بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: الثّامن والخمسون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ: قالَ شيخُ الإسلامِ مُوَفَّقُ الدِّينِ ابنُ قدامةَ رحمَهُ اللهُ تعالى في: "روضةُ الناظرِ":
فصلٌ:
مراسيلُ أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مقبولةٌ عندَ الجمهورِ.
وَشَذَّ قومٌ فقالوا: لا يُقبَلُ مُرْسَلُ الصحابيِّ إلا إذا عُرِفَ بصريحِ خبرِهِ أو بعادتِهِ أنه لا يَروي إلا عَن صحابيٍّ، وإلا فَلَا؛ لأنَّهُ قد يَروي عْمَّنْ لمْ تَثْبُتْ لَنَا صحبتُهُ.
وهذا ليسَ بصحيحٍ، فإنَّ الأمةَ اتفقَتْ على قَبُولِ روايةِ ابنِ عباسٍ ونظرائِهِ مِن أَصَاغِرِ الصحابةِ معَ إكثارِهِم، وأكثرُ رِوايتِهم عَن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم مراسيلٌ.
قالَ البراءُ بنُ عازبٍ: "ما كلُّ ما حَدَّثْنَاكم بِهِ عَن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعْنَاهُ منه، غيرَ أنَّنَا لا نَكْذِبُ".
وكثيرٌ منهم كانَ يُرسِلُ الحديثَ، فإذا اسْتَكْشَفَ قالَ: "حَدَّثَنِي بِهِ فلانٌ"، كأبي هريرةَ وابنِ عباسٍ وغيرِهِمَا.
والظاهرُ أنَّهم لا يَرْوُونَ إلا عَن صحابيٍّ، والصحابةُ معلومةٌ عدَالتُهُم. فإنْ رَوَوا عَن غيرِ صحابيٍّ، فلا يَرْوونَ إلا عَمَّنْ عَلِمُوا عدالتَهُ. والروايةُ عَن غيرِ عَدْلٍ وَهْمٌ بعيدٌ، لا يُلْتَفَتُ إليهِ ولا يُعَوَّلُ عليهِ.
– الشيخ: هذا هو المعروفُ والمشهورُ عندَ أهلِ العلمِ أنَّ مراسيلَ الصحابة.. لو قيلَ بالمذهبِ الآخرِ لَضَاعَ جُلُّ أو كثيرٌ مِن حديثِ رسولِ اللهِ؛ لأنَّ الواقعَ والجاري إنَّما يَروي بعضُهم عَن بعضٍ، ماذا تقولُ نفسُ أبو هريرة رضيَ اللهُ عنه، كثيرٌ مِن حديثِهِ -إلا ما صرَّحَ بِهِ بالسماعِ- كثيرٌ مِن حديثِهِ رواهُ عَن بعضِ الصحابةِ، متى؟ كان إسلامُهُ في السنةِ السابعةِ، إذاً كثيرٌ مِن أحاديثِهِ مِن مراسيلِ الصحابةِ، وكابنِ عباسٍ كمَا ذكرَ الـمُصنف.
– القارئ: فصلٌ: أمَّا مَرَاسِيلُ غيرِ الصحابةِ، وهو أنْ يقولَ: "قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم" مَنْ لمْ يُعَاصِرْهُ، أو يقولَ: "قالَ أبو هريرةَ" مَنْ لمْ يُدْرِكْهُ: ففيها روايتانِ:
إحداهُما: تُقْبَلُ، اختارَها القاضِي، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفةَ، وجماعةٍ مِن المتكلِّمينَ.
والأُخرى: لا تُقْبَلُ، وهو قولُ الشَّافعيِّ وبعضِ أهلِ الحديثِ وأهلِ الظاهرِ.
ولهمْ دَلِيْلَان..
علَّقَ المحققُ على قولِهِ: "وهو قولُ الشافعيِّ" قالَ: الحقُّ أنَّ الشافعيَّ رحمه الله يقبلُ مَرَاسيلَ غيرِ الصحابيِّ بشروطٍ اعتبرَهَا في الحديثِ الـمُرْسَلِ نفسِهِ، وشروطٍ في الراوي الـمُرْسِلِ. ثمَّ ذكرَهَا أحسنَ الله إليكم.
– الشيخ: ذكرَها المحشي يعني؟
– القارئ: إي، نعم.
– الشيخ: على كل حالٍّ، الـمُرسَلُ الـمُطْلَقُ، الـمُرسَلُ مصطلحٌ مِن مصطلحاتِ أهلِ الحديثِ هو: مَا لمْ يُذكَرْ فيهِ الصحابيُّ، أو ما سقطَ منه الصحابيُّ، وهو روايةُ التابعيِّ عَن النبيِّ. إذا قالَ التابعيُّ: "قال رسول الله" أو: "عن الرسول صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ" أو: "كانَ رسولُ اللهِ" فذلكَ مُرْسَلٌ، هذا هو الـمُصطلح المعروفُ، وفي الاحتجاجِ بِهِ خلافٌ.
