بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: التّاسع والخمسون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ شيخُ الإسلامِ مُوفَّقُ الدِّين ابنُ قُدامة رحمه الله تعالى في: "روضةُ الناظر":
فصلٌ: ويُقْبَلُ خبرُ الواحدِ في الحدودِ، وما يَسقطُ بالشُّبهاتِ.
وحُكِيَ عَن الكَرْخِي: أنَّه لا يُقبَلُ؛ لأنَّه مظنونٌ فيكونُ ذلكَ شُبهة، فلا يُقبَلُ، لقولِهِ عليهِ الصلاة السلام: (ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ).
وهذا غيرُ صحيحٍ، فإنَّ الحدودَ حكمٌ شرعيٌّ يَثبتُ بالشهادةِ، فيُقبَلُ فيهِ خبرُ الواحدِ كسائرِ الأحكامِ.
ولأنَّ ما يُقبَلُ فيهِ القياسُ الـمُستَنْبَطُ مِن خبرِ الواحدِ: فهو بالثبوتِ بخبرِ الواحدِ أولى.
وما ذَكروهُ يَبطلُ بالشهادةِ والقياسِ، فإنَّهما مَظنونانِ ويُقبلانِ في الحدودِ.
فصلٌ: ويُقبَلُ خبرُ الواحدِ فيما يُخالِفُ القياسَ.
وحُكِيَ عَن مالكٍ: أنَّ القياسَ يُقَدَّمُ عليهِ.
وقالَ أبو حنيفةَ: "إذا خالَفَ الأصولَ، أو معنى الأصولِ، لمْ يُحْتَجَّ بِهِ".
وهو فاسدٌ؛ فإنَّ معاذًا رضي الله عنه قَدَّمَ الكتابَ والسُّنةَ على الاجتهادِ فصوَّبَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقَدْ عَرَفْنَا مِن الصحابةِ رضي الله عنهم في مجالِ اجتهاداتِهم أنَّهم كانوا يَعْدِلُونَ إلى القياسِ عندَ عدمِ النَّصِّ.
ولذلكَ قَدَّمَ عمرُ رضي الله عنه حديثَ حَمْلِ بنِ مالكٍ في غُرَّةِ الجنينِ.
وكانَ يُفاضِلُ بينَ دِياتِ الأصابعِ ويَقسِمُها على قدرِ منافعِها، فلمَّا رُوي عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: (فِي كُلِّ إِصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ)، رجعَ عنه إلى الخبرِ، وكانَ بـمحضرٍ مِن الصحابةِ.
ولأنَّ قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلامُ المعصومِ وقولُهُ، والقياسُ استنباطُ الرَّاوي، وكلامُ المعصومِ أبلغُ في إثارةِ غلبةِ الظَّنِّ.
ثمَّ أصحابُ أبي حنيفةَ قد أوجبوا الوضوءَ بالنبيذِ في السَّفرِ دونَ الحضرِ
– الشيخ: "كلامُ المعصومِ" يعني: الـمرويُّ أبلغُ في غلبةِ الظنِّ، ولّا إذا عُلِمَ.. يعني مَن سمعَ مِن الرسولِ فإنَّ السَّماعُ من النبيِّ يوجبُ القطعَ، أمَّا إذا كانَ بطريقِ الروايةِ فهذا محلُّ قولِهم أنه يفيدُ الظنَّ، مِن أجل الواسِطة، وإنها عُرضةٌ للخطأِ، فقولُهُ: "كلامُ الـمعصومِ يُوجِبُ الظَّنَّ". هذا باعتبارِ أو بسببِ الواسطة، أمَّا لو لم تكن واسطة، كمَن سمعَ النبيَّ يقول كذا فما سمعَه مِن النبي يُوجِبُ القَطعَ.
– القارئ: ثمَّ أصحابُ أبي حنيفةَ قد أوجبوا الوضوءَ بالنَّبيذِ في السَّفرِ دونَ الحضرِ دونَ الحضرِ، وأبطلوا الوضوءَ بالقهقهةِ داخلَ الصلاةِ دونَ خارجِها، وحكمُوا في القَسَامة بخلافِ القياسِ، وهو مخالفٌ للأصولِ.
