بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: التاسع عشر بعد المئة
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلى الله وسلَّمَ وباركَ على عبده ورسوله محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابهِ أجمعين، أما بعد: فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ تعالى في: "الجوابُ الصحيحُ لِمَنْ بَدَّلَ دينَ المسيحِ":
– الشيخ: "الجوابُ الصحيحُ" يعني: عَن شُبهاتِهم التي يَذكرونَها في الاستدلالِ لصحةِ دينِهم، كما في الكتاب الذي وردَ مِن قبرصَ مِن النَّصارى الذي هو سببُ تأليفِ هذا الكتاب.
– القارئ: يقول رحمه الله تعالى:
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عُنِيَ بِمَوْتِهِ عَنْ مَوْتِ النَّاسُوتِ،
– الشيخ: "إنَّهُ عَنى" أو "عُنِيَ"؟
– طالب: "عنى"
– الشيخ: هو يمكن يصلح، نعم "عنى".
– القارئ: إِنَّهُ عنى بِمَوْتِهِ عَنْ مَوْتِ النَّاسُوتِ
– الشيخ: هو الأصلُ أن يُقال: "عنى بموتِه موتَ"، "عنى بموتِه موتَ"، فيمكن تعبيرُهم غيرُ جيدٍ، "عنى بموتِه عَن موتِ"؟ كذا؟ عن؟
– القارئ: هكذا عندي
– الشيخ: لا، هذا التعبيرُ والتركيبُ هذا غيرُ مستقيمٍ، إذا قيل: "عنى بموته" يصير في [هناك] مفعولٌ ثانٍ، أو مفعول به، "عنى بموتِه موتَ"، يعني: أرادَ بموتِه في قولِهِ: وَإِنْ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] "عنى بموته" يعني: عبَّرَ بموتِهِ عَن موتِ، "عنى" تصيرُ معناها: عبَّر.
– القارئ: وإذا قيل: "عُنيَ" تجي أحسنَ الله إليك؟
– الشيخ: لا لا، هي كلها.
– القارئ: الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عَنَى بِمَوْتِهِ عَنْ مَوْتِ النَّاسُوتِ، كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَى أَصْلِهِمْ: عَنَي بِتَوْفِيَتِهِ عَنْ تَوَفِّي النَّاسُوتِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ مَوْتِهِ أَوْ بِتَوْفِيَتِهِ فَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ النَّاسُوتِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ غَيْرَهُ لَمْ يُتَوَفَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[آل عمران:55]
فَالْمُتَوَفَّى هُوَ الْمَرْفُوعُ إِلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَرْفُوعَ هُوَ اللَّاهُوتُ، مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ، لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَوْتٌ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَرْفُوعَ غَيْرَ الْمُتَوَفَّى، وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَرْفُوعَ هُوَ الْمُتَوَفَّى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:157،158] هُوَ تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء:157]
وَالْيَهُودُ لَمْ يَدَّعُوا قَتْلَ لَاهُوتٍ، وَلَا أَثْبَتُوا للَّهِ لَاهُوتًا فِي الْمَسِيحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ دَعْوَى قَتْلِهِ عَنِ النَّصَارَى حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ مَقْصُودَهُمْ قَتْلُ النَّاسُوتِ دُونَ اللَّاهُوتِ، بَلْ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا النَّاسُوتَ.
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
فَأَثْبَتَ رَفْعَ الَّذِي قَالُوا إِنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ النَّاسُوتُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ الْقَتْلُ، وَهُوَ الَّذِي رُفِعَ، وَالنَّصَارَى مُعْتَرِفُونَ بِرَفْعِ النَّاسُوتِ، لَكِنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صُلِبَ، وَأَقَامَ فِي الْقَبْرِ إِمَّا يَوْمًا وَإِمَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَعَدَ عَنْ يَمِينِ الرَّبِّ، النَّاسُوتُ مَعَ اللَّاهُوتِ.
– طالب: عندنا: "وَقَعَدَ عَنْ يَمِينِ الأَبِ"
– الشيخ: عندك: "عَنْ يَمِينِ"؟
– القارئ: عندي: "الرَّبِّ". سبحانه.
