بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (تحفة المودود في أحكام المولود) للإمام ابن القيّم
الدّرس السّادس والثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، اللَّهم اغفرْ لنا ولشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ، قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ "تحفةُ المودودِ بأحكامِ المولودِ"، في تتمَّةِ الفصلِ الثَّاني في ذكرِ ختانِ إبراهيمَ الخليلِ والأنبياءِ بعدَهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعليهم أجمعينَ-، قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى:
والختانُ كَانَ من الْخِصَالِ الَّتِي ابتلى اللهُ سُبْحَانَهُ بهَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ فأتمّهن وأكملهنَّ فَجعلهُ إِمَامًا للنَّاسِ، وَقد روى أَنه أوَّلُ من اختتنَ كَمَا تقدَّمَ، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ: "اختتنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سنةٍ"، وَاسْتمرَّ الْخِتَانُ بعدَهُ فِي الرُّسُلِ وأتباعهم حَتَّى فِي الْمَسِيحِ، فَإنَّهُ اختتنَ وَالنَّصَارَى تقرُّ بذلكَ وَلَا تجحدُهُ، كَمَا تقرُّ بِأَنَّهُ حرَّمَ لحمَ الْخِنْزِيرِ وَحرَّمَ كسبَ السبتِ وَصلى إِلَى الصَّخْرَةِ وَلم يصمْ خمسينَ يَوْمًا، وَهُوَ الصّيامُ الَّذِي يسمونه "الصَّوْمُ الْكَبِير"ُ.
وَفِي جَامعِ التِّرْمِذِيِّ ومسندِ الإِمَامِ أَحْمدَ مِن حَدِيثِ أبي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم–.
– الشيخ: هذا من بدعِ النصارى لهم صيامٌ يسمُّونَهُ الصومُ الكبيرُ يتحرّونَ فيه أوقاتاً معلومةً يخصُّونها في أيَّام الشتاءِ ويستقبلونَ الشرقَ، هذا ممّا أحدثُوه في دينِهم، وهم بهذا قد خالفُوا نبيَّهم الَّذي غلَوا فيهِ حتّى ألَّهوهُ من دونِ اللهِ، فالنصارى ضالّونَ كما وصفَهم اللهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ[المائدة:77]
– القارئ: وَفِي جَامعِ التِّرْمِذِيِّ ومسندِ الإِمَامِ أَحْمدَ مِن حَدِيثِ أبي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ-: "أَربعٌ من سُننِ الْمُرْسلينَ الْحيَاءُ والتّعطرُ والسواكُ وَالنِّكَاحُ".
– الشيخ: الحياءُ، هذا الّذي جاء فيه بعضِهم يقولُ الحناء.
– القارئ: نعم، قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حسنٌ غَرِيبٌ، وَاخْتلفَ فِي ضَبطِهِ فَقَالَ بَعضُهم: الْحيَاءُ بِالْيَاءِ وَالْمدِّ وَقَالَ بَعضُهم الْحِنَّاءُ بالنُّونِ.
وَسمعتُ شَيخنا أَبَا الْحجَّاجِ الْحَافِظَ الْمزيَّ يَقُولُ: وَكِلَاهُمَا غلطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْخِتَانُ، فَوَقَعتْ النُّونُ فِي الْهَامِشِ فَذَهَبَتْ، فَاخْتلفَ فِي اللَّفْظَةِ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْمحَامِلِي عَن الشَّيْخِ الَّذِي روى عَنهُ التِّرْمِذِيُّ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ: الْخِتَانُ، قَالَ: وَهَذَا أولى من الْحيَاءِ والحناءِ، فَإِنَّ الْحيَاءَ خلقٌ والحناءُ لَيْسَ من السّننِ وَلَا ذكرَهُ النَّبِيُّ –صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ- فِي خِصَالِ الْفطْرَةِ وَلَا ندبَ إليهِ، بِخِلَافِ الْخِتَانِ.
فصلٌ فِي ختانِ الرَّجلِ نَفسَهُ بِيَدِهِ.
– الشيخ: لا إله إلّا الله، نعم.
– القارئ: قَالَ الْمَرُّوذيُّ: سُئِلَ أَبُو عبدِ اللهِ عَن الرَّجلِ
– طالب: عندنا المروزيّ.
– الشيخ: لا المشهور كذا الْمَرُّوذيّ، نعم.
– القارئ: سُئِلَ أَبُو عبدِ اللهِ عَن الرَّجلِ يختنُ نَفسه فَقَالَ: إِنْ قويَ.
– الشيخ: أي يعني أقول، يعني قوي هو فلا بأسَ، نعم.
– القارئ: وَقَالَ الْخلَّالُ: أَخْبرَنِي عبدُ الْكَرِيمِ بنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عبدِ اللهِ وَسُئِلَ عَن الرَّجلِ يختنُ نَفسهُ، فقَالَ: إِنْ قويَ على ذَلِكَ.
وقَالَ: وَأَخْبرَنِي مُحَمَّدُ بنُ هَارُونَ أَنَّ إِسْحَاقَ حَدَّثَهمْ أَنَّ أَبَا عبدِ اللهِ سُئِلَ عَن الْمَرْأَةِ يدْخلُ عَلَيْهَا زَوجها ولم تختتنْ، يجبُ عَلَيْهَا الْخِتَانُ؟ فَقَالَ: الْخِتَانُ سنةٌ حَسَنَةٌ.