فصلٌ: الأصلُ الثالثُ: الإجماعُ
ومعنى الإجماع في اللغةِ: الاتفاقُ، قالوا: أجمعتِ الجماعةُ
– الشيخ: هذه الأصول التي يُعوَّلُ عليها في الاستدلالِ: الكتابُ والسُّنة، ذكرَ حكمَ الكتابِ وما يتعلَّق بِه، ثم ذكر ما يتعلَّقُ بالسُّنةِ، مِن منزلةِ السُّنةِ ومِن نَسخِ السُّنةِ للقرآنِ وما يتَّصِلُ بهذا، وكذلك ما يَتعلَّقُ بالروايةِ.
ثمَّ هذا الآن يَدخلُ في الأصلِ الثالثِ وهو الإجماع، والإجماعُ -كما سيأتي- إنَّما كانَتْ لَه هذهِ الدرجةُ مِن الاستدلالِ لأنَّه هو دليلٌ على النصِّ، فما أجمعَتْ عليهِ الأُمَّةُ لابدَّ أن يكونَ فيه نصٌّ، إذْ لا يمكن أنْ تُجمِعَ على حكمٍ لا دليلَ عليه أصلاً، فلا تُجمِعُ الأمةُ على ضلالةٍ.
– القارئ: فصلٌ: الأصلُ الثالثُ: الإجماعُ
ومعنى الإجماع في اللغةِ: الاتفاقُ، قالوا: أجمعتِ الجماعةُ على كذا: إذا اتفقُوا عليهِ.
ويُطلَقُ بإزاءِ تصميمِ العَزْمِ، يُقالُ: أجمعَ فلانٌ رأيَهُ على كذا: إذا صمَّمَ عزمَهُ.
قال تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُم [يونس:71]
ومعنى الإجماع في الشَّرعِ: اتفاقُ علماءِ العصرِ مِن أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم على أمرٍ مِن أمورِ الدِّينِ.
المحقق -أحسن الله إليكم- قال: تعريفُ ابنِ قُدامة هذا يحتاجُ إلى قيدٍ وهو "بعدَ وفاتِهِ صلى الله عليه وسلم"؛ لأنَّ الإجماعَ لا ينعقدُ في حياتِهِ، وبهذا يكونُ تعريفِ ابنِ قُدامةَ موافقٌ لجمهورِ الأصوليين.
– الشيخ: على كلِّ حال هذا قيدٌ كأنه مفروغٌ منه، ولهذا جاءَ الإجماع الثالثة، فعدمُ ذكرِهِ لأنَّه بَدَهي.
– القارئ: ومعنى الإجماع في الشرعِ: اتفاقُ علماءِ العصرِ مِن أمةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم على أمرٍ مِن أمورِ الدِّينِ.
ووجودُهُ مُتصَوَّرٌ: فإنَّ الأُمةُ مُجْمِعةٌ على وجوبِ الصلواتِ الخمسِ، وسائرِ أركانِ الإسلامِ.
وكيفَ يُمنَعُ تَصوّرُهُ؛ والأُمةُ كلُّها مُتعبَّدَةٌ بالنصوصِ والأدلةِ القواطعِ، مُعرَّضونَ للعقابِ بمخالفتِهَا؟
وكما لا يمتنعُ اتفاقُهم على الأكلِ والشُّربِ: لا يَمتنعُ اتفاقُهم على أمرٍ مِن أمورِ الدِّينِ.
– الشيخ: هذا يصير إلى دعوى بعضُ الغالطين: "الإجماعَ ما هو [غير] مُتصوَّرٍ، الناس كثير أيش يدرينا عنهم؟" يعني "إن الإجماعَ غير متصور"، لا هذا فيه نظرٌ وخاطئ، الإجماعُ مُتصوّر فيهِ [يوجد] أمورٌ يُعلَم بالضرورةِ أنَّها إجماع، منها ما هو إجماع، كثيراً ما يَذكر شيخُ الإسلام إجماعَ العقلاءِ أو باتفاقِ العُقلاءِ، شيخ الإسلام سمعَهُم؟ شافهَهم؟ لا، معلومٌ علماً أنَّ مثلَ هذا لا يَختلفُ فيهِ العقلاءُ؛ لأنَّها أمورٌ بدهيةٌ في العقلِ، أنَّ الفعلَ لا بُدَّ له مِن فاعل، هذا بالضرورة، الأمورُ البَدهية مجمعٌ عليها بينَ العقلاء، فالإجماعُ متصوَّرٌ.
