بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
للشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصرالسّعدي
الدَّرس العشرون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنَا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعدي رحمَه اللهُ تعالى وأسكنَهُ فسيحَ جناتِهِ
– الشيخ: آمين، اللهمَّ اغفر له.
– القارئ: في كتابه "فتحُ الرحيمِ الـمَلِكِ العَلَّامِ في علمِ العقائدِ والتوحيدِ والأخلاقِ والأحكامِ المستنبطةِ مِن القرآنِ"، قال رحمه الله:
الصَّمَدُ
– الشيخ: الصَّمَدُ: اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ التي لمْ تَرِدْ في القرآنِ إلا في موضعٍ واحدٍ، وهو معروفٌ في سورةِ الإخلاصِ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2،1]
ومِن أوضحِ وأقربِ ما قيلَ ما جاءَ عَن ابنِ عباسٍ أنَّهُ: "سبحانه وتعالى السَّيِّدُ الكاملُ في سُؤْدَدِهِ، والحكيمُ الكاملُ في حكمتِهِ، والقديرُ الكاملُ في قدرتِهِ"، يعني الموصوفُ بكلِّ كمالٍ على وجهِ الكمالِ.
وفُسِّرَ بأنَّهُ الذي تَصْمُدُ إليهِ الخلائِقُ في حوائجِهَا، لا إله إلا الله.
فهو الكاملُ في أوصافِهِ حكمةً وعلماً وقدرةً وغنىً، وغيرِ ذلك مِن أوصافِ الكمالِ، ومِن هذهِ صفتُهُ فكلُّ حوائجِ الخَلْقِ إنَّما تكونُ منهُ سبحانه، هو الذي بيدِهِ، هو الذي يُعطِي ويمنعُ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ.. [الذاريات:58] فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]
– القارئ: الصَّمَدُ: السَّيِّدُ العظيمُ الذي قدْ كَمُلَ في علمِهِ وحكمتِهِ وحِلمِهِ وقدرتِهِ وعِزَّتِهِ وعظمتِهِ وجميعِ صفاتِهِ، فهو واسعُ الصفاتِ عظيمُها، الذي صَمَدَتْ إليهِ جميعُ المخلوقاتِ، وقصدَتْهُ كلُّ الكائناتِ بأسرِهَا في جميعِ شؤونِهَا، فليسَ لها ربٌّ سواهُ، ولا مقصودَ غيرُهُ تقصدُهُ وتلجأُ إليهِ في إصلاحِ أمورِها الدينيةِ، وفي إصلاحِ أمورِها الدنيويةِ.
– الشيخ: على كلِّ حالٍ يخرجُ عَن هذا -والعياذُ باللهِ- الكافرونَ باللهِ، هؤلاء مُستكبرونَ مُعْرضونَ، لكن مَنْ أقَرَّ بوجودِ الله، وأقَرَّ بأنَّهُ الخالِقُ، وأنَّهُ المالِكُ، وأنَّهُ الذي يُعطي ويمنعُ، همْ يتوجَّهونَ إليهِ في حوائجِهم، أمَّا المؤمنونَ فأمرُهُم ظاهرٌ، المؤمنونَ باللهِ أمرُهُم ظاهرٌ، وأمَّا المشركونَ الـمُقِرُّونَ بالرُّبوبيةِ فهمْ يتأرجَحُونَ: في الرَّخَاءِ يُشركونَ، وفي الشِّدةِ يُخلِصُونَ، فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، سبحان الله !
– القارئ: تقصدُهُ عندَ النوائِبِ والـمُزعِجَاتِ، وتَضْرَعُ إليهِ إذا عَرَتْهَا الشِّدَّاتُ والكَرُبَاتُ، وتستغيثُ بِهِ
– الشيخ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ [النمل:62]
– القارئ: وتستغيثُ بِه إذا مسَّتْهَا المصاعبُ والـمَشَقَّاتُ؛ لأنَّها تعلمُ أنَّ عندَهُ حاجاتِهَا، ولديهِ تفريجُ كُرُبَاتِها؛ لكمالِ علمِهِ وسَعَةِ رحمتِهِ ورأفتِهِ وحَنَانِهِ، وعظيمِ قدرتِهِ وعِزَّتِهِ وسُلطانِهِ.
الغَنـِيُّ الـمُغْنـِي
– الشيخ: الغَنـِيُّ: مِن أسمائِهِ التي جاءَتْ في القرآنِ في مواضع، وجاءَ اسمُه الغَنـِيُّ مقروناً بالحميدِ، الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحج:64]، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12]، فهو غنيٌّ كلَّ الغِنى، الغَنـِيُّ عَن كلِّ ما سِواه، وكلُّ أحدٍ فقيرٌ إليهِ، ولَهُ الحمدُ، وهو المحمودُ سبحانه وتعالى، وهو الذي يُغنِي مَنْ شاءَ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26]، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم:48]، {هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}، فهو يُغنِي مَنْ شاءَ، ويَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، وهذا راجعٌ إلى قدرتِهِ وإلى حكمتِهِ، إلى كمالِ قدرتِهِ وغِنَاهُ وكرمِهِ وحكمتِهِ.
