بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الرَّد على المنطقيين) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة
الدّرس التّاسع عشر
*** *** *** ***
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكَ، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، قالَ شيخُ الإسلامِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ "الرَّدُّ على المنطقيِّينَ":
وأئمةُ المصنِّفينَ في صناعةِ الحدودِ على طريقةِ المنطقيِّينَ يعترفونَ عندَ التَّحقيقِ بهذا، كما ذكرَ أبو حامدٍ الغزاليُّ في كتابِ "معيارِ العلمِ" الَّذي صنَّفَهُ في المنطقِ بعدَ أنْ قالَ:
"البحثُ النَّظريُّ الجاري في الطَّلبِ إمَّا أنْ يتَّجهَ إلى تصوُّرٍ أو إلى تصديقٍ، فالمُوصِلُ إلى التَّصوُّرِ يُسمَّى قولًا شارحًا، فمنهُ حدٌّ ومنهُ رسمٌ، والموصِلُ إلى التَّصديقِ يُسمَّى حُجَّةً فمنهُ قياسٌ ومنهُ استقراءٌ وغيرُهُ"
قالَ الغزاليُّ: "مضمونُ هذا الكتابِ تعريفُ مبادئِ القولِ الشَّارحِ لما أُريدَ تصوُّرُهُ حدًّا كانَ أو رسمًا، وتعريفُ مبادئِ الحجَّةِ المُوصِلةِ إلى التَّصديقِ قياسًا كانَ أو غيرَهُ معَ التَّنبيهِ على شروطِ صحَّتِها ومثارِ الغلطِ فيها"
قالَ: "فإنْ قُلْتَ: كيفَ يجهلُ الإنسانُ العلمَ التَّصوُّريَّ حتَّى يفتقرَ إلى الحدِّ؟ قلْنا: بأنْ يسمعَ الإنسانُ اسماً لا يعرفُ معناهُ كمن قالَ: ما الخلاءُ؟ وما الملأُ؟ وما الشَّيطانُ؟ وما العقارُ؟ فيُقالُ: العقارُ الخمرُ، فإنْ لم يعرفْهُ باسمِهِ المعروفِ يفهمْهُ بحدِّهِ فيُقالُ: الخمرُ هوَ شرابٌ مسكرٌ مُعتَصَرٌ مِن العنبِ فيحصلُ لهُ
– الشيخ: هذا تعليلٌ يناسبُ مذهبَ الحنفيَّة. هذا الطفلُ لمن هذا؟
– القارئ: لابن عثمانَ
– الشيخ: عثمان عثمان هذا ابنك
– طالب: أي نعم
– الشيخ: كم عمرهُ؟
– طالب: تقريبًا سبع سنين
– الشيخ: "أصلحَه اللهُ، واللهِ تعبان عليه الكحة هذي، شفاه اللهُ، شفاه الله"ُ
– طلاب: آمين
– القارئ: فيُقالُ: الخمرُ هوَ شرابٌ مسكرٌ مُعتَصَرٌ مِن العنبِ فيحصلُ لهُ علمٌ تصوُّريٌّ بذاتِ الخمرِ"
قلْتُ: فقد بيَّنَ أنَّ فائدةَ الحدودِ مِن جنسِ فائدةِ الأسماءِ، وأنَّ ذلكَ كمَن سمعَ اسماً لا يعرفُ معناهُ فيذكرُ لهُ اسماً فإنْ لم يتصوَّرْهُ وإلَّا ذكرَ لهُ الحدَّ.
وهذا ممَّا يعترفُ بهِ حُذَّاقُهم حتَّى بينَ معلِّمِهم الثَّاني أبو نصرٍ الفارابيُّ وهو أعظمُ الفلاسفةِ كلامًا في المنطقِ وتفاريعِهِ مِن برهانِهِ.