وكما ذكرَ المؤلِّف في [يوجد] أمورٌ مُجمَعٌ عليها إجماعاً ضرورياً قطعياً مثل كثيرٍ مِن الأحكامِ الشرعيَّة، كثيرة كثيرة جداً: وجوبُ أصول الإسلام، وجوبُ صيام رمضان، وجوب… دليلُه الكتابُ والسُّنة والإجماع، شوف [انظر] الصلوات الخمس دليلُها الكتاب والسنة والإجماع، الإجماع ضروريّ، وإلا فيه [يوجد] إجماعات تُذكر وهي ما هي.. غايتُها أنْ تدلَّ على أنه قولَ الأكثرية، ولهذا يقولُ شيخُ الإسلامِ أنَّ الإجماعَ الذي يَنضبطُ هو إجماعُ الصحابةِ رضي الله عنهم.
– القارئ: وإذا جازَ اتفاقُ اليهودِ -معَ كثرتِهــِم- على باطلٍ: فَلِمَ لا يجوزُ اتفاقُ أهلِ الحقِّ عليهِ.
ويُعرَفُ الإجماعُ بالأخبارِ، والـمُشَافَهةِ
– الشيخ: "يُعلم الإجماع" أيش؟
– القارئ: بــ "الأخبارِ"
– الشيخ: بــ "الأخبار" ولّا [أم] بــ "الإخبار"؟
– القارئ: بــ "الأخبار"، يقول
– الشيخ: طيّب كأنَّها "الإخبار"
– القارئ: إي نعم بالأدلة يعني، والـمُشافهة، كإجماعِ الصحابةِ على قتالِ مانعِي الزكاةِ، فإنَّ الذينَ يُعتبَرُ قولُهم في الإجماعِ: هم العلماءُ المجتهدونَ، وهم مُشْتَهرونَ مَعروفونَ، فيُمكنُ تَعَرُّفُ أقوالِهم مِن الآفاقِ.
والإجماعُ حجةٌ قاطعةٌ عندَ الجمهورِ.
وقالَ النَّظَامُ: ليسَ بحجةٍ.
وقالَ: "الإجماعُ: كلُّ قولٍ قامَتْ حُجَّتُهُ". ليَدفعَ عَن نفسِهِ شناعةَ قولِه، وهذا خلافُ اللُّغةِ والعُرْفِ.
ولنَا دليلانِ: أحدُهما: قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الآيةَ [النساء:115]، وهذا يُوجِبُ اتَّباعَ سبيلِ المؤمنين، ويُحرِّمَ مخالفتَهم.
فإنْ قيلَ: إنَّما تَوعَّدَ على مُشاقَّةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وتَرْكِ اتباعِ سبيلِ المؤمنينَ معًا، أو على تَرْكِ أحدِهما بشرطِ تركِ الآخرِ، فالتاركُ لأحدِهما بمفردِهِ لا يَلحقُ بِه الوعيدُ.
ومِن وجهٍ آخرَ: وهو إنَّما أَلْحَقَ الوعيدَ لتاركِ سبيلِهِم إذا بانَ لَه الحقُّ فيهِ؛ لقولِهِ تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى والحقُّ -في هذهِ المسألةِ- مِن جملةِ "الهُدَى" فيَدخلُ فيها.
ويُحتمَلُ: أنه تَوعَّدَ على تَرْكِ سبيلِهم فيما صارُوا بهِ مؤمنينَ.
ويُحتملُ: أنَّه أرادَ بالمؤمنينَ: جميعَ الأمةِ إلى قيامِ الساعةِ، فلا يَحصُلُ الإجماعُ بقولِ أهلِ عصرٍ.
– الشيخ: أيش يقول؟ الأخير.
– القارئ: ويُحتملُ: أنَّه أرادَ بالمؤمنينَ: جميعَ الأمةِ إلى قيامِ الساعةِ
– الشيخ: هذا اعتراضٌ ساقطٌ.
– القارئ: فلا يحصلُ الإجماعُ بقولِ أهلِ عصرٍ.
ولأنَّ المخالِفُ مِن جملةِ المؤمنين، فلا يكونُ تاركًا لاتِّباعِ سبيلِهم بأسرِهم.
