بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الرَّد على المنطقيين) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة
الدّرس الثّاني والعشرون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، قالَ شيخُ الإسلامِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ "الرَّدُّ على المنطقيِّينَ":
قلْتُ ..
– الشيخ: هذا بعدَ النقلِ عن ابن سينا؟
– القارئ: نعم
قلْتُ: فهذا الكلامُ الَّذي ذكرَهُ ابنُ سينا هنا قد تلقَّوهُ عنهُ بالقبولِ كما يذكرُ مثلَ ذلكَ أبو حامدٍ والرَّازيُّ والسَّهرورديُّ وغيرُهم.
فيُقالُ: هذا الَّذي ذكرُوهُ في حدودِ هذهِ الأمورِ هوَ موجودٌ في سائرِ ما يرمونَ بيانَهُ بحدودِهم عندَ التَّدبُّرِ والتَّأمُّلِ، لكنْ منها ما هوَ بيِّنٌ لكلِّ أحدٍ كالأمورِ العامَّةِ، ومنها ما هوَ بيِّنٌ لبعضِ النَّاسِ كما يعرفُ أهلُ الصِّناعاتِ والمقالاتِ أموراً لا يعرفُها غيرُهم فحدودُها بالنِّسبةِ إلى هؤلاءِ كحدودِ تلكَ الأمورِ الَّتي يعمُّ علمُها بالنِّسبةِ إلى العمومِ، وأمَّا الأمورُ الَّتي
– الشيخ: يعني: الأشياءُ منها ما يعرفُها الخاصَّةُ والعامّةُ ومنها ما يعرفُه إلَّا المتخصِّصون، فلكلِّ علمٍ ونوعٍ من العلوم له ناسٌ، يحسنونه ويفهمون أدلَّته ويقدرون على التعبيرِ عنه.
– القارئ: وأمَّا الأمورُ الَّتي تخفى فمجرَّدُ الحدودِ لا تفيدُ تعريفَ حقيقتِها بعينِها وإنَّما تفيدُ تمييزَها ونوعاً مِن التَّعريفِ الشَّبهيِّ
– الشيخ: التبعيّ؟
– القارئ: لا، الشَّبهيِّ
– الشيخ: الشبهيّ؟
– القارئ: نعم، وهذا يتبيَّنُ بتقريرِ قاعدةٍ في ذلكَ فنقولُ:
المقولُ في جوابِ (ما هوَ)
– الشيخ: المقولُ في جوابِ (ما هو)
– القارئ: المطلوبُ تعريفُهُ بالحدِّ هوَ جوابٌ لقولِ سائلٍ قالَ: ما كذا؟
– الشيخ: أيش؟
– القارئ: المطلوبُ تعريفُهُ بالحدِّ هوَ جوابٌ لقولِ سائلٍ قالَ
– الشيخ: لقول سائلٍ؟
– القارئ: نعم.
– الشيخ: هو جوابُ
– القارئ: هوَ جوابٌ لقولِ سائلٍ قالَ: ما كذا؟
– الشيخ: ما كذا؟
– القارئ: كما يقولُ: ما الخمرُ؟ أو ما الإنسانُ؟ أو ما الثَّلجُ؟
فهذا الاسمُ المُستفهَمُ عنهُ المذكورُ في السُّؤالِ إمَّا أنْ يكونَ السَّائلُ غيرَ عالمٍ بمسمَّاهُ وإمَّا أنْ يكونَ عالماً بمسمَّاهُ.
فالأوَّلُ كالسَّائلِ عن اسمٍ في غيرِ لغتِهِ أو عن اسمٍ غريبٍ في لغتِهِ أو عن اسمٍ معروفٍ في لغتِهِ لكنَّ مقصودَهُ تحديدُ مسمَّاهُ، مثلَ: العربيِّ إذا سألَ عن معاني الأسماءِ الأعجميَّةِ، والأعجميِّ إذا سألَ عن معاني الأسماءِ العربيَّةِ، وبعضِ الأعاجمِ إذا سألَ بعضاً عن معاني الأسماءِ الَّتي تكونُ في لغةِ المسؤولِ دونَ السَّائلِ وهذا هوَ التَّرجمةُ.
فالمُترجِمُ لا بدَّ أنْ يعرفَ اللُّغتَينِ الَّتي يترجمُها والَّتي يُترجِمُ بها وإذا عرفَ أنَّ المعنى الَّذي يُقصَدُ بهذا الاسمِ في هذهِ اللُّغةِ هوَ المعنى الَّذي يُقصَدُ بهِ في اللُّغةِ الأخرى ترجمَهُ كما يترجمُ اسمَ الخبزِ والماءِ والأكلِ والشُّربِ والسَّماءِ والأرضِ واللَّيلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقمرِ ونحوِ ذلكَ مِن أسماءِ الأعيانِ والأجناسِ وما تضمَّنَتْهُ مِن الأشخاصِ سواءٌ كانَتْ مسمَّياتُها أعياناً أو معانٍ.
والتَّرجمةُ تكونُ للمفرداتِ وللكلامِ المؤلَّفِ التَّامِّ وإنْ كانَ كثيرٌ مِن التَّرجمةِ لا يأتي بحقيقةِ المعنى الَّتي في تلكَ اللُّغةِ بل بما يقاربُهُ؛ لأنَّ تلكَ المعاني قد لا تكونُ لها في اللُّغةِ الأخرى ألفاظٌ تطابقُها على الحقيقةِ، لا سيما لغةُ العربِ فإنَّ ترجمتَها في الغالبِ تقريبٌ.
