بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: الثالث العشرون بعد المئة
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمُرسَلينَ، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، أمَّا بعدُ؛ فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ: " الجوابُ الصَّحيحُ لمَن بدَّلَ دينَ المسيحِ" يقولُ رحمَهُ اللهُ تعالى:
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]
كَلَامٌ حَقٌّ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذَا النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ عَلَى الْأَقْسَامِ الْمُمْكِنَةِ؛ لِيُبَيِّنَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]
وَخَلَقَ الْمَسِيحَ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ سَائِرَ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَكَانَ خَلْقُ آدَمَ -عليهِ السَّلامُ- وَحَوَّاءَ أَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ الْمَسِيحِ -عليهِ السلامُ-، فَإِنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ الْمَسِيحِ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، وَخَلْقُ آدَمَ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ أَصْلُ خَلْقِ حَوَّاءَ.
فَلِهَذَا شَبَّهَهُ اللَّهُ بِخَلْقِ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ الْمَسِيحِ، فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ تُرَابٍ، وَالتُّرَابُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، أَفَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْلُقَهُ مِنَ امْرَأَةٍ هِيَ مِنْ جِنْسِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَهُوَ سُبْحَانُهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، لَمَّا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَقَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ
– الشيخ: لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]
– القارئ: فَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَقَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ بِمَا نَفَخَ مِنْ رُوحِهِ لَاهُوتًا وَنَاسُوتًا، بَلْ كُلُّهُ نَاسُوتٌ، فَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ كُلُّهُ نَاسُوتٌ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي ضِمْنِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي شَأْنِ النَّصَارَى، لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَصَارَى نَجْرَانَ وَنَاظَرُوهُ فِي الْمَسِيحِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فِيهِ مَا أَنْزَلَ، فَبَيَّنَ فِيهِ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَكَذَّبَ اللَّهُ الطَّائِفَتَيْنِ: هَؤُلَاءِ فِي غُلُوِّهِمْ فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ فِي ذَمِّهِمْ لَهُ.
وَقَالَ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ:
– الشيخ: لا إله إلَّا الله، سبحانَ الله، في سورة آل عمران أكثرُ الآياتِ فيها الرَّدُّ على النصارى في اعتقادِهم في المسيح، وفي سورةِ النِّساءِ فيها الرَّدُّ على اليهودِ فيما زعمُوه في مريمَ وفي المسيحِ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء:156-157]
– القارئ: وَقَالَ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:61 – 64]
وَقَدِ امْتَثَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلَ اللَّهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ فَعَرَفُوا أَنَّهُمْ إِنْ بَاهَلُوهُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَهُ، فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَهُمْ صَاغِرُونَ، ثُمَّ كَتَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا [آل عمران:64] إِلَى آخِرِهَا.
وَكَانَ أَحْيَانًا يَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى: بِقَوْلِهِ:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ بِهِ أَنَّ الْمَسِيحَ عَبَدٌ لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا خُلِقَ آدَمَ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِلَهٌ، فَيَدْعُو كُلٌّ مِنَ الْمُتَبَاهِلَيْنِ أَبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ وَقَرِيبَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، ثُمَّ يَبْتَهِلُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَيَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَعْنَتَهُ عَلَى الْكَاذِبِينَ، فَإِنْ كَانَ النَّصَارَى كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: "هُوَ اللَّهُ" حَقَّتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَنْ قَالَ: "لَيْسَ هُوَ اللَّهَ بَلْ عَبْدُ اللَّهِ"، كَاذِبًا، حَقَّتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِنْصَافٌ مِنْ صَاحِبِ يَقِينٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ.
وَالنَّصَارَى لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، نَكَلُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ:
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:62]
تَكْذِيبًا لِلنَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ فِيهِ لَاهُوتٌ وَنَاسُوتٌ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ النَّاسُوتُ فَقَطْ دُونَ اللَّاهُوتِ؟
وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:59]
فَأَعْنَى بِقَوْلِهِ: عِيسَى، إِشَارَةً إِلَى الْبَشَرِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَرْيَمَ الطَّاهِرَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا اسْمَ الْمَسِيحِ إِنَّمَا ذَكَرَ عِيسَى فَقَطْ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: عِيسَى هُوَ الْمَسِيحُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[المائدة:75]
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَسِيحُ إِلَّا رَسُولًا لَيْسَ هُوَ بِإِلَهٍ وَأَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَالَّذِي هُوَ ابْنٌ مِنْ مَرْيَمَ هُوَ النَّاسُوتُ وَقَالَ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171]
– الشيخ: يعني تارةً يذكرُ اللهُ، يذكرُه باسمِه "عيسى" وتارةً يذكرُه بوصفه أو بلقبه المسيح، وتارةً يجمعُ بينهما كما في هذه الآية: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [النساء:171] فهذه الآيةُ تضمَّنَت الجمعَ بينَ اسمه العلم ووصفِه المسيح ونسبتِه إلى أمِّه "ابنُ مريمَ"، وفي الآياتِ الأخرى تارةً يذكرُه بلفظِ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
– القارئ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:171-172]
وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]
وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17]
الْوَجْهُ الثَّانِي
– الشيخ: إلى هنا بس [فقط]، أقولُ: طويلةٌ المناقشة.