ولو قُدِّرَ أنَّه لمْ يَرِدْ شيءٌ مِن ذلكَ، غيرَ أنه لا يَنقطعُ الاحتمالُ، والإجماعُ أصلٌ لا يَثبتٌ بالظنِّ.
قلنا: التوعُّدُ على الشيئينِ يَقتضي أنْ يكونَ الوعيدُ على كلِّ واحدٍ منهما منفردًا، أو بهما معًا.
ولا يجوزُ أنْ يكونَ لاحقًا بأحدِهما مُعيَّنًا، والآخرُ لا يَلحَقُ به وعيدٌ، كقولِ القائلِ: "مَنْ زنا أو شَرِبَ ماءً عُوقِبَ".
وهذا لا يَدخلُ في القسمِ الثاني؛ لأنَّ مُشاقَّةَ الرسولِ بمفردِها تَثبتُ العقوبةَ، فثَبتَ أنه مِن القسمِ الأولِ.
وأمَّا الثاني: فلا يصحُّ؛ فإنَّهُ تَوعَّدَ على اتِّباعِ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ مطلقًا مِن غيرِ شرطٍ.
وإنَّما ذكرَ تَبيّينَ الهُدى عَقِبَ قولِه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وليسَ بشرطٍ لإلحاقِ الوعيدِ على مشاقةِ الرسولِ اتفاقًا، فلَأنْ لا يكونَ شرطًا لتَركِ اتباعِ سبيلِ المؤمنينَ -معَ أنَّه لمْ يُذكرْ معَهُ- أولى.
وأمَّا الثالثُ: فنوعُ تأويلٍ، وحملُ اللفظِ على صورةٍ واحدةٍ.
الدليلُ الثاني مِن السُّنة، الدليلُ الثاني على الإجماعِ مِن السُّنة
– الشيخ: ذكروا مِن أدلة الإجماع قوله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى.. [النساء:59] فَعَلَّقَ الرَّدَّ إلى الكتابِ والسُّنةِ على النِّزاع، عُلِمَ أنَّ ما لمْ يَتنازعوا فيهِ فاتفاقُهم كَافٍ، وكذلك قوله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، فعُلِمَ أن ما لمْ يَختلفوا فيهِ فاتفاقُهم كافٍ، هذا مِن بعضِ ما استُدلَّ بهِ على الإجماع.
– القارئ: الدليلُ الثاني: من السُّنة:
قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمعُ أمتي على ضلالةٍ). وروي: (لا تجتمعُ على خطأٍ). وفي لفظٍ: (لمْ يكنِ اللهُ ليجمعَ هذه الأُمَّةَ على خطأٍ).
وقالَ: (ما رآهُ المسلمون حسنًا فهو عندَ اللهِ حسنٌ، وما رأوهُ قبيحًا فهو عندَ اللهِ قبيحٌ).
وقالَ: (مَن فارقَ الجماعة شبرًا فقدْ خلعَ رِبقَةِ الإسلامِ مِن عُنقِه)، و: (مَن فارقَ الجماعةَ ماتَ ميتةَ جاهليةٍ).
وقال: (عليكم بالسَّوادِ الأعظمِ).
وقال: (ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ المسلمِ: إخلاصُ العملِ للهِ، والـمُناصحةُ لولاةِ الأمرِ، ولزومُ جماعةِ المسلمين).
ونهى عَن الشذوذِ، وقالَ: (مَن شَذَّ شَذَّ في النَّار).
وقالَ: (لا تزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتي على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خذلَهم حتى يأتيَ أمرُ الله).
وقالَ: (مَن أرادَ بَحْبُوحةَ الجنةَ فليلزمِ الجماعةَ؛ فإنَّ الشيطانَ معَ الواحدِ وهو مِن الاثنينِ أبعدُ).
وهذهِ الأخبارُ لمْ تزلْ ظاهرةٌ مشهورةٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ، لمْ يَدفعْها أحدٌ مِن السَّلَفِ والخلفِ.
وهِي وإنْ لمْ يتواترْ آحادُها، حصلَ لنا بمجموعِها العلمَ الضروريَّ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عظَّمَ شأنَ هذه الأمةِ، وبيَّنَ عصمتَها عَن الخطأِ.