– الشيخ: لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، ولهذا احتاجَ المسلمون الَّذين يدخلون الإسلامَ إلى أن يتعلَّموا العربيَّة ليفهموا، ليفهموا القرآنَ، ولكن القدر المجزئ هو ما يعرفون به، القدرُ المجزئُ ما يقيمون به عباداتهم، الفاتحةُ إذا تُرجِمتْ لهم الفاتحة وحفظُوها الحمدُ للهِ، صحَّت بذلك صلاتُهم.
– القارئ: ومِن هذا البابِ ذكرُ غريبِ القرآنِ والحديثِ وغيرِهما، بل وتفسيرُ القرآنِ وغيرِهِ مِن سائرِ أنواعِ الكلامِ وهوَ في أوَّلِ درجاتِهِ مِن هذا البابِ، فإنَّ المقصودَ ذكرُ مرادِ المتكلِّمِ بتلكَ الأسماءِ أو بذلكَ الكلامِ.
وهذا الحدُّ هم متَّفقونَ على أنَّهُ مِن الحدودِ اللَّفظيَّةِ معَ أنَّ هذا هوَ الَّذي يُحتاجُ إليهِ في إقراءِ العلومِ المصنَّفةِ بل في قراءةِ جميعِ الكتبِ بل في جميعِ أنواعِ المخاطباتِ، فإنَّ مَن قرأَ كتبَ النَّحوِ والطِّبِّ أو غيرِهما لا بدَّ أنْ يعرفَ مرادَ أصحابِها بتلكَ الأسماءِ ويعرفَ مرادَهم بالكلامِ المؤلَّفِ وكذلكَ مَن قرأَ كتبَ الفقهِ والكلامِ والفلسفةِ وغيرِ ذلكَ.
وهذهِ الحدودُ معرفتُها مِن الدِّينِ في كلِّ لفظٍ هوَ في كتابِ اللهِ تعالى وسنَّةِ رسولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ثمَّ قد تكونُ معرفتُها فرضَ عينٍ وقد تكونُ فرضَ كفايةٍ، ولهذا ذمَّ اللهُ تعالى مَن لم يعرفْ هذهِ الحدودَ بقولِهِ تعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97] والَّذي أنزلَهُ على رسولِهِ فيهِ ما قد يكونُ الاسمُ غريباً بالنِّسبةِ إلى المستمعِ كلفظِ: "ضيزى وقسورةَ وعسعسَ" وأمثالِ ذلكَ
– الشيخ: أيش؟ كمثلِ؟
– القارئ: كلفظِ "ضيزى"
– الشيخ: أيش؟
– طالب: قسمةٌ ضيزى، ضيزى
– الشيخ: ضيزى أي
– القارئ: وقسورة
– الشيخ: نعم، وعسعسَ
– القارئ: وقد يكونُ مشهوراً لكنْ لا يُعلَمُ حدُّهُ بل يُعلَمُ معناهُ على سبيلِ الإجمالِ كاسمِ الصَّلواتِ والزَّكواتِ والصِّيامِ والحجِّ فإنَّ هذهِ
– الشيخ: صلوات ولا صلاة؟ صلاة وزكاة
– القارئ: عندي الصلوات
– الشيخ: نعم بعده
– القارئ: فإنَّ هذهِ وإنْ كانَ جمهورُ المخاطَبِينَ يعلمونَ معناها على سبيلِ الإجمالِ فلا يعلمونَ مسمَّاها على سبيلِ التَّحديدِ الجامعِ المانعِ إلَّا مِن جهةِ الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهيَ الَّتي يُقالُ لها: الأسماءُ الشَّرعيَّةُ.
كما إذا قيلَ: صلاةُ الجنازةِ وسجدةُ السهوِ وسجودُ الشُّكرِ والطَّوافُ، هل تدخلُ في مسمَّى الصَّلاةِ في قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مفتاحُ الصَّلاةِ الطَّهورُ، وتحريمُها التَّكبيرُ، وتحليلُها التَّسليمُ)؟ فقيلَ: هل كلُّ ذلكَ صلاةٌ تجبُ فيها الطَّهارةُ؟ وهل لا تجبُ الطَّهارةُ لمثلِ ذلكَ؟ فهل تجبُ لما تحريمُهُ التَّكبيرُ وتحليلُهُ التَّسليمُ وهيَ كصلاةِ الجنازةِ وسجدِ السهوِ دونَ الطَّوافِ وسجودِ التِّلاوةِ؟
وكذلكَ اسمُ الخمرِ والرِّبا والميسرِ ونحوِ ذلكَ يُعلَمُ أشياءٌ مِن مسمَّياتِها ومنها ما لا يُعلَمُ إلَّا ببيانٍ آخرَ، فإنَّهُ قد يكونُ الشَّيءُ داخلاً في اسمِ الرِّبا والميسرِ، والإنسانُ لا يعلمُ ذلكَ إلَّا بدليلٍ يدلُّ على ذلكَ شرعيٍّ أو غيرِهِ.
ومِن هذا قولُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لمَّا سُئِلَ عن حدِّ الغيبةِ فقالَ: (ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ)
– الشيخ: لعلَّك تقفُ على هذا .