بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: السّادس والأربعون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعينَ، قالَ شيخُ الإسلامِ موفّقُ الدينِ ابنُ قدامةَ -رحمَه اللهُ تعالى- في "روضة الناظر":
فصلٌ:
ذهبَ قومٌ إلى أنَّ ما حَصَّلَ العلمُ في واقعةٍ يفيدُهُ في كلِّ واقعةٍ، وما حَصَّلَهُ لشخصٍ يحصلُهُ لكلِّ شخصٍ يشاركُهُ في السماعِ، ولا يجوزُ أنْ يختلفَ. وهذا إنَّما يصحُّ: إذا تجرَّدَ الخبرُ عَنِ القرائنِ.
فإنِ اقْتَرَنَت
– الشيخ: اصبرْ اصبرْ بس، يقول: وقد ذهبَ قومٌ.
– القارئ: ذهبَ قومٌ إلى أنَّ ما حصلَ العلمُ في واقعةٍ يفيدُهُ
– الشيخ: ما حَصَّل العلمَ؟
– القارئ: في واقعةٍ يفيدُهُ في كلِّ واقعةٍ، وما حَصَّلَهُ لشخصٍ يحصلُهُ لكلِّ شخصٍ يشاركُهُ في السماعِ
– الشيخ: ظاهرُ هذا الكلامِ أنه غيرُ صحيحٍ، فهذا يختلفُ، يختلفُ باختلافِ الأخبارِ ويختلفُ باختلافِ الـمُخْبِرِين، فلا يَلزمُ مِن حصولِ العلمِ بهذا الخبرِ مِن هذا الطريقِ أنْ يحصلَ العلمُ بأيِّ خبرٍ مِن هذا الطريقِ، بَلْ حصولُ العلمِ يعني: يقصدونَ بالعلمِ: القطعَ، يقابلُ الظنَّ، فالعلمُ أَيْ: القطعُ المستفادُ مِن الأخبارِ يختلفُ باختلافِ نفسِ الأخبارِ والـمُخْبِرين، بل والـمُخْبَرين، فحصولُ العلمِ وحصولُ القطعِ له أسباب.
– القارئ: قال:
ذهبَ قومٌ إلى أنَّ ما حَصَّلَ العلمُ في واقعةٍ يفيدُهُ في كلِّ واقعةٍ، وما حَصَّلَهُ لشخصٍ يُحصِّلُهُ لكلِّ شخصٍ يشاركُهُ في السماعِ، ولا يجوزُ أنْ يختلفَ.
وهذا إنَّما يصحُّ: إذا تجرَّدَ الخبرُ عَنِ القرائنِ.
فإنِ اقْتَرَنَت بِهِ قرائنُ: جازَ أنْ تختلفَ بِه الوقائعُ والأشخاصُ؛ لأنَّ القرائنَ قدْ تُوْرِثُ العلمَ، وإنْ لمْ يكنْ فيهِ أخبارٌ، فلا يبعدُ أنْ تنضمَّ القرائنُ إلى الأخبارِ، فتقومَ بعضُ القرائنِ مقامَ بعضِ العددِ من الـمُخْبَرِين.
ولا ينكشفُ هذا إلا بمعرفةِ القرائنِ وكيفيةِ دَلالتِها فنقولُ:
لا شكَّ أنَّا نعرفُ أمورًا ليستْ محسوسةً؛ إذ نعرفُ مِن غيرِنا حُبَّهُ لإنسانٍ، وبُغضَهُ إيَّاهُ، وخوفَهُ منهُ، وخجَلَه، وهذهِ أحوالٌ في النفسِ لا يتعلَّقُ بها الحِسُّ، قدْ يدلُّ
– الشيخ: لا، لكنا نعلمُها بالظواهرِ.
يقولون: الحُمرة في الوجهِ تدلُّ على الخَجَلِ، والصُّفرة في الوجه تدلُّ على الوَجَلِ، يعني: الخوف. وغيرُ ذلكَ كثيرٌ يعني القرائن، الخَجَلُ والوَجَلُ أحوالٌ باطنةٌ نفسيةٌ، أحوالٌ نفسيةٌ، لكن يَعرفُها الناسُ بدلائِلها والقرائنِ وبالآثارِ، نعم أعدِ الجملة.
