الرئيسية/شروحات الكتب/الطرق الحكمية في السياسة الشرعية/(27) فصل هل السياسة بالضرب والحبس للمتهمين في الدعاوى وغيرها من الشرع قوله “وقد نصب الله تعالى الآيات دالة عليه وعلى وحدانيته”

(27) فصل هل السياسة بالضرب والحبس للمتهمين في الدعاوى وغيرها من الشرع قوله “وقد نصب الله تعالى الآيات دالة عليه وعلى وحدانيته”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس السّابع والعشرون

***    ***    ***    ***

 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":
وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَاتِ دَالَّةً عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَكَذَلِكَ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى عَدْلِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْآيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمَدْلُولِهَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا، فَحَيْثُ وُجِدَ الْمَلْزُومُ وُجِدَ لَازِمُهُ، فَإِذَا وُجِدَتْ آيَةُ الْحَقِّ ثَبَتَ الْحَقُّ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ ثُبُوتُهُ عَنْ آيَتِهِ وَأَمَارَتِهِ، فَالْحُكْمُ بِغَيْرِهِ حِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمًا بِالْبَاطِلِ.
وَقَدْ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ الْعَلَامَاتِ فِي الْأَحْكَامِ، وَجَعَلُوهَا مُبَيِّنَةً لَهَا، كَمَا اعْتَبَرَ الْعَلَامَاتِ فِي اللُّقَطَةِ، وَجَعَلَ صِفَةَ الْوَاصِفِ لَهَا آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنَّهَا لَهُ.
وَقَالَ لِجَابِرٍ: «خُذْ مِنْ وَكِيلِي وَسْقًا، فَإِنْ الْتَمَسَ مِنْكَ آيَةً، فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ» فَنَزَّلَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْكَ ذَلِكَ، كَمَا نَزَّلَ الصِّفَةَ لِلُّقَطَةِ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ، بَلْ هَذَا نَفْسُهُ بَيِّنَةٌ، إذْ الْبَيِّنَةُ مَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَوَصْفٍ

– الشيخ: مشِّ
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكَ، قالَ رحمَهُ اللهُ:
وَجَعَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- الْحَبَلَ عَلَامَةً وَآيَةً عَلَى الزِّنَا فَحَدُّوا بِهِ الْمَرْأَةَ وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ، بَلْ جَعَلُوا الْحَبْلَ أَصْدَقَ مِنْ الشَّهَادَةِ