ومعلومٌ أنَّ الاسمَ لا يُفيدُ بنفسِهِ تصويرَ المُسمَّى، وإنَّما يُفيدُ التَّمييزَ بينَهُ وبينَ غيرَهُ، وأمَّا تصوُّرُ المسمَّى فتارةً يتصوَّرُهُ الإنسانُ بذاتِهِ بحسِّهِ الباطنِ أو الظَّاهرِ
– الشيخ: الباطن أو الظاهر، شوف الشمس هذا ما يحتاجُ أنْ يُقالَ الشمسُ كوكبٌ في السماءِ مضيءٌ، هذه الشمسُ، ولو عُرِّفتَ لمن لا يعرفُ الشمسَ ما عرفَها.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكَ، وتارةً يتصوَّرُهُ بتصوُّرِ نظيرِهِ وهوَ أبعدُ
– الشيخ: بتصوُّر نظيره وهو أبعدُ
– القارئ: نعم فمَن عرفَ عينَ الخمرِ
– الشيخ: هذا كانَ كلّه عجل، انتهى كلام الغزاليّ
– القارئ: انتهى قولُ الشَّيخِ وقلْتُ
– الشيخ: يعني مشى الشيخُ على طريقه في التمثيل
– القارئ: فمَن عرفَ عينَ الخمرِ إذا لم يعرفْ مُسمَّى لفظِ العقارِ قيلَ لهُ: هوَ الخمرُ، أو غيرُها مِن الأسماءِ فعرفَها، ومَن لم يعرفْ عينَ الخمرِ بحالٍ عرفَ بنظيرِها فقيلَ لهُ: هو شرابٌ، فإذا تصوَّرَ القدرَ المشتركَ بينَ النَّظيرَينِ ذكرَ لهُ ما يُميِّزُها، فقيلَ: مُسكرٌ.
ولكنَّ الكلامَ في تصوُّرِهِ لمعنى المسكِرِ كالكلامِ في تصوُّرِهِ لمعنى الخمرِ فإنْ لم يعرفْ عينَ المسكِرِ وإلَّا لم يمكنْ تعريفُهُ إلَّا بنظيرِهِ فيُقالُ هوَ زوالُ العقلِ وهذا جنسٌ يشتركُ فيهِ النَّومُ والجنونُ والإغماءُ والسُّكرُ، فلا بدَّ أنْ يميِّزَ السُّكرَ، فيُقالُ: زوالُ العقلِ بما يلتذُّ بهِ ثمَّ اللَّذَّةُ لا بدَّ أنْ يكونَ قد تصوَّرَ جنسَها بالأكلِ والشُّربِ وغيرِهما.
وهذا يبيِّنُ أنَّ فائدةَ الحدودِ قد تكونُ أضعفَ مِن فائدةِ الأسماءِ؛ لأنَّها تفيدُ معرفةَ الشَّيءِ بنظيرِهِ والاسمُ يُكتفَى بهِ مَن عرفَهُ بنفسِهِ.
وحقيقةُ الأمرِ أنَّ الحدَّ هوَ أنْ تصفَ المحدودَ بما تفصلُ بهِ بينَهُ وبينَ غيرِهِ، والصِّفاتُ تفيدُ معرفةَ الموصوفِ خبرًا، وليسَ المُخبِرُ كالمُعاينِ، ولا مَن عرفَ المشهودَ عليهِ بعينِهِ كمَن عرفَهُ بصفتِهِ وحليتِهِ، فمَن عرفَ المُسمَّى بعينِهِ كانَ الاسمُ مُغنيًا لهُ عن الحدِّ كما تقدَّمَ، ومَن لم يعرفْهُ بعينِهِ لم يفدْهُ الحدُّ ما يفيدُ الاسمَ لمَن عرفَهُ بعينِهِ، إذْ الاسمُ هناكَ يدلُّ على العينِ الَّتي عرفَها بنفسِها، والحدُّ لمَن لم يعرفْ العينَ إنَّما يفيدُهُ معرفةَ النَّوعِ لا معرفةَ العينِ، كما يتصوَّرُ اللذَّةَ بشربِ الخمرِ مَن لم يشربْها قياساً على اللَّذَّةِ بالخبزِ واللَّحمِ، ومعلومٌ فرقُ ما بينَ اللَّذَّتَينِ.
وليسَ مقصودُنا أنَّ فائدةَ الحدودِ أضعفُ مطلقاً، وإنَّما المقصودُ أنَّها مِن جنسِ فائدةِ الأسماءِ وأنَّها مُذكِّرةٌ لا مصوِّرةٌ أو معرِّفةٌ بالتَّسميةِ مميِّزةٌ للمسمَّى مِن غيرِهِ أو معرِّفةٌ بالقياسِ.
