بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الحادي والثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ على رسول الله. اللهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللحاضرينَ والمُستمعينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله:
فَصْلٌ: فِي الطُّرُقِ الَّتِي يَحْكُمُ بِهَا الْحَاكِمُ.
الْحُكْمُ قِسْمَانِ: إثْبَاتٌ، وَإِلْزَامٌ.
فَالْإِثْبَاتُ: يَعْتَمِدُ الصِّدْقَ، وَالْإِلْزَامُ: يَعْتَمِدُ الْعَدْلَ قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] وَكُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ:
أَحَدُهَا: الْيَدُ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إلَى يَمِينٍ: وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ.
مِنْهَا: إذَا كَانَ وَصِيًّا عَلَى طِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ انْتَقَلَ إلَيْهِ عَنْ أَبِيهِ، كَانَ مُجَرَّدُ الْيَدِ كَافِيًا فِي الْحُكْمِ بِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، لَا عَلَى الطِّفْلِ وَلَا عَلَى الْوَصِيِّ.
أَمَّا الطِّفْلُ؛ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْيَمِينِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْوَصِيُّ؛ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا تتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ كَفَنًا عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ لَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ،
– الشيخ: لا إله إلا الله، خلاص، كَفَنًا عَلَى مَيِّتٍ [….]!!
– القارئ: فَيُقْضَى بِالْكَفَنِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ
– الشيخ: مِن غيرِ يمينٍ مِن مَن؟ والله إنَّها تصويراتٌ غريبةٌ!
– القارئ:وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ دَعْوَى يُكَذِّبُهُ فِيهَا الْحِسُّ، فَلَا يَحْلِفُ لَهُ صَاحِبُ الْيَدِ، بَلْ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، كَمَا إذَا ادَّعَى عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْمُدَّعِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُشْرَعُ فِي جَانِبِ مَنْ تَرَجَّحَ جَانِبُهُ، مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ مُبْطِلًا، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي الْيَمين فَائِدَةٌ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ، وَلَهُ صُوَرٌ: إحْدَاهَا: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ، أَوْ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ، وَلِلْمَيِّتِ وَصِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَنْفِيذُ وَصَايَاهُ، فَأَنْكَرَ
– الشيخ: فأنكرَ الوصية يعني.
– القارئ: فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حَكَمَ بِهَا.، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْوَصِيِّ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّحْلِيفِ: أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ.
وَالْوَصِيُّ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَوْ نَكَلَ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ، فَلَا فَائِدَةَ في تَحْلِيفِهِ، وَلَوْ كَانَ وَارِثًا اسْتُحْلِفَ، وَقُضِيَ بِنُكُولِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ ظَلَمَهُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ عَلَى الشَّاهِدِ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ الْغَلَطَ، أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا يَسْقُطُ شَهَادَتَهُ لَمْ يَحْلِفَا؛ لِارْتِفَاعِ مَنْصِبِهِمَا عَنْ التَّحْلِيفِ.
– الشيخ: لا إله إلا الله، لِارْتِفَاعِ مَنْصِبِهِمَا، يعني: يدَّعِي على الحاكمِ أنَّه ظلمَهُ، أيش يسوي؟ يُثبت هذا ممكن، أما يُحلِّف القاضي هذا معناهُ إثباتٌ لهيبةِ القاضي ومنزلته، أمَّا إذا أتى ببينةٍ على القاضي فإنَّ أيَّ بينةٍ لا تُرَدُّ.
– القارئ: قال: وَمِنْهَا: دَعْوَى الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ، وَدَعْوَاهَا عَلَيْهِ الطَّلَاقَ، وَدَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا الرَّجْعَةَ، وَدَعْوَى الْأَمَةِ أَنَّ سَيِّدَهَا أَوْلَدَهَا، وَدَعْوَى الْمَرْأَةِ أَنَّ زَوْجَهَا آلَى مِنْهَا، وَدَعْوَى الرِّقِّ وَالْوَلَاءِ وَالْقَوَدِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رحمه الله: أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِيمانِ وَالْقَوَدِ وَالْقَذْفِ.
وَعَنْهُ: أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ إلَّا فِيمَا لَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا أَرَى الْيَمِينَ فِي النِّكَاحِ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ، وَلَا فِي الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَكَلَ لَمْ أَقْتُلْهُ وَلَمْ أَحُدَّهُ، وَلَمْ أَدْفَعْ الْمَرْأَةَ إلَيْهِ.
وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْخِرَقِيُّ: أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ فِيمَا عَدَا الْقَوَدَ وَالنِّكَاحَ، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ فِي الْكُلِّ. وَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ -حَيْثُ قُلْنَا يَسْتَحْلِفُ- قَضَيْنَا بِالنُّكُولِ فِي الْجَمِيعِ، إلَّا فِي الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ خَاصَّةً. وَعَنْهُ لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً.
وَكُلُّ نَاكِلٍ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ فَهَلْ يُخَلَّى أَوْ يُحْبَسُ حَتَّى يَقِرَّ، أَوْ يَحْلِفَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَلَا فِي الْحُدُودِ.
فَإِذَا قُلْنَا: لا يُسْتَحْلَفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَقْضِ فِيهَا بِالنُّكُولِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ وَتَعْلِيلِهِ، وَإِذَا اسْتَحْلَفْنَاهُ، فَأبى قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِتَكُونَ لِلْيَمِينِ فَائِدَةٌ، حَتَّى فِي قَوَدِ الْأَطْرَافِ، وَلَا يُقْضَى بِقَوَدِ النَّفْسِ وَإِنْ اسْتَحْلَفْنَاهُ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ فَلَا يُرَاقُ بِهِ الدَّمُ بِمُجَرَّدِهِ، وَلَا مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي إلَّا فِي الْقَسَامَةِ لِلَّوْثِ.
وَإِذَا قُلْنَا: يُسْتَحْلَفُ وَلَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ: كَانَ فَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ حَبْسَهُ إذَا أَبَى الْحَلِفُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَفِي الْآخَرِ: يُخَلَّى سَبِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يَفْعَلَهُ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُحِقًّا، وَأَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا.
فَكَيْفَ يُعَاقَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ وَطَلَبِ يَمِينِهِ؟ وَتَكُونُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ عَلَى هَذَا: انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ.
قال رحمه الله: وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ عَدَمِ التَّحْلِيفِ فِي الْحُدُودِ صُورَتَانِ
– الشيخ: إلى هنا، يطول، نعم يا محمد.