بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: التّاسع والأربعون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قال شيخُ الإسلامِ موفّقُ الدينِ ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ تعالى في "روضةِ الناظرِ" في تتمّةِ كلامِه على أحاديثِ الآحادِ، قال رحمهُ اللهُ:
فصل: وأنكرَ قومٌ جوازَ التعبّدِ بخبرِ الواحدِ عقلًا؛ لأنَّه
– الشيخ: يقولونَ: العقلُ يمنعُ من، يقتضي أنَّه لا يجوزُ التعبُّدُ به، العقلُ يقتضي أنَّه لا يجوزُ التعبُّدُ بخبرِ الواحدِ، لا يجوزُ التعبُّدُ يعني أن يُطلبَ من العبادِ أن يتعبَّدوا للهِ ويعملوا بخبرِ الواحدِ، وهذه مسألةٌ، وهذا يعني أمرٌ ذِكرُه مجردُ استيعابٍ لما قالَه الناسُ في هذا البابِ، وإلَّا المعولُ على ما دلَّ عليه الشرعُ والنقلُ، وقد دلَّ الشرعُ على جوازِ بل وقوعِ التعبُّدِ بأخبارِ الآحادِ، وليسَ بالعقلِ ما يُعارضُه، الصوابُ أنَّه ليس في العقلِ ما يُعارِضُ ذلك.
– القارئ: وأنكرَ قومٌ جوازَ التعبّدِ بخبرِ الواحدِ عقلًا؛ لأنَّه يحتملُ أن يكونَ كذبًا، والعملُ به عملٌ بالشكِّ، وإقدامٌ على الجهلِ، فتقبحُ الحوالةُ على الجهلِ، بل إذا أمرنا الشرعُ بأمرٍ فليعرِّفناه لنكونَ على بصيرةٍ، إمَّا ممتثلونَ وإمَّا مخالفونَ، والجوابُ: أنَّ هذا إنْ صدرَ من مقرٍّ بالشرعِ فلا يتمكّنُ منه؛ لأنَّه تعبُّدٌ بالحكمِ بالشهادةِ والعملنأن هذا
– الشيخ: والجواب والجواب
– القارئ: والجوابُ: أنَّ هذا إنْ صدرَ من مُقرٍ بالشرعِ
– الشيخ: يعني هذا القولُ أو هذهِ الدعوةُ إنْ صدرتْ من مقرٍ بالشرعِ، إن صدرتْ من مقرٍّ بالشرعِ يعني فواجِبُهُ الانقيادُ للشرعِ واضطراحُ ما يُدَّعَى أنَّه مُوجبُ العقلِ. والقولُ بهذا من مقرٍّ بالشرعِ يتضمَّنُ تقديمَ العقلِ على الشرعِ، إنْ صدرَ نعم إن صدرَ من مُقرٍّ.
– القارئ: والجوابُ: أنَّ هذا إنْ صدرَ من مُقرٍّ بالشرعِ فلا يتمكَّنُ منه؛ لأنَّه تُعُبِّدَ بالحكمِ بالشهادةِ والعملُ بالفتيا أو التوجُّه للكعبةِ بالاجتهادِ عند الاشتباهِ.
– الشيخ: يعني إن كان مقرًا بالشرعِ فقد دلَّ الشرعُ على العملِ بخبرِ الواحدِ في هذه الأبوابِ المذكورةِ.
– القارئ: وإنّما يفيدُ الظنُّ، كما يفيدُ بالعملِ بالمتواترِ، والتوجُّه إلى الكعبةِ عند عدمِ معاينتِها، فلِمَ يستحيلُ أن يلحقَ المظنونُ بالمعلومِ؟
وإن صدرَ
– الشيخ: من غيرِ مقرٍّ
– القارئ: من منكرٍ للشرعِ: فيقالُ له: أيُّ استحالةٍ في أن يجعلَ اللهُ تعالى الظنَّ علامةً للوجوبِ، والظنُّ مُدرَكٌ بالحسِّ، فيكونُ الوجوبُ معلومًا؟ فيُقالُ له: إذا ظننتَ صدقَ الشاهدُ، والرسولُ، والحالفُ: فاحكمْ به، ولست مُتعبّدًا بمعرفةِ صدقِه؛ بل بالعملِ به عند ظنِّ صِدقِه، وأنت ممتثلٌ مصيبٌ صَدَقَ أم كَذَبَ. كما يجوزُ أن يُقالَ: إذا طارَ طائرٌ ظننتموه غُرابًا: أوجبتُ عليكم كذا، وجعلتُ ظنَّكم علامةً، كما جعلتُ زوالَ الشمسِ علامةً على وجوبِ الصلاةِ.