وهكذا يقولُ حذَّاقُهم في تحديدِ أمورٍ كثيرةٍ قد حدَّها غيرُهم، يقولونَ: لا يمكنُ تحديدُها تحديدَ تعريفٍ لماهيَّاتِها، بل تحديدَ تنبيهٍ وتمييزٍ كما قالَ ابنُ سينا في الشِّفاءِ قالَ:
"فنقولُ: إنَّ الموجودَ والشَّيءَ والضَّروريَّ معانيها ترتسمُ في النَّفسِ ارتساماً أوَّليَّاً ليسَ ذلكَ الارتسامُ ممَّا يحتاجُ أنْ يُجلَبَ بأشياءٍ هوَ أعرفُ منها.
فإنَّهُ كما أنَّهُ في بابِ التَّصديقِ مبادئٌ أوَّليَّةٌ يقعُ التَّصديقُ بها لذاتِها ويكونُ التَّصديقُ لغيرِها بسببِها وإذا لم يخطرْ بالبالِ أو لم يُفهَمْ اللَّفظُ الدَّالُّ عليها لم يمكنْ التَّوصُّلُ إلى معرفةِ ما يُعرَفُ بها وإذا لم يكنْ التَّعريفُ الَّذي يحاولُ إخطارَها بالبالِ، أو يُفهَمُ ما يدلُّ عليها مِن الألفاظِ محاولاً لإفادةِ علمٍ ما ليسَ في الغريزةِ، بل منبِّهاً على تفهيمِ ما يريدُهُ القائلُ أو يذهبُ إليهِ، وربَّما كانَ ذلكَ بأشياءٍ هيَ في نفسِها أخفى مِن المرادِ تعريفُهُ لكنَّها لعلَّةٍ ما وعبارةٍ ما صارَتْ أعرفَ.
كذلكَ في التَّصوُّراتِ أشياءٌ هيَ مبادئٌ للتَّصوُّرِ هيَ مُتصوَّراتٌ لذاتِها، وإذا أُريدَ أنْ يدلَّ عليها لم يكنْ ذلكَ في الحقيقةِ تعريفًا لمجهولٍ بل تنبيهاً وإخطاراً بالبالِ باسمِ العلامةِ وربَّما كانَتْ في نفسِها أخفى منهُ، لكنَّها لعلَّةٍ ما وحالٍ ما تكونُ أظهرَ دلالةً، فإذا استُعملَتْ تلكَ العلامةُ، نبَّهَت النَّفسَ على إخطارِ ذلكَ المعنى بالبالِ مِن حيثُ أنَّهُ هوَ المرادُ لا غيرُهُ مِن غيرِ أنْ تكونَ العلامةُ بالحقيقةِ معلِّمةً إيَّاهُ.
ولو كانَ كلُّ تصوُّرٍ يحتاجُ إلى أنْ يسبقَهُ تصوُّرٌ قبلَهُ لذهبَ الأمرُ إلى غيرِ النِّهايةِ أو لدارَ، وأولى الأشياءِ بأنْ تكونَ مُتصوَّرةً لأنفسِها الأشياءُ العامَّةُ للأمورِ كلِّها كالموجودِ والشَّيءِ والواحدِ وغيرِهِ، ولهذا ليسَ يمكنُ أنْ يبينَ شيءٌ منها ببيانٍ لا دورَ فيهِ ألبتَّةَ أو ببيانٍ وشيءٍ أعرفُ منها.
وكذلكَ مَن حاولَ أنْ يقولَ فيها شيئاً وقعَ في اضطرابٍ كمَن يقولُ: إنَّ مِن حقيقةِ الموجودِ أنْ يكونَ فاعلاً أو منفعلاً، وهذا وإنْ كانَ ولا بدَّ فمِن أقسامِ الموجودِ، والموجودُ أعرفُ مِن الفاعلِ والمُنفعِلِ، وجمهورُ النَّاسِ يتصوَّرونَ حقيقةَ الموجودِ
– الشيخ: قفْ على هذا، وجمهور الناس، رحمَه الله.