وبمثلِ ذلك نجدُ أنفسَنا مضطرينَ إلى تصديقِ شجاعةِ "عليٍّ" رضي الله عنه وسخاءِ "حاتمٍ" وعِلمِ "عائشة" رضي الله عنها، وإنْ لمْ يكنْ آحادُ الأخبارِ فيها متواترًا، بلْ يجوزُ على كلِّ واحدٍ منهما الكذب لو جرَّدْنا النظرَ إليهِ، ولا يجوزُ على المجموعِ.
ويُشبهُ ذلكَ: ما يَحصلُ فيهِ العلمُ بمجموعِ قَرائنِ آحادُها لا يَنفكُّ عَن الاحتمالِ، ويحصلُ بمجموعِها العِلم الضروريّ.
ومِن وجهٍ آخرَ، أنَّ هذه الأحاديثُ لمْ تَزلْ مشهورةً بينَ الصحابةِ والتابعينَ يَتمسَّكونَ بها في إثباتِ الإجماعِ، ولا يُظهِرُ فيهِ أحدٌ خلافًا إلى زمنِ النَّظَّامِ. ويستحيلُ في
– الشيخ: والله أن النظام ما يستاهل! أقولُ: ما يستاهل هذا الحشدَ، النظّامُ خالفَ الإجماع.
– القارئ: ويَستحيلُ في مُطَّردِ العادةِ ومُستقرِّها توافقُ الأُممِ في أعصارٍ مُطردةٍ على التسليمِ لَما لمْ تقمِ الحجةُ بصحتِهِ، معَ اختلافِ الطِبَاعِ، وتَباينُ المذاهبِ في الرَّدِّ والقبولِ.
ولذلكَ: لمْ ينفكَّ حكمٌ ثَبَتَ بأخبارِ الآحادِ عَن خلافِ مُخالفٍ، وإبداءِ تردُّدٍ فيهِ.
ومِن وجهٍ آخرَ:
وهو أنَّ المحتجين بهذهِ الأخبارِ أثْبَتُوا بها أصلًا مقطوعًا بِه وهو: الإجماعُ الذي يُحكَمُ على كتابِ الله وسُنةِ رسولِهِ.
ويستحيلُ في العادةِ التسليمُ بخبرٍ يرفعونَ به، الكتابُ المقطوعُ به إلا إذا استندَ إلى مُستَنَدٍ مقطوعٍ بِهِ.
أمَّا رفعُ المقطوعِ بما ليسَ بمقطوعٍ فليسَ معلومًا، حتى لا يَتعجَّبَ مُتعجِّبٌ، ولا يقولُ قائلٌ: كيفَ ترفعونَ الكتابَ القاطعَ بإجماعِ مُستَندُهُ إلى خبرٍ غيرِ معلومِ الصحةِ؟!
وكيفَ يَذهلُ عنه جميعُ الأمةِ إلى زمنِ النَّظَّامِ فيَختصُّ بالتنبُّهِ لَهُ؟ هذا وجهُ الاستدلالِ. فصل..
– الشيخ: أحسنتَ إلى هنا، نعم يا محمد.
– القارئ: مَن ينكرُ حجيةَ الاجماعِ رأساً كالنظَّام.. أقول: مَن ينكرُ حجيةَ الاجماعِ يقولُ: ليسَ للإجماعِ أصلٌ، هذا يُوجَدُ الآن.
– الشيخ: يوجد؟
– طالب: نعم
– الشيخ: لا، ما أظنُّ هذا، عندي: أنَّ مذهبَهُ مهجورٌ، إلا مِن أصحابِ الأهواءِ الذين يُعارضونَ الكتابَ والسُّنةَ فضلاً عَن الإجماعِ.
– القارئ: رسالةُ ابن حزمٍ في النُّبَذِ علَّقَ عليها المحقِّقُ وأنكرَ الإجماعَ في الأصل وحجيةَ الإجماعِ.
– الشيخ: مَن هو؟
– طالب: بعض المحققين الذي يحققون كتبَ الأصولِ.
– الشيخ: يمكن إنكار الإجماع، يعني: ليسَ كلُّ ما يُحكَى مِن الإجماعِ يكونُ اجماعاً
– طالب: لا، رأساً، يقول: ليسَ له أصلٌ الإجماعُ، نفس الإجماع، يقولُ: الأدلةُ هي الكتابُ والسنة.
– الشيخ: لا، هذا غلط..