– الشيخ: هو مناسب: "الأَبِ"، عندك أيش "الأَبُ"؟
– طالب: "الأبُ" نعم
– الشيخ: إي هو الـمُنَاسب، "الأَبِ" نعم، قريبة الكلمة "رَبّ" و"أَبّ"
– القارئ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} مَعْنَاهُ: أَنَّ نَفْيَ قَتْلِهِ هُوَ يَقِينٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، بِخِلَافِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ مِنْ قَتْلِهِ وَغَيْرِ قَتْلِهِ.
– الشيخ: هذا تنبيهٌ طيبٌ وَمَا قَتَلُوهُ يعني: ليسَ نفياً لِتَيَقُّنِهِم أنَّهم ليسوا على يقينٍ مِن قتلِهِ، لا، بل المقصود هو {وَمَا قَتَلُوهُ} وهذا الخبرُ يقينٌ، يعني هذا الخبرُ الذي هو نفيُ قتلِه، نفيُ قتلِه يقينٌ، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} كما تقول: ما جاءَ فلان يقيناً، يعني: أُخبرك خبراً يقيناً.
– القارئ: بِخِلَافِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ مِنْ قَتْلِهِ وَغَيْرِ قَتْلِهِ فَلَيْسُوا مُسْتَيْقِنِينَ أَنَّهُ قُتِلَ; إِذْ لَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى يَقُولُونَ: لَمْ يُصْلَبْ، فَإِنَّ الَّذِينَ صَلَبُوا الْمَصْلُوبَ هُمْ الْيَهُودُ، وَكَانَ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْمَسِيحُ بِغَيْرِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ اشْتَبَهَ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يَعْرِفُوا مَنْ هُوَ الْمَسِيحُ مِنْ أُولَئِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَا أَعْرِفُهُ فَعَرَفُوهُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ: "مَا قَتَلُوهُ عِلْمًا بَلْ ظَنًّا" قَوْلٌ ضَعِيفٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]
فَلَوْ كَانَ الْمَرْفُوعُ هُوَ اللَّاهُوتَ، لَكَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِكَلِمَتِهِ: "إِنِّي أَرْفَعُكَ إِلَيَّ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّهُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ رَفْعُ نَفْسِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا قَالُوا: هُوَ الْكَلِمَةُ فَهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ إِنَّهُ الْإِلَهُ الْخَالِقُ، لَا يَجْعَلُونَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ [فاطر:10] بَلْ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَرَفْعُ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ مُمْتَنِعٌ.
– الشيخ: لا إله إلا الله، نعم مُمْتَنِعٌ في العقلِ أنْ تقولَ: "ربُّ العالمين رَفَعَ إليهِ رَبَّ العالمين"، كلامٌ غيرُ معقول!
– القارئ: الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ تَوْفِيَتِهِ لَمْ يَكُنِ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا اللَّهَ تعالى دُونَ الْمَسِيحِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ كُنْتَ أَنْتَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ[الأنفال:32] وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَ تَوْفِيُتِهِ لَيْسَ رَقِيبًا عَلَى أَتْبَاعِهِ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الرَّقِيبُ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهِمُ الْمُحْصِي أَعْمَالَهُمُ الْمُجَازِي عَلَيْهَا، وَالْمَسِيحُ لَيْسَ بِرَقِيبٍ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَا يُحْصِيهَا وَلَا يُجَازِيهِمْ بِهَا.
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى:
فَصْلٌ: قَالُوا: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَابِ خَالِقًا حَيْثُ قَالَ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [المائدة:110]
فَأَشَارَ بِالْخَالِقِ إِلَى كَلِمَةِ اللَّهِ الْمُتَّحِدَةِ بِالنَّاسُوتِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَرْيَمَ لِأَنَّهُ كَذَا قَالَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ النَّبِيِّ: "بِكَلِمَةِ اللَّهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، لَيْسَ خَالِقٌ إِلَّا اللَّهَ وَكَلِمَتَهُ وَرُوُحَهُ.
– الشيخ: "لَيْسَ خَالِقٌ إِلَّا اللَّهَ"، خبر، خبرُ ليسَ. نعم.
– القارئ: وَهَذَا مِمَّا يُوَافِقُ رَأْيَنَا وَاعْتِقَادَنَا فِي السَّيِّدِ الْمَسِيحِ لِذِكْرِهِ، لِأَنَّهُ حَيْثُ قَالَ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49]
أَيْ: بِإِذْنِ لَاهُوتِ الْكَلِمَةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي النَّاسُوتِ.
وَالْجَوَابُ
– الشيخ: إلى هنا يا شيخ.