بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
للشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصرالسّعدي
الدَّرس الخامس عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرِين والمُستمعِين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ بن ناصرٍ السعدي -رحمَه الله تعالى وأسكنَه فسيحَ جنَّاتِه- في كتابه "فتحُ الرحيمِ الملكِ العلَّامِ في علمِ العقائدِ والتوحيدِ والأخلاقِ والأحكامِ المُستنبطَة من القرآن" قال -رحمه الله-:
العفوُّ، الغفورُ، الغفَّارُ، التوَّابُ
– الشيخ: اللهُ أكبر، الله أكبر، هذه أربعة ُأسماءٍ؛ العفوُّ والغفورُ والغفَّاُر والتوابُ: كلُّ هذه الأسماء تدلُّ على كمالِ رحمتِه بالعبادِ، فالعفوّ:ُ يتضمَّنُ مدلولُه المُسامحةَ، وإزالةَ الذنبِ والغفرَ والمغفرة، فيه الستر، وقد يجمعُ اللهُ بين الاسمين، وهو "العفوُّ الغفورُ" كذا، يجمع بين الاسمين في القرآن، العفوُّ والغفورُ، فالعفوُّ هو تركُ المُؤاخذةِ، والمغفرةِ والسَّترِ، والمغفرة تتضمنُ، فإذا أُفرِدَ ذِكرُ المغفرة تضمَّنَت معنى العفو، وكلٌّ من الاسمَين يتضمَّنُ معنى الآخر، إذا أُفردَ.
"والغفورُ والغفَّارُ": صيغتان تدلَّان على الكثرةِ، كثرةِ المغفرة، وسعةِ المغفرة، ومن أسمائِه "غافرُ الذَّنبِ وقابلُ التوبِ" -سبحانه وتعالى- وهو "التوَّابُ"، توَّابٌ كثيرُ التوب على العبادِ، وهذه الأسماءُ من البواعثِ على الرجاء، يعني عِلْمَ العبدِ بها وأنَّ الله عفوٌّ وغفورٌ وكريمٌ وأنه غفَّارٌ وتوابٌ. هذا يفتح عليه بابَ الرجاء بربِّه، فلا ييأسُ من مغفرتِه، ولا يقنطُ من رحمتِه.
– القارئ: العَفْوُ والمغفرةُ من لوازمِ ذاتِه لا يكونُ إلا كذلك
– الشيخ: اصبر
– القارئ: ولا تزالُ
– الشيخ: اصبر اصبر، من لوازم ذاتِه يقول: أنَّها صفةٌ ذاتيةٌ، فمعناها الكُلِّي هو من لوازمِه، هو عفوٌّ لكن تعلُّقَه بالمعفوِّ عنه هذا يكون بمشيئتِه، فهو عفوٌّ، من صفاته: "العفوُّ" صفةٌ ذاتية، لكن حصولَ العفوِ لمُعيَّنٍ هذا يكون بمشيئتِه، يغفرُ لمن يشاءُ، ويُعذِّبُ من يشاء، يغفر لمن يشاءُ، كذلك يعفو عمَّن شاءَ، يعفو عمَّن شاءَ، أمَّا كونه عفُوًَّا وأنَّ من صفاتِه العفوُّ فهذا أمرٌ كما قالَ الشيخُ: "من لوازمِ ذاتِه"، من لوازم ذاته يعني لم يصِر عفُوَّا بعد أنْ لم يكن، ولم يستحقَّ هذا الاسمَ بعدما عفَا عن بعضِ العباد –صار-، لا، هذا اسمُه، لم يزلْ موصوفًا ولم يزل اسمُه "العفو".
– القارئ: العَفْوُ والمغفرةُ من لوازمِ ذاتِه لا يكونُ إلَّا كذلك، ولا تزالُ أثارُ ذلكَ ومُتعلقاُتهُ تشملُ الخليقةَ آناءَ الليلِ والنهارِ، فعفوُه ومغفرتُه وسعَت المخلوقات والذنوبَ والجرائمَ.
والتقصيرُ الواقعُ من الخَلْقِ يقتضي العقوباتِ المُتنوِّعةَ، ولكنَّ عفوَ الله ومغفرتَه تدفعُ هذه المُوجَبَات والعُقوبات، فلو
– الشيخ: يعني عمَّن شاءَ، هو يغفرُ لمن يشاءُ ويُعذِّبُ من يشاءُ، يغفرُ لمن يشاء ويرحمُ من يشاء ويُعذِّبُ من شاء، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:41 -45]
– القارئ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وعفوُه تعالى نوعان:
عفوُه العامُّ عن جميعَ المُجرمَين من الكفارَ وغيرَهم، بدفعَ العقوباتَ المُنعقدِةِ أسبابُها والمُقتضيةِ لقطعِ النِّعمِ عنهم، فهُم يُؤذُونه بالسبِّ والشِّركِ وغيرِها من أصنافِ المُخالفات، وهو يُعافيهم ويرزقُهم ويُدِرُّ عليهم النِّعمَ الظاهرةَ والباطنةَ، وبسطَ لهم الدُّنيا، ويُعطيهم من نعيمِها ومنافعِها، ويُمهلُهم ولا يُهملُهم بعفوِه وحلمِه.
والنوعُ الثاني: عفوُه الخاصُّ ومغفرتُه الخاصَّةُ للتائبين والمُستغفرين، والدَّاعين والعابدِين، والمُصابين بالمصائبِ المُحتسبِين، فكلُّ من تابَ إليه توبةً نصوحًا وهي الخالصةُ لوجهِ الله، العامةُ الشاملةُ التي لا يصحبُها تردُّدٌ ولا إصرارٌ، فإنَّ الله يغفرُ له من أيِّ ذنبٍ كان، من كفرٍ وفسوقٍ وعصيانٍ، وكلُّها داخلةٌ في قوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا[الزمر:53]
وقد تواتَرَتِ النصوصُ من الكتابِ والسنةِ في قبولِ توبةِ اللهِ من عبادِه من أيِّ ذنبُ يكونُ.
وكذلكَ الاستغفارُ المُجرَّدُ يحصلُ به من مغفرةِ الذنوبِ والسيئاتِ بحسبِه
– الشيخ: يعني الاستغفارُ المُجرَّدُ عن التوبة، أما إذا اقترنَ بالتوبة فهذا لا ريبَ في حصولِ المغفرةِ، لكنَّ الاستغفارَ المُجرَّدَ عن التوبةِ يكون سببًا لمغفرة ما شاءَ اللهُ من الذنوبِ، فأسبابُ المغفرة مُتعدِّدةٌ أعظمُها وأوسعُها وأتمُّها التوبةُ، التوبةُ النصوحُ بشروطِها، ثم تأتي بقيةُ أسبابِ تكفيرِ الذنوبِ، منها الاستغفارُ، منها المصائبُ المُكفِّرةُ، ومنها الدعاءُ -دعاءُ المؤمنينَ بعضهم لبعض-.
– القارئ: وكذلكَ فعلُ الحسناتِ، والأعمالُ الصالحةِ تُكفَّرُ بها الخطَايا، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]
وقد وردَت أحاديثُ كثيرةٌ في تكفيرِ كثيرٍ من الأعمالِ للسيِّئَاتِ مع اقتضائِها لزيادةِ الحسناتِ والدرجاتِ، كما وردَت نصوصٌ كثيرةٌ في تكفيرِ المصائبِ للسيِّئاتِ، خصوصًا الذي يحتسبُ ثوابَها ويقومُ بوظيفةِ الصبرِ أو الرِّضا، فإنَّه يحصلُ له التكفيرُ من جهتَين: من جهةِ نفسِ المُصيبةِ وألمِها القلبيِّ والبدنيِّ، ومن جهةِ مُقابلةِ العبدِ لها بالصَّبرِ والرِّضا اللَّذين هُما من أعظمِ أعمالِ القلوبِ، فإنَّ أعمالَ القلوبِ في تكفيرِها السيِّئاتِ أعظمُ من أعمالِ الأبدانِ.
وَاعلمْ أنَّ توبةَ اللهِ على عبدِه تتقدَّمُها توبةٌ منه عليه، حيثُ أذنَ له ووفَّقه وحرَّك دواعيَ قلبِه لذلكَ، حتى قامَ بالتوبةِ توفيقًا من اللهِ، ثمَّ لمَّا تابَ بالفعلِ تابَ اللهُ عليه فقبِلَ توبتَه، وعفا عن خطاياه وذنوبِه، وكلُّ الأعمالِ الصالحةِ بهذه المثابةِ، فاللهُ هو الذي ألهمَها للعبدِ وحرَّكَ دواعِيه لفعلِها وهيَّأَ له أسبابَه، وصرفَ عنه موانعَها، واللهُ –تعالى- هو الذي يتقبَّلُها منه ويُثيبُه عليها أفضلَ الثوابِ، فعلى العبدِ أن يعلمَ أنَّ اللهَ هو الأولُ الآخرُ، وأنَّهُ المُبتدِئُ بالإحسانِ والنِّعمِ، المُتفضِّلُ بالجودِ والكرمِ، بالأسبابِ والمُسبِّباتِ، بالوسائلِ والمقاصدِ.
ومن أخصِّ أسبابِ العفوِ والمغفرةِ أنَّ اللهَ يُجازي عبدَه بما فعلَه العبدُ مع عبادِ اللهِ، فمنْ عفا عنهم عفَا اللهُ عنه، ومن غفرَ لهم إساءَتَهم إليه، وتغاضى عن هفواتِهم نحوَه غفرَ له، ومن سامحَهم سامحَه اللهُ.
ومن أسبابِه التوسُّلُ إلى اللهِ بصفاتِ عفوِه ومغفرتِه كقولِ العبدِ: "اللهمَّ إنَّك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي، يا واسعَ المغفرةِ اغفرْ لي، اللهمَّ اغفرْ لي وارحمْني إنَّك أنتَ العفوُّ الغفورُ.
ثمَّ قالَ -رحمَه الله-:
العليُّ الأعلى
– الشيخ: حسبُك، نعم يا محمد.
– القارئ: أحسنَ الله إليكم، هل يُقال أنَّ الإنسانَ يدعو بأنَّ اللهَ يُوفِّقُه للتوبةِ ويقبلُها منه؟
– الشيخ: أي، يقولُ: اللهم وفِّقْني للتوبةِ، أو يقولَ: اللهم تُبْ عليَّ؛ يشملُ المعنيِّينَ التوفيقَ والقبولَ .