– القارئ: وهذهِ أحوالٌ في النفسِ لا يتعلَّقُ بها الحِسُّ
– الشيخ: لا يتعلَّق بها الِحسُّ، الحِسُّ اللي هو الحواسُ الخمس، لا النَّظر ولا السَّمع ولا اللَّمس ولا ولا ولا، لكن الِحسُّ يتعلَّقُ بدلائلِها، وهذهِ أحوالٌ لا يتعلَّقُ بها الحِسُّ، بعده.
– القارئ: قدْ يدلُّ عليها دَلالاتٌ آحادُها ليستْ قطعيَّةً، بلْ يتطرَّقُ إليها الاحتمالُ، لكن تميلُ النفسُ بها إلى اعتقادٍ ضعيفٍ، ثمَّ الثاني والثالثُ يؤكِّدُهُ، إلى أنْ يَحصُلَ القطعُ باجتماعِها.
كمَا أنَّ قولَ كلِّ واحدٍ مِن عددِ التواترِ مُحتَملٌ منفردًا، ويحصلُ القطعُ بالاجتماعِ: فإنَّا نعرفُ محبةَ الشخصِ لصاحبِهِ بأفعالِ المحبينَ مِن خِدمتِهِ، وبذلِ مالِه لَه، وحضورِهِ مجالسَهُ لمشاهدتِهِ، وملازمتِهِ في تَرَدُّدَاتِهِ، وأمورٍ مِن هذا الجنسِ، وكلُّ واحدٍ منها إذِ انفردَ يحتملُ أنْ يكونَ لغرضٍ يُضمِرُهُ، لا لـِمَحَبَّتِهِ
– الشيخ: يعني: يفيدُ، أولاً يمكن ما يفيد شيء أو يفيد احتمال، والثاني والثالث يَحتمل ظَنّ، ثم بتعدُّدِ هذه الأمورِ وتَكَرُّرها يفيدُ الظنَّ الراجحَ، ثم بعدَ ذلكَ يحصلُ القَطْع.
– القارئ: لكن تنتهي كثرةُ هذهِ الدَّلالاتِ إلى حدٍّ يَحصُلُ لنا العلمُ القطعيّ بـِحُبِّهِ.
وكذلكَ نَشهدُ الصبيَّ يرضعُ مرةً بعدَ أخرى، فيَحصلُ لنا عِلمٌ بوصولِ اللَّبنِ إلى جَوفِهِ، وإنْ لمْ نشاهِدِ اللبنَ، لكن حركةُ الصبيِّ في الامتصاصِ، وحركةُ حَلْقِهِ، وسكوتِهِ عَن بكائِهِ، معَ كونِهِ لا يتناولُ طعامًا آخرَ، وكونِ ثديِ المرأةِ الشابةِ لا يخلو مِن لبنٍ، والصبُّي لا يخلو عَن طبعٍ باعثٍ على الامتصاصِ ونحوِ ذلكَ مِن القرائنِ.
فلا يَبْعُدُ أنْ يحصلَ التصديقُ بقولِ عددٍ ناقصٍ، معَ قرائنَ تنضمُّ إليهِ.
ولو تجرَّدَ
– الشيخ: هذا كلُّه شواهدُ على أنَّ القرائنَ تُقوِّي مَا يُحصِّلُ العلمَ يعني طريقَ العلمِ تُقَوِّيهِ حتى يفيدَ القطعَ.
– القارئ: ولو تجرَّدَ عَن القرائنِ لمْ يُفِدِ العِلمَ، والتجرُبةُ تدلُّ على هذا.
وكذلكَ العددُ الكثيرُ ربَّما يخبرونَ عَن أمرٍ يقتضي إِيَالةَ الـمَلِكِ وسياسةَ إظهارِهِ، والمخبرونَ مِن جنودِ الملِكِ، فيُتصوَّرُ اجتماعُهم تحتَ ضبطِ الإِيَالةِ بالاتفاقِ على الكذبِ، ولو كانوا متفرِّقينَ خارجينَ عَنْ ضبطِ الملكِ لمْ يتطرَّقْ إليهمْ هذا الوهمُ، فهذا يؤثِّرُ في النفوسِ تأثيرًا لا يُنكَرُ.
فصلٌ: وللتواترِ ثلاثةُ شروطٍ:
الأول: أنْ يُخبِرُوا عَن علمٍ ضروريٍّ مستندٍ إلى محسوسٍ؛ إذ لَو أَخْبَرَنَا الـجَـمُّ الغفيرُ عَن حدوثِ العالَمِ وعَن صدقِ الأنبياءِ لمْ يحصلْ لنا العلمُ بخبرِهِم.
يعني: لأنَّه حاصلٌ ضرورةً أحسن الله إليكم؟
– الشيخ: يعني ما استفدْنا حدوثَ العالَم مِن والله أنَّ فلان وفلان وفلان وألف كل هذول يقولون، يعني الدليلُ على حدوثِ العالم الدلائلُ العقلية، يعني مثل أنَّ الفعلَ لابدَّ لَه مِن فاعلٍ، هذه قضيةٌ فطريةٌ، أنَّ الفعلَ المخلوقَ لابدَّ لَه مِن خالقٍ، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، انتهى، لا يجوزُ عقلاً أن يُوجَدَ الشيءُ لا مِنْ شيءٍ، لا مِنْ خالقٍ.
– القارئ: الثاني: أنْ يَسْتَوِيَا -طرفُ الخبرِ ووسطُهُ- في هذهِ الصفةِ وفي كمالِ العددِ؛ لأنَّ خبرَ كلِّ عصرٍ يستقلُّ بنفسِهِ، فلا بدَّ مِن وجودِ الشروطِ فيهِ، ولأجلِ ذلكَ لمْ يحصلْ لنا العلمُ بصدقِ اليهودِ مع َكثرتِهم في نقلِهم عَن موسى -عليه السلام- تكذيبَ كلِّ ناسخٍ لشريعتِهِ.
الشرطُ الثالثُ: في العددِ الذي يحصلُ بِه التواترُ، واختلفَ الناسُ فيهِ:
فمنهمْ مَنْ قالَ: يحصلُ باثنين، ومنهمْ مَن قالَ: يحصلُ بأربعةٍ.
– الشيخ: يحصلُ أيش؟ العدد؟
– القارئ: الشرطُ الثالثُ: في العددِ الذي يحصلُ بِه التواترُ، واختلفَ الناسُ فيهِ:
فمنهمْ مَنْ قالَ: يحصلُ باثنين
– الشيخ: باثنين! هذا تواترٌ هذا! هذا من أضعفِ الكلام، وقيلَ: ثلاثة أيش بعده.
– القارئ: ومنهمْ مَن قالَ: يحصلُ بأربعةٍ. وقالَ قومٌ: بخمسة، وقالَ قومٌ: بعشرين، وقالَ آخرونَ: بسبعين، وقيلَ غيرُ ذلكَ.
والصحيحُ: أنَّه ليسَ لَه عددٌ محصورٌ، فإنَّا لا ندري متى حصلَ عِلْمُنا بوجودِ "مكةَ" ووجودِ الأنبياءِ -عليهم السلام- ولا سبيلَ إلى معرفتِهِ؛ فإنَّهُ لو قُتِلَ رجلٌ في السوقِ، وانصرفَ جماعةٌ فأخبرونا بقتلِهِ، فإنَّ قولَ الأولِ يُحرِّكُ الظنَّ، والثاني والثالث يؤكِّدَانِهِ، ولا يزالُ يتزايدُ حتى يصيرَ ضروريًّا لا يمكِنُنا تشكيكُ أنفسِنا فيهِ.
– الشيخ: لا يمكننا أيش؟ تشريك؟
– القارئ: تشكيكُ، من الشك
– الشيخ: أي تشكيك.
– القارئ: تشكيكُ أنفسِنا فيهِ.
فلو تصوَّرَ الوقوفَ على اللحظةِ التي حصلَ فيها العلمُ ضرورةً، وحُفِظَ حسابَ المخبرينَ، وعدَدَهُم: لأمكنَ الوقوفُ عليهِ، ولكنْ دَرْكُ تلكَ اللحظةِ عسيرٌ؛ فإنَّه تتزايدُ قوةُ الاعتقادِ تزايدًا خَفَيَّ التدريجِ، كتزايدِ عقلِ الصبيِّ المميِّزِ، إلى أنْ يبلغَ حَدَّ التكليفِ، وتزايدَ ضوءِ الصبحِ إلى أنْ ينتهيَ إلى حَدِّ الكمالِ؛ فلذلكَ: تَعَذَّرَ على القوةِ البشريةِ إدراكُهُ.
فأمَّا مَا ذهبَ إليهِ المخصصونَ بالأعدادِ، فَتَحَكُّمٌ فاسدٌ، لا يُناسِبُ
– الشيخ: يعني ولهذا قالوا: أنَّ شرطَ التواترِ أنْ يرويهِ جماعةٌ تحيلُ العادةُ تواطأهم، عددٌ بلا حَصْرٍ، بلا حَصْر.
– القارئ: فتحكمٌ فاسدٌ، لا يُناسِبُ الغرضَ، ولا يدلُّ عليهِ، وتَعَارُضُ أقوالِهم يدلُّ على فسادِها.
فإنْ قيلَ: فكيفَ تعلمونَ
– الشيخ: إلى هنا يا أخي.
– القارئ: بقي بس سطرين
– الشيخ: سطرين يا الله كمل.
– القارئ: فإنْ قيلَ: فكيفَ تعلمونَ حصولَ العلمِ بالتواترِ، وأنتمْ لا تعلمونَ أقلَّ عددِه؟
قلنا: كمَا نعلمُ أنَّ الخبزَ مُشْبِعٌ، والماءَ مُرْوٍ، وإنْ كنَّا لا نعلمُ أقلَّ مقدارٍ يحصلُ بِه ذلكَ، فنستدلُّ بحصولِ العلمِ الضروريِّ على كمالِ العددِ لا أنَّا نستدلُّ بكمالِ العددِ على حصولِ العلمِ.
فصلٌّ
– الشيخ: نعم يا محمد.
– القارئ: أحسن الله إليكم، الآن في تقسيمِ الأخبارِ إلى آحادٍ ومتواترٍ، يقولون: أن الآحادَ على ثلاثةِ أنواعٍ
– الشيخ: معروف هذا.
– القارئ: المشهور: هو ما رواه أكثر من ثلاثة.
– الشيخ: أيش؟
– القارئ: المشهور.
– الشيخ: معروف رواه ثلاثة فأكثر
– القارئ: فأكثر، طيب فأكثر إلى كم؟ يعني
– الشيخ: ما لمْ يبلغِ حدَّ التواترِ.
– القارئ: وش حد التواتر؟
– الشيخ: هو اللي قالوا لك، إذا بلغَ عدداً تحيلُ العادةُ تواطؤَهم على الكذبِ.
يعني تَعرفه بالمثال، أقولُ تَعرفه بالمثال، شوف أمثلة التواتر: يقولونَ مثلَ حديثِ، مَثَّلوا بحديث: (مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمداً فَلْيَتَبَوَّأ..) قالوا: أنه متواتر، وقالوا مثلاً أحاديثُ المسحِ على الخفينِ أنه متواتر، والمتواترُ نوعان: متواترٌ لفظاً، ومتواترٌ معنى.
الآن مثل حكمِ المسحِ على الخفين متواترٌ لفظاً؟ لا، لكن مجموع هذه..، يعني لأنَّه رُوِيَ مِن فعلِ النَّبيِّ ومِنْ قولِه، فالتواترُ حاصلٌ بمجموعِ هذه الرواياتِ.