أَدْنَى الْبَيِّنَاتِ.
وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ شَاهِدًا وَيَمِينُ الطَّالِبِ، وَتَارَةً تَكُونُ امْرَأَةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَتَارَةً تَكُونُ رَجُلًا وَاحِدًا فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، وَشَهَادَةِ الطَّبِيبِ، إذَا لَمْ يُوجَدَ اثْنَانِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَتَارَةً تَكُونُ لَوَثًا وَلَطْخًا مَعَ أَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، كَمَا فِي الْقَسَامَةِ، وَامْتَازَتْ بِكَوْنِ الْأَيْمَانِ فِيهَا خَمْسِينَ: تَغْلِيظًا لِشَأْنِ الدَّمِ، كَمَا امْتَازَ اللِّعَانُ بِكَوْنِ الْأَيْمَانِ فِيهِ أَرْبَعًا.
وَالْقَسَامَةُ يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَتُوجِبُ الدِّيَةَ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا أَهْلُ الرَّأْي: فَيُحَلِّفُونَ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ مَعَ تَحْلِيفِهِ.
قُلْتُ: وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ نُكُولًا فَقَطْ مِنْ غَيْرِ رَدِّ الْيَمِينِ، وَتَارَةً تَكُونُ يَمِينًا مَرْدُودَةً، مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا قَضَى الصَّحَابَةُ بِهَذَا وَهَذَا، وَتَارَةً تَكُونُ عَلَامَاتٍ يَصِفُهَا الْمُدَّعِي، يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ، كَالْعَلَامَاتِ الَّتِي يَصِفُهَا مَنْ سَقَطَتْ مِنْهُ لُقَطَةً لِوَاجِدِهَا، فَيَجثِبُ حِينَئِذٍ الدَّفْعُ إلَيْهِ بِالصِّفَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يَجِبُ، وَتَارَةً تَكُونُ شَبَهًا بَيِّنًا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، فَيَجِبُ إلْحَاقُ النَّسَبِ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، كَمَا فِي الْقَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، وَحَكَمَ بِهَا الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَارَةً تَكُونُ عَلَامَاتٍ يَخْتَصُّ بِهَا أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَيُقَدَّمُ بِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي يَتَدَاعَيَانِ دَفِينًا فِي الدَّارِ، فَيَصِفُهُ أَحَدُهُمَا، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَتَارَةً تَكُونُ عَلَامَاتٍ فِي بَدَنِ اللَّقِيطِ يَصِفُهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَيُقَدَّمُ بِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَتَارَةً تَكُونُ قَرَائِنَ ظَاهِرَةً يُحْكَمُ بِهَا لِلْمُدَّعِي مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا إذَا تَنَازَعَ الْخَيَّاطُ وَالنَّجَّارُ فِي آلَاتِ صِنَاعَتِهِمَا، حُكِمَ بِكُلِّ آلَةٍ لِمَا تَصْلُحُ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، حُكِمَ لِلرَّجُلِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ، وَلِلْمَرْأَةِ بِمَا يَصْلُحُ لَهَا، وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ إلَّا الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَسَّمَ عِمَامَةَ الرَّجُلِ وَثِيَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَكَذَلِكَ قَسَّمَ خُفَّ الْمَرْأَةِ وَحَلَقَهَا وَمِغْزَلَهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ -كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ- فَإِنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ وَالظَّنِّ الْغَالِبِ الْمُلْتَحِقِ بِالْقَطْعِ فِي اخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَصْلُحُ لَهُ، وَرَأَوْا أَنَّ الدَّعْوَى تَتَرَجَّحُ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، كَالْيَدِ وَالْبَرَاءَةِ وَالنُّكُولِ، وَالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، فَيُثِيرُ ذَلِكَ ظَنًّا تَتَرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ هَاهُنَا أَقْوَى بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ مِنْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ

– الشيخ: معروفٌ، يعني إذا تنازع الرجلُ والمرأة فيما في البيتِ. البيتُ فيه أشياءٌ: أشياءٌ يُعلَمُ أنها مُختصة بالرجلِ، وأشياءٌ مُختصَّةٌ بالمرأةِ، وأشياءٌ مُحتمَلة. الثيابُ والبُشت والملابس هذه الأشياءُ للرجلِ تدَّعِيها المرأة تقول: هذه لي هي مِلكي، كذلك ثيابُها وخصوصِيَّاتها تختصُّ بها المرأة، وفي أشياء مُمكن، والعُرْفُ له دورٌ في هذا.
 

– القارئ: وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ.
وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَالْمَشْرُوعِ، عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُهُ، قَالَ –تَعَالَى-: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل:15]، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ[النحل:16]، وَنَصَبَ عَلَى الْقِبْلَةِ عَلَامَاتٍ وَأَدِلَّةٍ، وَنَصَبَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ عَلَامَاتٍ وَأَدِلَّةٍ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ) فَجَعَلَ اعْتِيَادَ شُهُودِ الْمَسْجِدِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَان وَجَوَّزَ لَنَا أَنْ نَشْهَدَ بِإِيمَانِ صَاحِبِهَا، مُسْتَنِدِينَ إلَى تِلْكَ الْعَلَامَةِ، وَالشَّهَادَةِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْقَطْعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمَارَةَ تُفِيدُ الْقَطْعَ وَتُسَوِّغُ الشَّهَادَةَ.
وَقَالَ:
(آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ). وَفِي لَفْظٍ: (عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤتُمِنَ خَانَ).
وَفِي السُّنَنِ:
(ثَلَاثٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ، وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ).
وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَاتِ

– الشيخ: قِفْ على هذا.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكَ.
 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات