بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الرَّد على المنطقيين) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة
الدّرس العشرون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ تعالى في كتابِ: "الردُّ على المنطقيين":
وجمهورُ الناسِ يتصوَّرونَ حقيقةَ الموجودِ ولا يعرفونَ البتَّةَ أنَّه يجبُ أنْ يكونَ فاعلاً أو منفعلاً، وأنا إلى هذهِ الغايةِ لمْ يتضحْ لي ذلكَ إلا بقياسٍ لا غيرَ، فكيفَ يكونُ حالُ مَنْ يَرُومُ أنْ يعرفَ الشيءَ الظاهرَ بصفةٍ لَه تحتاجُ إلى بيانٍ حتى يَثبتَ وجودُها لَهُ؟
وكذلكَ قولُ مَنْ قالَ: إنَّ الشيءَ هو الذي يصحُّ عنه الخبرُ، فإنَّ "يصحُّ" أخفى مِن "الشيءِ" و"الخبرُ" أخفى من "الشيء"، فكيفَ يكونُ هذا تعريفاً للشيءِ؟ وإنَّما تُعرَفُ الصحةُ ويُعرَفُ الخبرُ بعدَ أنْ يُستعمَلَ في بيانِ كلِّ واحدٍ منهما أنَّهُ "شيءٌ"، أو أنَّهُ "أمرٌ"، أو أنَّه "ما"، أو أنَّه "الذي"، وجميعُ ذلكَ كالمفرداتِ لاسمِ الشيءِ، فكيفَ يصحُّ أنْ يُعرفَ الشيءُ تعريفاً حقيقياً بما لا يعرفُ إلا بِهِ؟
نعم ربَّما كانَ في ذلكَ وأمثالِهِ تنبيهٌ مَا، وأمَّا بالحقيقةِ فإنَّكَ إذا قلتَ: "إنَّ الشيءَ هو ما يَصِحُّ أنْ يُخبرَ عنه"، تكونُ كأنَّكَ قلتَ: إنَّ الشيءَ هو الشيءُ الذي يصحُّ عنه الخبرُ، لأنَّ معنى "ما" و"الذي" و"الشيء" معنىً واحدٌ، فتكونُ قد أخذتَ الشيءَ في حَدِّ الشيءِ.
على أنَّنا لا نُنْكِرُ أنْ يقعَ بهذا وما أشبهَهُ معَ فسادِ مأخذِهِ تنبيهٌ بوجهٍ ما على الشيءِ، ونقولُ: إنَّ معنى الموجودِ ومعنى الشيءِ مُتَصَوَّرانِ في الأنفسِ، وهما معنيانِ، والموجودُ والـمـُثبَتُ والمُحصَّلُ أسماءٌ مُترادفةٌ على معنىً واحدٍ، ولا شكَّ أنَّ معناهَا قدْ حصلَ في نفسِ مَن يقرأُ هذا الكتابَ.
وكذلكَ قالَ في حَدِّ الواحدِ والكثيرِ قالَ: فصلٌ في تحقيقِ الواحدِ والكثيرِ.
– الشيخ: وكذلك قالَ؟
– القارئ: نعم، هو الكلامُ السابقُ ينقلُه مِن عندِ ابنِ سينا في الشِّفا.
– الشيخ: إي! وكذلك قال.
– القارئ: بدايةُ الفصلِ يقول: وكذلكَ يقولُ حُذَّاقُهم في تحديدِ أمورٍ كثيرةٍ قد حَدَّهَا غيرُهُم، يقولونَ: لا يمكنُ تحديدُها تحديدَ تعريفٍ لِمَاهِياتِها، بل تحديدَ تنبيهٍ وتمييزٍ، كما قالَ ابنُ سينا في الشفاءِ قالَ: ثم كذا بدأ الفصل
– الشيخ: بارك الله فيك، أحسنتَ، نعم، قل.
– القارئ: وكذلكَ قالَ في حَدِّ الواحدِ والكثيرِ قالَ: فصلٌ في تحقيقِ الواحدِ والكثيرِ.
وإبانةِ انَّ العددَ عَرَضٌ، والذي يصعبُ علينا تحقيقُهُ
– الشيخ: أن العدد عرض! اللهم لك الحمد.
– القارئ: نعم، والذي يصعبُ علينا تحقيقُهُ ماهيةُ الواحدِ وذلكَ أنَّا إذا قلنا: إنَّ الواحدَ الذي لا ينقسمُ فقدْ قلنا: إنَّ الواحدَ الذي لا يتكثَّرُ ضرورةً فأخذْنَا في بيانِ الواحدِ الكثرةِ، وأمَّا الكثرةُ فمِن الضرورةِ أنْ تُحَدَّ بالواحدِ؛ لأنَّ الواحدَ مبدأُ الكثرةِ ومنه وجودُها وماهيتُها.
ثمَّ أيُّ حَدٍّ حدَّدْنَا بِهِ الكثرةَ استعملْنَا فيهِ الواحدَ بالضرورةِ، فمِنْ ذلكَ ما نقولُ: إنَّ الكثرةَ هو المجتمِعُ مِن وِحداتٍ فقدْ أخذْنَا الوِحدةَ في حَدِّ الكثرةِ، ثمَّ عملْنَا شيئاً آخرَ: وهو أنَّا أخذْنَا المجتمِعَ في حَدِّها، والمجتمِعُ يشبهُ أنْ يكونَ هو الكثرةُ نفسُها، وإذا قلنا مِن الوِحداتِ أو الوِحْدانِ أو الآحادِ فقدْ أوردْنَا بدلَ لفظِ الجمعِ هذا اللفظَ، ولا يُفهمُ معناهُ ولا يُعرفُ إلا بالكثرةِ، وإذا قلنا: إنَّ الكثرةَ هِيَ التي تُعَدُّ بالواحدِ فنكونُ قدْ أخذْنَا في حَدِّ الكثرةِ الوِحدةِ، ونكونُ أيضاً أخذْنَا في حَدِّهَا العددَ والتقديرَ، وذلكَ إنَّما يُفهَمُ بالكثرةِ أيضاً.
فمَا أغنى علينا أنْ نقولَ في هذا البابِ شيئاً يُعْتَدُّ بِهِ، لكنَّهُ يُشبِهُ أنْ تكونَ الكثرةُ أيضاً أعرفَ عندَ تخيُّلِنَا، ويُشبهُ أنْ تكونَ الوِحدةُ والكثرةُ مِن الأمورِ التي يُتَصوَّرها بديهيًّا، فذِكْرُ الكثرةِ نتخيَّلُها أولاً والوحدةُ نعقِلُهَا مِن غيرِ مبدأٍ لتصوُّرِهَا، ثمَّ إنْ كانَ ولابدَّ فخَيَاليٌّ، ثمَّ تعريفُنَا الكَثرةَ بالوحدةِ تعريفاً عقلياً، وهنالكَ نأخذُ الوِحدةَ مُتصوَّرةً بذاتِها، ومِن أوائلِ التَّصوُّرِ يكونُ تعريفُنا الوِحدةَ بالكثرةِ تنبيهاً يُستعملُ فيه المذهبُ الخياليُّ إلى معقولٍ عندنا لا يُتصوُّرُ حاضراً في الذِّهنِ.
فاذا قالوا: إنَّ الوِحدةَ هِيَ الشيءُ الذي ليسَ فيهِ كثرةٌ دَلَّ على أنَّ المرادَ بهذهِ اللَّفظةِ الشيءُ المعقولُ عندَنا بديهيًّا الذي يُقابلُ هذا الآخرَ وليسَ هو، فيُنبَّهُ عليهِ بِسَلْبِ هذا عنهُ.
والعَجَبُ مِمَّنْ يحدِّدُ العددَ ويقولُ إنَّ العددَ
– الشيخ: يحدِّدُ ولا يَحُد؟
– القارئ: يُحدِّدُ
– الشيخ: دالين؟
– القارئ: إي، وقال في الحاشية: في نسخةٍ: "يَحُد".
– الشيخ: هذا أنسب، يَحُدُّ أنسب.
– القارئ: والعجبُ مِمَّنْ يَحُدُّ العددَ ويقولُ: إنَّ العددَ كثرةٌ مؤلفةٌ مِن وِحدةٍ أو آحادٍ، والكثرةُ نفسُ العددِ ليسَ كالجنسِ للعددُ، وحقيقةُ الكثرةِ أنَّها مؤلفةٌ مِن وِحداتٍ، فقولُهم: إنَّ الكثرةَ مؤلَّفَةٌ مِن وحداتٍ كقولهم: إنَّ الكثرةَ كثرةٌ، فإنَّ الكثرةَ ليسَتْ إلَّا اسمًا للمؤلَّفِ مِن الوحداتِ، فإنْ قالَ قائلٌ
– الشيخ: بس [فقط] قف على هذا.