فصلٌ:
وقال أبو الخطابِ: العقلُ يقتضي وجوبَ قَبولِ خبرِ الواحدِ لأمورٍ ثلاثةٍ:
أحدُها: أنَّا لو قَصَرْنا العملَ على القطعِ تعطّلتِ الأحكامُ؛ لندرةِ القواطعِ، وقلّةِ مداركِ اليقينِ.
الثاني: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مبعوثٌ إلى الكافّةِ، ولا يُمكنُه مشافهةَ جميعهم، ولا إبلاغَهم بالتواترِ.
الثالث: أنَّا إذا ظَننا صِدْقَ الراوي فيه ترجّحَ وجودُ أمرِ اللهِ تعالى وأمرِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فالاحتياطُ العملُ بالراجحِ. وقال الأكثرونَ: لا يجبُ التعبدُ بخبرِ الواحدِ عقلًا، ولا يستحيلُ ذلك، ولا يلزمُ من عدمِ التعبُّدِ به تعطيلَ الأحكامِ؛ لإمكانِ البقاءِ على البراءةِ الأصليةِ والاستصحابِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكلَّفُ تبليغَ من أمكنَه من أمّتِه تبليغَه، دونَ ما لا يُمكنُه، كمن في الجزائرِ ونحوِها.
فصلٌ:
فأمَّا التعبُّدُ بخبرِ الواحدِ سمعًا: فهو قولُ الجمهورِ، خلافًا لأكثرِ القدريةِ وبعضِ أهلِ الظاهرِ. ولنا دليلانِ قاطعانِ: أحدُهما:
– الشيخ: هذا هو المهمُّ، المهمُّ الكلامُ في التعبّدِ أو في قبولِ خبرِ الواحدِ من جهةِ دلالةِ الشرعِ، هذا هو الذي نحن، أمَّا دلالةُ العقلِ فهذه لا يترتَّبُ على الكلامِ فيها والخلافِ فيها كبيرُ فائدةٍ، إنَّما هي مباحثُ نظريةٌ تفضي إلى كثرةِ القِيلِ والقالِ من غيرِ طائلٍ، فالمهمُّ هو ذكرُ الدليلِ وإقامةُ الدليلِ على وجوبِ قبولِ خبرِ الواحدِ ووجوبِ العملِ به، وهذا هو ما دلَّ عليه الشرعُ، وما جاءَ به الشرعُ لا شكَّ أنَّه هو مُوجبُ العقلِ؛ فإنَّ الرسلَ لا يأتونَ بما تُحيلُه العقولُ، فنعلمُ أنَّ ما جاءَ بها الشرعُ هو ما يقتضيه العقلُ السليمُ. وإنْ قُدِّرَ أنَّه لا يقتضيهِ فإنَّه لا يمنعُه، فما جاءَ بها الشرعُ لا يكون محالًا في العقلِ إلّا عند المبطلينَ، الذين زعموا أنَّ العقلَ يُخالفُ الشرعَ في المسائلِ العلميّةِ، أو في بعضِ المسائلِ العلميّةِ؛ مثل الأسماءِ والصفاتِ، الذين قالوا أنَّ نصوصَ الصفاتِ ظاهرُها يُناقضُ ما دلَّ عليه العقلُ، فالعقلُ دلَّ على النفي والنصوصُ دلَّتْ على الإثباتِ.
– القارئ: ولنا دليلان قاطعان:
أحدُهما: إجماعُ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم على قبولِه:
فقد اشتهرَ ذلك عنهم في وقائعَ لا تنحصرُ، إن لم تتواترْ آحادُها حصلَ العلمُ بمجموعِها.
منها: أنَّ الصدّيقَ رضي اللهُ عنه لما جاءَتْه الجدَّةُ تطلبُ ميراثَها نشدَ الناسَ: من يعلمُ قضاءَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها؟ فشهدَ له محمّدُ بن مسلمةَ، والمغيرةُ بن شعبةٍ رضي اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعطاها السدسَ، فرجعَ إلى قولِهما، وعملَ به عمرُ بعدَه.
ورويَ عن عمرَ رضي اللهُ عنه في وقائعَ كثيرةٍ:
منها: قصَّةُ الجنينِ حين قال: "أذكّرُ اللهَ امرأ سمعَ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الجنينِ"، فقامَ حملُ بن مالكٍ بن النابغةَ وقال: "كنتُ بين جاريتين لي، فضربتْ إحداهُما الأخرى بمسطحٍ فقتلتْها وجنينَها، فقضى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الجنينِ بغرّة" فقال عمرُ: "لو لم نسمعْ هذا لقضينا بغيرِه". وكان لا يُورِثُ المرأةَ من دِيَةِ زوجِها حتى أخبرَه الضحاكُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كتبَ إليه: (أنْ يُورثَ امرأةَ أَشْيَمٍ الضبابي من دِيَةِ زوجِها). ورجعَ إلى حديثِ عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ عن النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المجوسِ: (سنّوا بهم سنَّةَ أهلِ الكتابِ).
وأخذَ عثمانُ رضي اللهُ عنه بخبرِ "فريعةَ بنتِ مالكٍ" في السّكنى، بعد أنْ أرسلَ إليها وسألها.
وعليٌّ رضي اللهُ عنه كان يقول: كنتُ إذا سمعتَ من النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حديثًا نفعني اللهُ بما شاءَ به أن ينفعني، وإذا حدثني عنه غيرُه استحلفتُه، فإذا حَلَفَ لي صدَّقتُه. وحدَّثني أبو بكرٍ -وصَدَقَ أبو بكرٍ-: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: (ما من عبدٍ يُذنِبُ فيتوضّأ ثمَّ يُصلّي ركعتين ويستغفرُ اللهَ إلّا غفرَ اللهُ له).
ولما اختلفَ المهاجرونَ والأنصارُ في الغسلِ من المجامعةِ: أرسلوا أبا موسى إلى عائشةَ فروتْ لهم عن النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (إذا مسَّ الخِتانُ الختانَ وجبَ الغُسْلُ)، فرجعوا إلى قولِها.
– الشيخ: كلُّ هذه يذكرُها المؤلّفُ شواهدَ لما قال أنَّ الصحابةَ أجمعوا على قبولِ خبرِ الواحدِ، وبهذا نقولُ: أنَّه قد دلَّ الشرعُ دلَّ الكتابُ والسنَّةُ والإجماعُ على قبولِ خبرِ الواحدِ. والدليلُ على قبولِ خبرِ الواحدِ هو الاستقراءُ ومجموعُ هذه الأخبار، يعني الواحدُ الفردُ من هذه القضايا لا تكفي دليلًا على وجوبِ خبرِ الواحدِ، لكنَّ المجموعَ يُفيدُ القطعَ، يُفيدُ القطعَ بوجوبِ قبولِ خبرِ الواحدِ والعملِ به.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم. الأدلةُ من القرآنِ؟
– الشيخ: يمكنُ أن يُستدَلَّ بما أمرَ اللهُ من: وما آتاكُمُ الرسولُ فخذوهُ وما نهاكُمْ عنه فانتهوا.
– القارئ: إنْ جاءَكُمْ فاسقٌ بنبأٍ فتبيَّنوا قد يُقالُ إذا تبيّنّا؟
– الشيخ: {فتبيّنوا} نعم، يمكن يمكن
– القارئ: واشتهرَ رجوعُ أهلِ قباءَ إلى خبرِ الواحدِ في التحوّلِ إلى الكعبةِ.
وروى أنسٌ قال: كنتُ أسقي أبا عبيدةَ، وأبا طلحةَ وأُبيّ بن كعبٍ شرابًا من فضيخٍ، إذ أتانا آتٍ فقال: إنَّ الخمرةَ قد حُرِّمتْ. فقال أبو طلحةَ: يا أنسُ قم إلى هذه الجِرارِ فاكسِرْها فكسرتُها.
– الشيخ: اللهُ أكبرُ، سمعٌ وطاعةٌ بلا تردُّدٍ ولا توقّفٍ، اللهُ أكبرُ، رضي اللهُ عنهم. يعني قصّةُ الذين استداروا في صلاتِهم وقصةُ الصحابةِ في إتلافِ جِرارِ الخمرِ كلّها تُمثّلِ سرعةَ طاعتِهم للهِ ورسولِه، سرعةَ انقيادِهم لحكمِ اللهِ ورسولِه.
– القارئ: ورجعَ ابنُ عباسٍ إلى حديثِ أبي سعيدٍ في الصَّرفِ.
ورجعَ ابنُ عمرَ إلى حديثِ رافعِ بن خديجٍ في المخابرةِ. وكان زيدُ بن ثابتٍ يرى ألّا تصدرَ الحائضُ حتى تطوفَ، فقال له ابنُ عباسٍ سَلْ فلانةَ الأنصاريةَ، هل أمرَهَا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك؟ فأخبرتْهُ، فرجعَ زيدٌ يضحكُ وقال لابنِ عباسٍ: "ما أراكَ إلّا قد صدقتَ". والأخبارُ في هذا أكثرُ من أنْ تُحصى، واتّفقَ التابعونَ عليه أيضًا، وإنّما حَدَثَ الاختلافُ بعدَهم؛ فإنْ قِيل..
– الشيخ: لعلَّكَ تقفُ..