– القارئ: فهو تعالى الغَنـِيُّ بذاتِهِ، قالَ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم:48]، فهُو تعالى الغَنـِيُّ بذاتِهِ، الذي لَهُ الغِنَى التَّامُّ الـمُطْلَقُ مِن جميعِ الوجوهِ والاعتباراتِ؛ لكمالِهِ وكمالِ صفاتِهِ التي لا يتطرَّقُ إليها نقصٌ بوجِهٍ، ولا يمكنُ إلَّا أنْ يكونَ غنيًا؛ لأنَّ غِنَاهُ مِن لوازمِ ذاتِهِ، فكمَا لا يكونُ إلا خالقًا رازقًا رحيمًا مُحْسِنًا، فلا يكونُ إلا غنيًا عَن جميعِ الخلقِ لا يحتاجُ إليهِم بوجهٍ مِن الوجوهِ، ولا يمكنُ أنْ يكونُوا كلُّهم إلا مفتقرِّينَ إليهِ مِن كلِّ وجهٍ، لا يستغنونَ عَن إحسانِهِ وكرمِهِ وتدبيرِهِ وتربيتِهِ العامَّةِ والخاصَّةِ طَرْفَةَ عينٍ.
ومِنْ كمالِ غِنَاهُ: أنَّ خَزَائنَ السمواتِ والأرضِ بيدِهِ، وأنَّ جُودَهُ على خلقِهِ متواصِلٌ آناءَ الليلِ والنهارِ، وأنَّ يدَيْهِ سَحَّاءَ في كلِّ وقتٍ.
ومِن كمالِ غِنَاهُ: أنَّه يَدعو عبادَهُ إلى سؤالِهِ كلَّ وقتٍ ويعدُهُم عندَ ذلكَ بالإجابةِ، ويأمرُهُم بعبادتِهِ، ويعدُهُم القبولَ والإثابةَ، وقدْ آتاهُمْ مِن كلِّ ما سألوهُ، وأعطاهُمْ كلَّ ما أرادُوهُ وتمنَّوهُ.
ومِن كمالِ غِنَاهُ: أنَّه لو اجتمعَ أهلُ السمواتِ والأرضِ، وأولُ الخلقِ وآخرُهُم في صعيدٍ واحدٍ، فسألوهُ كلَّمَا تعلَّقَتْ به مطالبُهُم، فأعطاهُمْ سُؤْلَهُمْ، لمْ يَنقُصْ ذلكَ ممَّا عندَهُ إلا كمَا يَنْقُصُ الـمخيطُ إذا غُمِسَ في البحرِ.
– الشيخ: هذا كما جاءَ في الحديثِ القدسيّ: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صعيدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي).
– القارئ: ومِن كمالِ غِنَاهُ العظيمِ الذي لا يُقادِرُ قدرَهُ ولا يمكنُ وصفُهُ، ما يَبْسُطُهُ على أهلِ دارِ كرامتِهِ مِن اللَّذَاتِ الـمُتَتَابِعَاتِ والكراماتِ الـمُتنوعَاتِ، والنِّعَمِ المتَفَنِّنَاتِ مـِمَّا لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ.
فهو الغَنيُّ بذاتِهِ، الـمُغْني جميعَ مخلوقاتِهِ، أغنى عبادَهُ بما بسطَ لهمْ مِن الأرزاقِ، وما تابعَ عليهِم مِن النِّعَمِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وبِمَا يَسَّرَهُ مِن الأسبابِ الـمُوصِلَةِ إلى الغِنى.
– الشيخ: وهذا يختلفُ باختلافِ العِبَادِ، وهذا مَرَدُّهُ إلى مشيئتِهِ، مَرَدُّ هذا العطاءُ والمنعُ إلى مشيئتِهِ، إلى مشيئتِهِ وحكمتِهِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وهذا راجعٌ إلى كمالِ مُلكِهِ، فلَهُ الـمُلْكُ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ..، وَيُعِزُّ مَنْ يشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يشَاءُ، ويَرفعُ مَنْ يشَاءُ، ويَضَعُ مَنْ يشَاءُ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل:93]
– القارئ: وأخصُّ مِن ذلكَ أنَّه أغْنى خواصَّ عبادِهِ بما أفاضَهُ على قلوبِهِم مِن المعارفِ والعلومِ الربانيةِ والحقائقِ الإيمانيةِ، حتى تعلَّقَت قلوبُهُمْ بِهِ ولمْ يلتفتُوا إلى أحدٍ سَوَاهُ.
وهذا هو الغِنَى العَالي كمَا قالَ -صلى الله عليه وسلم-: (ليسَ الغِنَى عَنْ كثرةِ العَرَضِ، إنَّما الغِنَى غِنَى القلبِ). فمتى غَنِى القلبُ باللهِ وبما فيهِ مِن المعارفِ وحقائقِ الإيمانِ، وغَنِيَ برزقِهِ وقنعَ بِه وفرحَ بما أعطاهُ اللهُ، صارَ العبدُ الذي وصلَ إلى هذهِ الحالِ لا يَغْبِطُ الملوكَ وأهلَ الرئاساتِ؛ لأنَّه حصلَ لَه الغِنَى الذي لا يَبْغِي بِهِ بَدَلاً، والذي بِهِ يطمئِنُّ القلبُ وتُسَرُّ بِهِ الروحُ، وتفرحُ بِهِ النفسُ.
فنسألُ اللهَ أنْ يغنيَ قلوبَنَا بالهُدى والنُّورِ والمعرفةِ والقناعةِ، وأنْ يَمُدَّنَا مِن واسعِ فضلِهِ وحلالِهِ.
ذُو الجلالِ والإكرامِ
– الشيخ: إلى هنا، لا إله إلا الله، ذو الجلال .