– الشيخ: في النساءِ يعني هذا، نعم.
– القارئ: وَذكرَ نَحْوَ مَسْأَلَةِ الْمَرُّوذيِّ فِي ختانِ نَفسها قيلَ لَهُ: فَإِنْ قويتْ على ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا أحْسنهُ!، وَسُئِلَ عَن الرَّجلِ يختنُ نَفسهُ، قَالَ: إِذا قويَ عَلَيْهِ فَهُوَ حسنٌ وَهِو سنةٌ حَسَنَةٌ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مشروعيته وَأَنه من خِصَالِ الْفطْرَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ –صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "الْفطْرَةُ خمسٌ: الْخِتَانُ والاستحدادُ وقصُّ الشَّارِبِ وتقليمُ الأظافرِ ونتفُ الْإِبِطِ".
فَجعلَ الْخِتَانَ رَأسَ خِصَالِ الْفطْرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ مِن الْفطْرَةِ لِأَنَّ الْفطْرَةَ هِيَ الحنيفيَّةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ أَمرَ بهَا إِبْرَاهِيمُ، وَهِيَ مِن الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابتلاهُ ربُّهُ بِهنَّ،كَمَا ذكرَ عبدُ الرَّزَّاقِ عَن معمرٍ عَن ابنِ طَاووسٍ عَن أَبِيهِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: ابتلاهُ بِالطَّهَارَةِ خمسٌ فِي الرَّأْسِ وَخمْسٌ فِي الْجَسَدِ، خمسٌ فِي الرَّأْسِ: قصُّ الشَّارِبِ والمضمضةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ والسِّواكُ وَفرقُ الرَّأْسِ، وَفِي الْجَسَدِ: تقليمُ الأظافرِ وَحلقُ الْعَانَةِ والختانُ ونتفُ الْإِبِطِ وَغسلُ أثرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ.
والفطرةُ فطرتانِ: فطْرَةٌ تتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ وَهِيَ معرفَةُ اللهِ ومحبَّتُهُ وإيثارُهُ على مَا سواهُ، وفطرةٌ عمليَّةٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخِصَالُ، فَالْأولى تزكّي الرّوحَ وتطهِّرُ الْقلبَ، وَالثَّانيِةُ تُطهِّرُ الْبدنَ، وكلٌّ مِنْهُمَا تمدُّ الْأُخْرَى وتقوّيها، وَكَانَ رَأسُ فطْرَةِ الْبدنِ الْخِتَانَ، لما سَنذكرُهُ فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
وَفِي مُسْندِ الإِمَامِ أَحْمدَ مِن حَدِيثِ عمارِ بنِ يَاسرٍ –رَضِي اللهُ عَنهُ– قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ-: "من الْفطْرَةِ أَو الْفطْرَةُ: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وقصُّ الشَّارِبِ والسواكُ وتقليمُ الأظافرِ وَغسلُ البراجمِ ونتفُ الْإِبِطِ والاستحدادُ والاختتانُ والانتضاحُ".
وَقدْ اشتركت خِصَالُ الْفطْرَةِ فِي الطَّهَارَةِ والنّظافةِ وَأخذِ الفضلاتِ المستقذرةِ الَّتِي يألفُها الشَّيْطَانُ ويجاورُها مِن بني آدمَ، وَلهُ بالغرلةِ.
– الشيخ: وقد زيَّنَ الشيطانُ للنساءِ بالتشبُّهِ بعوائدِ الكفارِ حتّى صرْنَ يشتريْنَ أظفاراً يركِّبْنَها، بدلَ تقليمِ الأظفارِ تركِّبُ أظفاراً، سبحانَ اللهِ إنّه لعجبٌ! كيفَ الشيطانُ يزيّنُ للإنسانِ؟ هذا فيه يعني تشويه الخلقة، الآن الإنسانُ إذا تركَ أظفارَه أصبحَتْ أظفاره طويلةً له شبهٌ بالحيواناتِ الجارحةِ الّتي يعني تستعمل أظفارها في صيدِها وفي الدفاعِ عن نفسِها، سبحانَ اللهِ.
تركيبُ الأظفارِ منكرٌ لأنّها مضادَّةٌ مضادَّةٌ للفطرةِ.
– القارئ: عفا اللهُ عنكَ، وَقد اشتركَتْ خِصَالٌ فِي الطَّهَارَةِ والنَّظافةِ وَأخذِ الفضلاتِ المُستقذرَةِ الَّتِي يألفُها الشَّيْطَانُ ويجاورُها مِن بني آدمَ، وَلهُ بالغرلةِ اتِّصَالٌ واختصاصٌ ستقفُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
وَقَالَ غيرُ وَاحِدٍ مِن السّلفِ: مَن صلَّى وَحجَّ واختتنَ فَهُوَ حنيفٌ، فالحجُّ والختانُ شعارُ الحنيفيَّةِ، وَهِيَ فطْرَةُ اللهِ الَّتِي فطرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.
قَالَ الرَّاعِي يُخَاطبُ أَبَا بكرٍ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
أخليفةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا معشــــرٌ حنفَاءُ نسجدُ بكرَةً وَأَصِيلاً
عــربٌ نـرى للهِ فِي أَمْوَالنــا حـــقّ الزَّكــاةِ منزَّلاً تَنْزِيـلا
الفصلُ الرَّابعُ.
– الشيخ: حسبُك، نعم يا محمّد.