وبعضُهُم يَخُصُّ بعضَ التابعينَ بقبولِ مَرَاسيلِهِ كسعيدِ بن الـمُسيَّبِ؛ لأنَّهُ كبيرٌ وعالمٌ، فلا يَكادُ يَروي إلا ما تلقَّاهُ وسمعَهُ مِن الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، وكذلك الـمُرْسَلُ -أيضاً- يقبلونَهُ في الاعْتِضَادِ، فإذا تعددَتْ طُرُقُهُ فإنَّهُ يصيرُ مِن الحَسَنِ، يجعلونَهُ مَقْبُولاً لكن مِن الحَسَنِ لغيرِهِ.
– القارئ: ففيها روايتانِ:
إحداهُما: تُقْبَلُ، اختارَها القاضِي، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وجماعةٍ مِن المتكلِّمينَ.
والأُخرى: لا تُقْبَلُ، وهو قولُ الشافعيِّ، وبعضِ أهلِ الحديثِ وأهلِ الظاهرِ.
ولهمْ دَلِيْلَانِ
أحدُهُما: أنَّهُ لو ذكرَ شيخَهُ ولمْ يُعَدِّلْهُ وبَقِيَ مجهولًا عندنا: لمْ نقبلْهُ، فإذا لمْ يُسَمِّهِ فالجهلُ أتمُّ، إذ مَنْ لا يُعْرَفُ عينُهُ كيفَ نعرفُ عدالتَهُ؟!
الثاني: أنَّ شهادةَ الفرعِ لا تُقْبَلُ ما لمْ يُعَيّن شاهدُ الأصلِ، فكذا الروايةُ.
وافتراقُ الشهادةِ والروايةِ في بعضِ التَّعَبُّدَاتِ لا يُوجِبُ فرقًا في هذا المعنى، كما لا يُوجِبُ فَرْقًا في قبولِ روايةِ المجروحِ والمجهولِ.
ووجهُ الروايةِ الأولى: أنَّ الظاهرَ مِن العدلِ الثقةِ: أنَّهُ لا يَستجيزُ أنْ يُخبِرَ عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقولٍ، ويجزمَ بِهِ، إلا بعدَ أنْ يعلمَ ثقةَ ناقلِهِ وعدالتَهُ.
ولا يحلُّ لَهُ إلزامُ الناسِ عبادةً، أو تحليلَ حرامٍ، أو تحريمَ مباحٍ، بأمرٍ مشكوكٍ فيه، فيظهِرُ أنَّ عدالتَهُ مُستقرةٌ
– الشيخ: "فيَظهرُ".
– القارئ: عندَهُ، فهو بمنزلةٍ قولِهِ: "أخْبَرَنِي فلانٌ وهو ثقةٌ عَدْلٌ".
ولو شَكَّ في الحديثِ: ذكرَ مَنْ حَدَّثَهُ؛ لتكونَ العُهْدَةُ عليهِ دونَهُ.
ولهذا قالَ إبراهيمُ النَّخَعِي: "إذا رَويتُ عَن عبدِ اللهِ وأسندتُ: فقدْ حَدَّثَني واحدٌ عنْهُ، وإذا أرسلتُ فقَدْ حَدَّثَني جماعةٌ عنه".
هذا كأنَّه اصطلاحٌ خاصٌّ بإبراهيم؟
– الشيخ: عند ابراهيم، يُعبِّر عن نفسِه.
– القارئ: وأمَّا المجهولُ: فإنَّ الروايةَ عنه ليسَتْ بتعديلٍ لَه -في إحدى الروايتينِ-.
وفي الأُخرى: تكونُ تعديلًا، على ما مَضَى، ولا كذلكَ ههنا.
والروايةُ تُفَارِقُ الشهادةَ في أمورٍ كثيرةٍ:
منها: اللفظُ، والمجلسُ، والعددُ، والذكوريةُ، والعجزُ عَن شهودِ الأصلِ، والحريةُ -عندَهم- وأنَّهُ لا يجوزُ لشهودِ الفرعِ الشهادةُ حتى تُحَمِّلُهُم إيَّاها شهودُ الأصلِ، فيقولوا: اشهدُوا على شهادَتِنَا.
والروايةُ تُخَالِفُ هذا.
فجازَ اختلافُهُمَا في هذا الحكمِ.
فصلٌ: ويُقبلُ خبرُ الواحدِ فيما تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى: كرفعِ اليدينِ في الصلاةِ، ومَسِّ الذَّكَرِ، ونحوِهِ، في قولِ الجمهورِ.
– الشيخ: أيش يقول؟ "ويُقبلُ خبرُ الواحدِ فيما تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى". أيش بعده؟
– القارئ: كرفعِ اليدينِ في الصلاةِ
– الشيخ: أيش الكلام هذا!!
– القارئ: ومَسِّ الذَّكَرِ –يعني: مِن الوضوءِ أحسنَ اللهُ إليكَ– ونحوه
– الشيخ: اصبر، أمَّا مَسُّ الذَكَرِ يُمكن مما تَعُمُّ البلوى به، لكن رفعُ اليدينِ في الصلاةِ ليسَ بِبَيِّنٍ التعبيرُ عنه بما تَعُمُّ بِه البَلْوَى.
نعم. "ويُقبلُ خبرُ الواحدِ فيما تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى: كرفعِ اليدينِ، ومَسِّ الذَّكَرِ". ومَسِّ الذَّكَرِ، ومَسِّ الذَّكَرِ أيش؟ في الصلاةِ يقول؟
– القارئ: ومَسِّ الذَّكَرِ، ونحوِهِ، في قولِ الجمهورِ.
وقالَ أكثرُ الحنفيةِ: لا يُقْبَلُ؛ لأنَّ ما تَعُمُّ به البَلوى كخروجِ النجاسةِ مِن السبيلينِ يوجدُ كثيرًا، وتنتقضُ بِه الطهارةُ، ولا يَحِلُّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُشِيعَ حكمَهُ؛ إذ يُؤدِّي إلى إخفاءِ الشريعةِ، وإبطالِ صلاةِ الخلقِ، فتجبُ الإشاعةُ فيهِ، ثمَّ تتوفَّرُ الدَّواعِي على نَقْلِهِ، فكيفَ يخفى حكمُهُ، وتقِفُ روايتُهُ على الواحدِ؟!
ولنا: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم قَبِلُوا خبرَ عائشةَ في الغُسْلِ مِن الجِمَاعِ بدونِ الإنزالِ، وخبرَ رافعِ بن خَدِيجٍ في الْمُخَابَرَةِ.
ولأنَّ الراوي عَدْلٌ جازمٌ بالروايةِ، وصِدْقُهُ ممكنٌ، فلا يجوزُ تكذيبُهُ، معَ إمكانِ تصديقِهِ.
ولأنَّ ما تَعُمُّ به البلوى يثبتُ بالقياسِ، والقياسُ مُستنبَطٌ مِن الخبرِ وفَرْعٌ لَه، فلأنْ يثبتَ بالخبرِ الذي هو أصلٌ أولى.
وما ذكروهُ يَبْطُلُ بالوترِ، والقهقهةِ، وخروجِ النجاسةِ مِن غيرِ السبيلِ، وتثنيةِ الإقامةِ، فإنَّه مما تَعُمُّ بِه البَلوى، وقدْ أثبتوهُ بخبرِ الواحدِ.
– الشيخ: يعني عندَهم، عندَ الحنفيةِ. هذا ردٌّ على الحنفيةِ؛ لأنَّهم -أقول- يقولونَ بهذهِ المسائلِ: وجوبُ الوترِ، وانتقاضِ الوضوءِ بالقهقهةِ. طيب أعد ويُبطله.
– القارئ: وما ذكروهُ يبطلُ بالوترِ، والقهقهةِ، وخروجِ النجاسةِ مِن غيرِ السبيلِ، وتثنيةِ الإقامةِ، فإنَّه مما تَعُمُّ بِه البَلوى، وقدْ أثبتوهُ بخبرِ الواحدِ.
ولمْ يُكَلِّفِ اللهُ تعالى رسولَهُ صلى الله عليه وسلم إشاعةَ جميعِ الأحكامِ، بلْ كلَّفَهُ إشاعةَ البعضِ، ورَدِّ الخلقِ -في البعضِ- إلى خبرِ الواحدِ.
كما رَدَّهُم إلى القياسِ في قاعدةِ الرِّبا، وكانَ يَسهُلُ عليهِ أنْ يقولَ: "لا تبيعوا الـمَكِيلَ بالـمَكيلِ، والمطعومَ بالمطعومِ"؛ حتى يستغنيَ عَن الاستنباطِ مِن الأشياءِ الستةِ. فيجوزُ أنْ يكونَ ما تَعُمُّ به البلوى مِن جملةِ ما يقتضي مصلحةَ الخلقِ: أنْ يُرَدَّ فيهِ إلى خبرِ الواحدِ.
فصلٌ: ويُقبَلُ
– الشيخ: إلى هنا يا أخي، جزاكَ الله خيراً، رحمه الله، على كلِّ حالٍ مسألةُ خبرِ الواحدِ تقدَّمَتْ كأنه، ما هو بتقدم؟
– القارئ: كأنه.
– الشيخ: لكن هذه شيءٌ خاصٌّ، قبولُ خبرُ الواحدِ فيما تعمُّ بِهِ البلوى. ما تقدم عندك؟
– طالب: تقدم قريبًا .