– الشيخ: الحبَلَ.. مضبوطة الكلمة
– القارئ: وَجَعَلُوا رَائِحَةَ الْخَمْرِ وَقَيْئِهِ لَهَا: آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى شُرْبِهَا، بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالشَّاهِدَيْنِ.
وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْرَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ عَشْرَ جَزَائِرَ أَوْ تِسْعًا: آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى كَوْنِهِمْ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ وَالتِّسْعِمِائَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْعَلَامَةِ.
وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثْرَةَ الْمَالِ وَقِصَرِ مُدَّةِ إنْفَاقِهِ: آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى كَذِبِ الْمُدَّعِي لِذَهَابِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالنَّوَائِبِ فِي قِصَّةِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ وَأَجَازَ الْعُقُوبَةَ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْعَلَامَةِ، وَاعْتَبَرَ الْعَلَامَةُ فِي السَّيْفِ وَظُهُورِ أَثَرِ الدَّمِ بِهِ فِي الْحُكْمِ بالسَّلَبِ لِأَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَنَزَّلَ الْأَثَرَ مَنْزِلَةَ بَيِّنَةٍ.
وَاعْتَبَرَ الْعَلَامَةَ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَقَالَ: «انظُروها فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ» فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ لِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَالصِّفَاتِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِهِ، وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَلَا كَانَتْ الْمُلَاعَنَةُ فِرَاشًا لَهُ.
وَاعْتَبَرَ نَبَاتَ الشَّعْرِ حَوْلَ الْقُبُلِ فِي الْبُلُوغِ، وَجَعَلَهُ آيَةً وَعَلَامَةً لَهُ، فَكَانَ يَقْتُلُ مِنْ الْأَسْرَى يَوْمَ قُرَيْظَةَ مَنْ وُجِدَتْ فِيه تِلْكَ الْعَلَامَةُ، وَيَسْتَبْقِي مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ، وَلِهَذَا جَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ -كَالشَّافِعِيِّ- عَلَامَةً فِي حَقِّ الْكُفَّارِ خَاصَّةً.
وَجَعَلَ الْحَيْضَ عَلَامَةً عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ، فَجَوَّزَ وَطْءَ الْأَمَةِ الْمَسْبِيَّةِ إذَا حَاضَتْ حَيْضَةً، لِوُجُودِ عَلَامَةِ خُلُوِّهَا مِنْ الْحَبَلِ، فَلَمَّا مَنَعَ مِنْ وَطْءِ الْأَمَةِ الْحَامِلِ، وَجَوَّزَ وَطْأَهَا إذَا حَاضَتْ، كَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْعَلَامَةِ وَالْأَمَارَةِ.
وَاعْتَبَرَ الْعَلَامَةَ فِي الدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الْمَرْأَةُ وَيُشْتَبَهُ عَلَيْهَا، هَلْ هُوَ حَيْضٌ، أَوْ اسْتِحَاضَةٌ؟ وَاعْتَبَرَ الْعَلَامَةَ فِيهِ بِوَقْتِهِ وَلَوْنِهِ، وَحَكَمَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا فِي الشَّرِيعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ وَتُسْتَوْفَى شَوَاهِدُهُ.
فَمَنْ أَهْدَرَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِي الشَّرْعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَدْ عَطَّلَ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَضَيَّعَ كَثِيرًا مِنْ الْحُقُوقِ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ.
قَالَ شَيْخُنَا -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّفْرِيطِ مِنْ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ: مَا أَوْجَبَ الْجَهْلَ بِالْحَقِّ، وَالظُّلْمَ لِلْخَلْقِ، وَصَارَ لَفْظُ "الشَّرْعِ" غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، بَلْ لَفْظُ "الشَّرْعِ" فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَاتِّبَاعُ هَذَا الشَّرْعِ وَاجِبٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَجَبَ قِتَالُهُ، وَتَدْخُلُ فِيهِ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ، وَسِيَاسَةُ الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةُ الْمَالِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ، وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ، وَوُلَاةُ الْحِسْبَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِالشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ، وَلَا يَخْرُجُوا عَنْهُ.
الثَّانِي: الشَّرْعُ الْمُتَأَوَّلُ، وَهُوَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ وَالِاجْتِهَادِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، فَمَنْ أَخَذَ بِمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أُقِرَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مُوَافَقَتُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ لَا مَرَدَّ لَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.
وَالثَّالِثُ: الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ، مِثْلُ مَا يَثْبُتُ بِشَهَادَاتِ الزُّورِ، وَيُحْكَمُ فِيهِ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، أَوْ يُؤْمَرُ فِيهِ بِإِقْرَارِ بَاطِلٍ لِإِضَاعَةِ حَقٍّ، مِثْلَ تَعْلِيمِ الْمَرِيضِ أَنْ يُقِرَّ لِوَارِثٍ بِمَا لَيْسَ لَهُ؛ لِيُبْطِلَ بِهِ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ حَرَامٌ، وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ، وَالْحَاكِمُ إذَا عَرَفَ بَاطِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْحَقِّ فَحَكَمَ بِهِ كَانَ جَائِرًا آثِمًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَ الْأَمْرِ لَمْ يَأْثَمْ، فَقَدْ قَالَ سَيِّدُ الْحُكَّامِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ»
والْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الدَّعَاوَى، دَعَاوَى

– الشيخ: إلى هنا يا حبيب.
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات