بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
للشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصرالسّعدي
الدَّرس الثّامن عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصرٍ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- وأسكنَهُ فسيحَ جنانِهِ في كتابِهِ "فتحُ الرَّحيمِ الملكِ العلَّامِ في علمِ العقائدِ والتَّوحيدِ والأخلاقِ والأحكامِ المُستنبَطةِ مِن القرآنِ" قالَ رحمَهُ اللهُ:
الفتَّاحُ
– الشيخ: لا إله إلَّا الله، من أسماءِ الله الفتَّاح، والفتحُ الَّذي وصفَ اللهُ به نفسَه يأتي على وجهين واللهُ أعلمُ: الفتحُ بما يسوقُه من الخيرِ والرحمةِ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ والثاني: هو الفتحُ بينَ الرُّسلِ وأممِهم بالفصل والحكم، بإهلاكِ المكذِّبين ونصرِ المؤمنين الموحِّدين من الرسل، من المؤمنين والنبيِّين.
– القارئ: قالَ رحمَهُ اللهُ:
للفتَّاحِ معنيَانِ:
أحدُهما: يرجعُ إلى معنى الحُكمِ الَّذي يفتحُ بينَ عبادِهِ
– الشيخ: يحكمُ به بينَ عبادِه ويفصلُ به بين المختلفينَ
– القارئ: ويحكمُ بينَهم بشرعِهِ، ويحكمُ بينَهم بإثابةِ الطَّائعينَ وعقوبةِ العاصينَ في الدُّنيا والآخرةِ، كقولِهِ تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26] رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89] فالآيةُ الأولى فتحُهُ بينَ العبادِ يومَ القيامةِ، وهذا في الدُّنيا بأنْ ينصرَ الحقَّ وأهلَهُ، ويُذلَّ الباطلَ وأهلَهُ، ويوقعَ بهم العقوباتِ.
المعنى الثَّاني: فتحُهُ لعبادِهِ جميعَ أبوابِ الخيراتِ. قالَ تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2] الآيةُ. يفتحُ لعبادِهِ منافعَ الدُّنيا والدِّينِ، فيفتحُ لمن اختصَّهم بلطفِهِ وعنايتِهِ أقفالَ القلوبِ، ويُدِرُّ عليها مِن المعارفِ الرَّبَّانيَّةِ والحقائقِ الإيمانيَّةِ ما يُصلِحُ أحوالَها وتستقيمُ بها على الصِّراطِ المستقيمِ، وأخصُّ مِن ذلكَ أنَّهُ يفتحُ لأربابِ محبَّتِهِ والإقبالِ عليهِ علومًا ربَّانيَّةً، وأحوالاً روحانيَّةً، وأنوارًا ساطعةً، وفهومًا وأذواقًا صادقةً.
ويفتحُ أيضًا لعبادِهِ أبوابَ الأرزاقِ وطرقَ الأسبابِ، ويهيِّئُ للمتَّقينَ مِن الأرزاقِ وأسبابِها ما لا يحتسبونَ، ويعطي المتوكِّلينَ فوقَ ما يطلبونَ ويؤمِّلونَ، وييسِّرُ لهم الأمورَ العسيرةَ، ويفتحُ لهم الأبوابَ المغلقةَ.
ثمَّ قالَ رحمَهُ اللهُ: الرزَّاقُ
– الشيخ: نعم هكذا الرزَّاق أيضاً، اسمٌ من أسمائه، وردَ في سورةِ الذارياِت: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ [الذاريات:58] وقالَ: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72] وهذه الصيغةُ تدلُّ على الكثرةِ، كثرةُ الرِّزقِ، وهو يشملُ كلَّ أنواعِ الرزقِ الدِّينيَّة والدنيويَّةِ، والرزَّاقُ هو الَّذي يرزقُ مَن شاءَ ما شاءَ، يرزقُ مَن شاءَ مالاً ومن شاءَ علماً ومن شاءَ ولداً ومن شاءَ جاهاً وهكذا، فكلُّ ما يحصلُ للإنسان من رزقٍ، بل كلُّ ما يحصل لمخلوقٍ من رزقٍ فهو منه تعالى، وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] فاسمُه الرزَّاقُ شاملٌ لرَزقِه الناس والجن والإنس، ورزقه كذلك للبهائمِ، هو الرزَّاقُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]
– القارئ: الرَّزَّاقُ: الَّذي تكفَّلَ بأرزاقِ المخلوقاتِ كلِّها، وأوصلَ إليها أرزاقَها ومعاشَها، وعلمَ أحوالَها وأماكنَها وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6] يبسطُ الرِّزقَ لمَن يشاءُ ويقدِّرُ، وقد هيَّأَ لعبادِهِ في الأرضِ جميعَ الأرزاقِ.
قالَ تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:25-32]
واللهُ تعالى هوَ الرَّزَّاقُ الَّذي يرزقُ قلوبَ خيارِ المؤمنينَ مِن العلومِ والمعارفِ وحقائقِ الإيمانِ، ما تتغذَّى بهِ وتنمو وتكملُ، ويرزقُ الحيواناتِ كلَّها مِن أصنافِ الأغذيةِ ما تتغذَّى بهِ وتنمو نموَّها اللَّائقَ بها. فينبغي للعبدِ إذا سألَ اللهَ الرِّزقَ أنْ يستحضرَ الأمرَينِ بأنْ يرزقَهُ رزقًا حلالاً واسعًا ويرزقَ قلبَهُ العلمَ والإيمانَ والعرفانَ.
ورزقُهُ لعبادِهِ أيضًا نوعانِ:
نوعٌ لهُ سببٌ، كما جعلَ اللهُ الحراثةَ والتِّجارةَ والصِّناعةَ وتنميةَ المواشي والخدمةَ ونحوَها طرقًا يرتزقُ بها جمهورُ النَّاسِ. قالَ تعالى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ [الحجر:20] أي: أسبابًا ترتزقونَ بها.
ونوعٌ يرزقُ اللهُ بهِ عبدَهُ بغيرِ سببٍ منهُ، كأنْ يقيِّضَ اللهُ لهُ رزقًا قدريًّا سماويًّا محضًا، أو على يدِ غيرِهِ مِن غيرِ أنْ يكونَ مِن المسترزقِ سعيٌ في ذلكَ، لأجلِ الاحترازِ عن السُّؤالِ فإنَّهُ مِن جملةِ الحِرَفِ..
– الشيخ: … السؤالُ حرفة … حرفتُه السؤالُ، سؤالُ الناسِ، وهي من أخسِّ الحرف لأنَّ فيها مذلَّةً، ولا يحلُّ لإنسانٍ أن يسألَ الناس، (مَن يسألْ النَّاسَ أموالَهم تكُّثراً فكأنَّما يسألُ جمراً) ولا تزالُ المسألةُ بالإنسان حتَّى يأتيَ يومَ القيامةِ وليسَ في وجهِه مُزعةُ لحمٍ عقوبةً لهُ.
– القارئ: ولأجلِ الاحترازِ عمَّن تجبُ نفقتُهُ عليهِ مِن زوجٍ أو قريبٍ أو سيِّدٍ أو مالكٍ، فإنَّ هذهِ إمَّا عن عملِ الإنسانِ -يعني مِن آثارِ عملِهِ- وإمَّا أنْ يكونَ تابعًا لغيرِهِ.
ولكنْ نريدُ أنَّهُ يوجدُ بعضُ المخلوقاتِ لا شيءَ عندَها، ولا عملَ لها ولاسعيَ منها، إمَّا عاجزةٌ عجزًا كليًّا، أو كسلانةٌ عن طلبِ معيشتِها. واللهُ تعالى قد قدَّرَ لها مِن ألطافِ رزقِهِ ما تستغني بهِ مِن وجوهٍ لا تحتسبُها وطرقٍ لا ترتقبُها، وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60]
ومِن لطائفِ رزقِهِ أنَّهُ قد يردُ على الإنسانِ العاجزِ عن إدراكِ رزقِهِ قوَّةُ حالٍ وقوَّةُ توكُّلٍ، ييسِّرُ اللهُ لهُ بسببِها رزقًا عاجلاً، وقد يأتيهِ ذلكَ بدعوةٍ مستجابةٍ وخصوصًا عندَ الاضطرارِ، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]
فكما أنَّ الباري إذا رأى عبدَهُ مضطرًّا إلى كفايتِهِ، منقطعًا تعلقُهُ بغيرِهِ أجابَ دعوتَهُ وفرَّجَ كربتَهُ، فكذلكَ المضطرُّ إلى طعامٍ أو شرابٍ متى وصلَ إلى حالةٍ ييأسُ فيها مِن كلِّ أحدٍ ويوقنُ بالهلاكِ، أتاهُ مِن رزقِ ربِّهِ وألطافِهِ ما بهِ يعرفُ غايةَ المعرفةِ أنَّ اللهَ هوَ المرجوُّ وحدَهُ لكشفِ الشَّدائِدِ والكروبِ، فكم مِن الوقائعِ الكثيرةِ في هذا البابِ الدَّالَّةِ على لطفِ الملكِ الوهَّابِ.
ومِن ألطافِ رزقِهِ أنَّ كثيرًا مِن المرضى يبقونَ مدَّةً طويلةً لا يتناولونَ طعامًا ولا شرابًا، واللهُ تعالى يعينُهم على تماسكِ أبدانِهم فضلاً منهُ وكرمًا، ولو بقيَ الصَّحيحُ بعضَ هذهِ المدَّةِ عن الطَّعامِ والشَّرابِ لهلكَ.
ومِن لطائفِ رزقِهِ أنَّ الأجنَّةَ في بطونِ الأمَّهاتِ جعلَ غذاءَها في أرحامِ الأمَّهاتِ بالدَّمِ الَّذي يجري معَ عروقِها، لأنَّها لا تحملُ غذاءً تأكلُهُ وتشربُهُ، ولو فُرِضَ ذلكَ لأضرَّ بهِ في الرَّحمِ، وأضرَّ بأمِّهِ بما يخرجُ منهُ مِن الفضلاتِ، ثمَّ لمَّا وضعَتْ الحواملُ أولادَها وكانَ مِن ضعفِهِ لا يتحمَّلُ الأغذيةَ العاديَّةَ، أجرى لهُ الباري مِن ثديي أمِّهِ لبنًا لطيفًا سائغًا للشَّاربينَ، فيهِ الغذاءُ الطَّعاميُّ والغذاءُ الشَّرابيُّ، فلم يزلْ كذلكَ حتَّى يقوى على تناولِ الأطعمةِ الغليظةِ.
وكذلكَ لمَّا كانَ في حالِ وضعِهِ غيرُ مقتدرٍ على مباشرةِ ذلكَ بنفسِهِ، حنَّنَ اللهُ الأمَّهاتِ مِن الآدميِّينَ والحيواناتِ، وأوقعَ في قلوبِها الرَّحمةَ العظيمةَ والرِّقةَ على أولادِها، فأعانَتْ أولادَها على تناوُلِ الأرزاقِ والأغذيةِ. فتباركَ اللهُ اللَّطيفُ الخبيرُ.
وتنوُّعُ الأرزاقِ وكثرة ُفنونِها لا يحصيها وصفُ الواصفِينَ، ولا تحيطُ بها عبارةُ المعبَّرينَ.
ثمَّ قالَ رحمَهُ اللهُ: الواحدُ الأحدُ الفردُ..
– الشيخ: حسبُك، الله المستعانُ، لا إله إلَّا الله، على كلٍّ الشيخُ يبيِّنُ تفصيلاً شمولَ اسمه الرزَّاق، الرزَّاق، ومن أسمائه الرازق أو خيرُ الرازقين، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة:3] ما ينفقُ الإنسانُ هو بعض ما أعطاه اللهُ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ولم يكلِّف اللهُ الناسَ بإخراج أموالهم، وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] نعم إلى هنا .